إننا في حاجة ماسة إلى وقف طغيان أمريكا في أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها من الأوطان التي تخطط واشنطن لممارسة الطغيان عليها في المستقبل بحجة توفير الحرية والديمقراطية للناس بها، وهذا يستدعي العمل على منع واشنطن من التدخل في شؤون غيرها من الدول، بتوظيف سابقة الصين في مخاطبة أمريكا
يذكرنا ما جاء في خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم الخميس الماضي 02 يناير من عامنا الحالي 5002م، الذي قامت به مراسم تنصيبه بولاية ثانية عند أعلى «درج» الدخول إلى مبنى «الكابتول» «مقر البرلمان» في واشنطن بشقيه الشيوخ والنواب، الذي تعهد فيه بمحاربة الطغاة في الأرض من بداية ولايته الثانية يوم الجمعة الماضية 12 يناير من عامنا الحالي 5002م باستخدام قوة بلاده المفرطة، التي تعني «الطغيان الأمريكي» على الدنيا بأسرها في سبيل تحقيق الديمقراطية بين كل الأمم والشعوب ونشر الحرية بين كل الناس في داخل وخارج أمريكا.. الامبراطور الروماني نيرون، أحد أكبر الطغاة في التاريخ الإنساني، الذي أغلق كل أبواب روما على الناس، واشعل النار بها ليسعد بمشاهدة لهيب تلك النيران من فوق ربوة تطل على روما في أثناء عزفه لقيثارته المصحوبة بالغناء لخاصته، وعندما تمكن رجل من أهل روما الهروب من حصار النار، وطعن الامبراطور نيرون بخنجر مسموم، الذي أخذ يبكي بحرقة، ورد على من استنكر عليه من خاصته هذا البكاء عند مواجهة الموت الذي يتناقض مع شجاعته بقوله: إنه لا يبكي على موته الذي أصبح «قاب قوسين أو أدنى» وإنما يبكي حسرة على الناس جميعاً في الأرض من بعد موته لأنهم سيفتقدون من ينظم حياتهم ويهتم بحقوقهم ويضمن لهم حرياتهم، ونطق بمقولته المشهورة عند النزع الأخير قبل طلوع روحه من جسده «ماذا سيفعل الناس في الأرض بدون نيرون وبدون الامبراطورية الرومانية».
إن كلمة الرئيس الأمريكي جورج بوش في يوم مراسم تنصيبه لولاية ثانية، ردد مقولة الامبراطور الروماني نيرون بطريقة ملتوية «ماذا سيفعل الناس في الأرض بدون بوش وبدون الامبراطورية الأمريكية»، ورتب على ذلك في خطابه إعطاء واشنطون الحق المطلق في التدخل بشؤون غيرها من الدول لتحارب الطغيان في الأرض، بالطغيان الأمريكي الذي يجسده إلزام الحكومات المختلفة في كل الدول بالمسلك الديمقراطي الذي تصدره إليها أمريكا، وتقديم الحرية للناس جميعاً في الأرض تحت مظلة الاستعمار الأمريكي بتأكيده على أن مدافع الحرية الأمريكية ستصل بنيرانها إلى كل المناطق المظلمة في الأرض لتضيء بهذه «النيران العدوانية» الطريق الأمريكي للحرية وإذا جاءت الحرية للشعوب بهذا الفهم الأمريكي لهم لأصبحت في حقيقتها فرض العبودية على كل شعوب الأرض بانصياعها للإرادة الأمريكية، وهذه الحقيقة تظهر التناقض الفاضح الذي جاء في خطاب الرئيس جورج بوش، بين الافتراض بعدم وجود سادة وعبيد في الأرض، وبين الواقع الذي يجعل من أمريكا «السيد الأوحد بإخضاع كل دول العالم إلى العبودية لواشنطون».
سارعت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، للخروج من المأزق الذي يضع أمريكا في مواقع التناقض مع النفس بالقول البراق عن الحرية، والفعل المشين الذي يرسخ العبودية، إلى القول أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس، لقد انتهى عصر القوة بالعسكر، وبدأ عصر العقل بالدبلوماسية، عند التعامل مع مراكز الطغيان في العالم، ودحض هذا القول تصريح للرئيس جورج بوش من البيت الأبيض يؤكد فيه حتمية اللجوء إلى السلاح عند التعامل مع مراكز الطغيان في الأرض، ليهدد بذلك إيران من ضربة عسكرية قاضية ما لم تكشف عن برامجها النووية الرامية إلى صناعة السلاح النووي، وفسر هذا التهديد الأمريكي لإيران وزير الدفاع رونالد رامسفيلد بقوله من داخل البنتاجون بأن إسرائيل قد تضرب المواقع للصناعة النووية في إيران دون أن تطلب منها واشنطن ذلك بعد أن قام بتحديد تلك المواقع النووية في إيران رجال من قبل «السي إي ايه» الأمريكية، ورجال من قبل «الموساد» الإسرائيلية، وأنكرت واشنطن تجسسها على إيران حتى لا تصطدم بقرار الكونجرس الذي يحرم على وكالة المخابرات المركزية الأمريكية القيام بعمليات تجسس خاصة على الغير، خارج أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، واعترفت تل أبيب بدورها التجسسي في إيران لتثبت قدرتها على الوصول إلى كل الدول في منطقة الشرق الأوسط.
رد على هذا النفي الرسمي الأمريكي بالتجسس على إيران الصحافي الأمريكي سيمورهيرش، بتقريره الصحافي المنشور في مجلة نيويورك، الذي يؤكد فيه صدور قرار من الرئيس جورج بوش، يأمر به وحدات العمليات الخاصة في الجيش الأمريكي القيام بمهام تجسسية خاصة لا تقتصر على إيران وحدها، وإنما تشمل العديد من الدول في إقليمين الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وقال سيمورهيرش في تقريره الصحافي، إن البنتاجون سيقوم في مستهل الرئاسة الثانية للرئيس جورج بوش بهجوم عسكري على إيران بهدف تدمير قدرتها العسكرية النووية، وهو بذلك يكذب توقع وزير الدفاع رونالد رامسفيلد بانفراد إسرائيل في ضرب إيران، ويسفّه أقوال وزيرة الخارجية كونداليزا رايس أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس باتخاذ النهج الدبلوماسي الأمريكي مساراً في معالجة القضايا الدولية.
هذا التناقض الأمريكي بين نية واشنطن المبيتة في حمل السلاح لضرب الشعوب في كل بقاع الأرض، وبين دعوتها إلى عطاء الشعوب الحرية الكاملة في داخل كل الدول، قد فرغ خطاب الرئيس جورج بوش بمناسبة تجديد العهد له بولاية ثانية من كل الدلالات اللفظية عن الديمقراطية والحرية التي ضمنها مايكل جيرسون في خطاب الرئيس الذي كلفه البيت الأبيض بصياغته بحكم انتمائه إلى اليمين الأمريكي المتطرف، وتمتعه بالقدرة الفائقة على موازنة الأضداد باللغة المنمقة، غير أن ذلك لم يلغ الفهم الأوروبي لمضمون الخطاب السياسي الأمريكي، فأعلن المثقفون الأوروبيون بأنه إعلان الحرب الأمريكية على الناس جميعاً في الأرض حتى ينصاع كل أهل الأرض إلى ممارسة حياتهم العامة ومعيشتهم اليومية بأسلوب نمط الحياة الأمريكية.
زاد من قوة وخطورة هذا الرأي للمثقفين الأوروبيين في خطاب الرئيس جورج بوش بإعلان الحرب على العالم، التأييد لهذا الرأي الأوروبي من داخل الدهاليز السياسية في واشنطن، التي أثبتت بصورة قاطعة نية واشنطن في الحرب ضد العالم التي تتضح من القول «إن بقاء الحرية في أرضنا، يستند إلى نجاح الحرية في أراضي أخرى خارج الولايات المتحدة الأمريكية» التي أصبح من مسؤولياتها محاربة العالم في سبيل فرض هذه الحرية عند غيرها من الدول لتحافظ على الحرية القائمة بها ويدعم أصحاب هذا الرأي من الأمريكيين سماع طبول الحرب من بين عبارات الخطاب الأمريكي ومن التشكيل الجديد للإدارة الأمريكية لأن كل الزوار الجدد بها من الذين يؤمنون بجدوى حمل السلاح ويكفرون بمنطق الحوار في سبيل تحقيق أهداف أمريكا في الأرض يتضح من الموقف الأمريكي منذ «يوم النار في 11 سبتمبر من عام 1002م كما سماه في خطابه الرئيس جورج بوش، الخلط بين «السم والعسل»، وقدمت «العسل» في الماضي بمحاربة الإرهاب في الأرض، ودست «السم» بالعدوان على أفغانستان وبالاحتلال للعراق، وأقامت بهما مجازر بشرية لا تزال مستمرة حتى الآن وهي تدعو في الحاضر إلى سم جديد مخلوط بالعسل «السم» بمحاربة كل أهل الأرض و«العسل» بتحقيق الحرية للشعوب حتى في المناطق المظلمة من الأرض التي يسود فيها ظلم الطغاة للإنسان يقول العرب في مثل شعبي لهم «لا تقرصيني يا نحلة وما أبغى لك عسل».

إننا في حاجة ماسة إلى وقف طغيان أمريكا في أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها من الأوطان التي تخطط واشنطن لممارسة الطغيان عليها في المستقبل بحجة توفير الحرية والديمقراطية للناس بها، وهذا يستدعي العمل على منع واشنطن من التدخل في شؤون غيرها من الدول، بتوظيف سابقة الصين في مخاطبة أمريكا التي جسدها في يونيو من عام 8991م لقاء الرئيس جيانج زيمن في بكين بالرئيس بل كلينتون، الذي قال عند بدء الاجتماع إن الصين تعاني من غياب الديمقراطية وحرمان الناس من الحرية، فرد عليه الرئيس زيمن إنك تدس أنفك في ما لا يعنيك من شؤون الصين وخرج من الاجتماع وبعث إليه بمدير المراسم ليخبره بأن الرئيس زيمن لن يعود إلى الاجتماع معه مرة أخرى، وأنهم حجزوا له بأحد فنادق بكين بعد أن فقد حقه في الإقامة بقصر الضيافة لأنه لم يعد ضيفاً على الصين، وعند باب الفندق أخبره مندوب المراسم بأن الصين يتعذر عليها تقديم الحماية للرئيس الأمريكي وتتمنى عليه مغادرتها فوراً، فغادرها على الفور، وبعد هذه الواقعة لم تجرؤ أمريكا بالتطاول على الصين بمخاطبة بكين بما لا يليق. والعالم اليوم يحتاج إلى معاملة أمريكا بنفس أسلوب الصين حتى يمنع تدخل واشنطون في ما لا يعنيها من شؤون الأوطان والدول المختلفة.