عزة سامي: في خطاب تنصيبه لفترة ولاية ثانية‏,‏ استخدم الرئيس الأمريكي بوش كلمة الحرية والتحرر‏49‏ مرة والغريب حقا أن هذه الكلمات التي كانت حتي وقت قريب تعكس روح الحلم الأمريكي الذي كانت شعوب العالم المقهورة تتطلع اليه بشغف حقيقي‏,‏ أصبحت اليوم وبعد فترة ولاية بوش الثانية مجرد مفردات لأطماع أمريكا في اقامة امبراطوريتها العظمي علي حساب هوية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها بما يتوافق مع ثقافتها وتاريخها وعاداتها وتقاليدها‏.‏
ورغم كل محاولات بوش لإبعاد مثل هذه المخاوف والاعتقادات من خلال تأكيده أن الولايات المتحدة لاتفرض علي أحد نموذجها الديمقراطي وأنها ستترك للآخرين حرية اختيار نظمهم الديمقراطية بما يتراءي لها الا أن الواقع يشير الي أن الحلم الأمريكي لم يعد له معجبون الا من بين الشعب الأمريكي نفسه الذي ـ رغم كل الانتقادات والمشاعر العدائية التي جعلته يوم الحادي عشر من سبتمبر‏2001‏ يتساءل لماذا يكرهوننا ـ مازال علي اعتقاده الخاطيء بكونه النموذج الأمثل الذي يتوجب علي العالم اتباعه بل ومازال حتي اليوم مقتنعا بأن مهمته العظمي في هذه الحياة هي نشر هذا النموذج في أرجاء العالم‏.‏ فقد أظهر احصاء أجرته هيئة الاذاعة البريطانية البي بي سي أن‏71%‏ من الأمريكيين يرون ان الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة منبع الخير في العالم وأكثر من نصفهم يعتبرون اعادة انتخاب بوش عاملا ايجابيا بالنسبة للأمن العالمي في حين أظهرت دراسة أجريت أن‏70%‏ من الأمريكيين مازالوا مؤمنين بمؤسساتهم الداخلية في الوقت الذي أكد فيه‏80%‏ منهم أن النموذج الأمريكي يجب نشره في العالم اجمع‏.‏
ولكن اذا كانت هذه الاحصاءات تعكس ايمان الشعب الأمريكي القوي بمؤسساته ونظامه الديمقراطي وقيمه وأعرافه فان الاحصاءات التي أجريت في الدول الأخري بالأخص الدول الحليفة للولايات المتحدة قد أظهرت تنامي المشاعر العدائية تجاه مايعرف بالحلم الأمريكي الذي أصبح مؤخرا في نظر الغالبية العظمي من شعوب العالم كابوسا يجب الافاقة منه حيث يري‏77%‏ من الألمان و‏64%‏ من البريطانيين و‏82%‏ من الأتراك في اعادة انتخاب بوش تهديدا للسلام العالمي‏,‏ أما في العالم الاسلامي الذي يصل تعداده الي‏1,3‏ بليون نسمة فان عدد المؤيدين للولايات المتحدة لم يتعد الأرقام الفردية‏,‏ أما الذين يقفون في صف المؤيدين فهم فقط من ثلاث دول هي بولندا والفلبين والهند‏.‏
وهو مايعكس حقيقة أن الأمريكيين لم يستيقظوا بعد من غفوتهم لكي يدركوا الي أي مدي فقدت أمريكا صورتها المثالية التي كانت قد اكتسبتها خلال الحرب العالمية الثانية باعتبارها الحليف القوي القادر علي حماية أصدقائه والنموذج الأمثل للديمقراطية والحرية‏,‏ فحرب أفغانستان وغزو العراق بكل ماأحاط بهما من ظروف ومعطيات وماخلفاه من دمار وفوضي ومشاهد قتل وتعذيب وانتهاكات ضد الانسانية وحقوق الانسان جعلا الآخرين يفقدون والي الأبد هذا الشغف القديم بالحلم الأمريكي‏,‏ فالدول المقهورة ـ كما تشير مجلة النيوزويك ـ أصبح لديها الآن العديد من النماذج الديمقراطية التي تستطيع أن تحتذي بها بعيدا عن النظام الأمريكي الذي لم يعد يتناسب مع تطلعاتها سواء علي المستوي السياسي أو الاقتصادي‏.‏

ففيما مضي وحتي وقت قريب‏,‏ كان الدستور الأمريكي يعد في نظر العديد من الدول وثيقة تحمل في طياتها روح التجديد والتغيير بما تحتويه من أفكار جديدة من حرية الانتخابات والرقابة القضائية والنظام الفيدرالي وغيرها من الأمور التي كانت بمثابة ثورة علي مااعتاد عليه العالم من أفكار ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل كلا من ألمانيا واليابان ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ تتجهان نحو النظام الأمريكي لتستوحيا منه دستوريهما‏,‏ غير أن الوضع قد تغير الآن‏:‏ فعندما تحولت الدول الشرقية عن الشيوعية قررت أن تجعل من النظام البرلماني الأوروبي نموذجا لها‏,‏ ففي الديمقراطية الأمريكية يلعب المال دورا هاما في الفوز بالترشيح للمناصب السياسية الهامة وهو مايفتح الباب أمام الفساد أو علي الأقل التدخلات من جانب مراكز النفوذ بالاضافة الي ماتمارسه وسائل الإعلام خاصة التليفزيون في الحملات الانتخابية الأمريكية من خلال المناظرات والبرامج الإعلامية المدفوعة التي تتلاعب وتتحكم بصورة غير مباشرة في توجهات الناخبين وتؤثر علي اختياراتهم وأحقية المرشحين في الفوز بهذا المنصب أو ذاك‏.‏
أما فيما يتعلق بالنموذج الاقتصادي الأمريكي الذي استطاع أن يحقق من خلال سياسة السوق الحرة أعلي انتاجية وأعلي نسبة دخل قومي في العالم كله‏,‏ فان هذا لايعني أنه النظام الوحيد الذي يستحق أن يتبع‏,‏ فالصين تعد نموذجا اقتصاديا عالميا يستحق الدراسة والبحث خاصة اذا ماعلمنا أنه من المتوقع أن تصبح قوة اقتصادية أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية ـ أما النموذج الأوروبي ورغم كل الانتقادات التي يتعرض لها من حيث ارتفاع معدل الضرائب والقيود التي تفرضها الحكومات علي سوق العمل لتوفير الحماية للعمال‏,‏ فان هذا لايعني أن الأوروبيين الذين يعملون ساعات اقل من الأمريكيين أقل انتاجية وان كان ـ من المؤكد ـ أنهم أكثر سعادة من الأمريكيين المكبلين بالديون الائتمانية‏,‏ حتي إنهم لايجدون الوقت للاستمتاع بحياتهم وهو مايعبر عنه جورج مونبيوت أحد المثقفين البريطانيين المعروفين علي مستوي الحياة العامة بقوله ان النموذج الأمريكي قد أصبح اقرب الي كابوس منه الي حلم‏.‏