ليس أسهل من الطعن بالانتخابات تحت الاحتلال التي أمكن إنجازها في العراق أمس، بدءاً من موعدها مروراً بوظيفتها المحددة والمحدودة (مجلس نيابي لأقل من عام)، وانتهاء باعتمادها القوائم ذات الرؤوس والتي لا يعرف الناخب إلا قلة قليلة جداً من أصحاب الأسماء المعروفة المدرجة فيها بينما هو يعطي صوته لمئتين وخمسة وسبعين مرشحاً بعضهم لا يعرفهم حتى جيرانهم الأقربون.
وليس أسهل من تسفيه المبالغة المتمثلة في الادعاء بأن هذه العملية الانتخابية التي أجريت (تحت النار) ستنجب lt;lt;عراقاً جديداًgt;gt;، وستمكّن العراقيين الذين قمعوا طويلاً، بالمجازر الجماعية وبالقتل على مدار الساعة، من تجاوز المخاطر الفعلية للانقسام (المعلنة أسبابه) والذي قد يؤدي إلى تفتيت الكيان وتمزيق الشعب طوائف ومذاهب وأعراقاً مصطرعة، تتبادل الاتهامات بالخيانة والانفصالية واغتيال العراق.. القديم!
على أن الأمانة تقضي بعدم التهوين من شأن المكسب السياسي الذي تحقق للاحتلال الأميركي، بخسائر تكاد لا تذكر، حتى لو وضعنا جانباً كل المبالغات (المتوقعة) في نسبة الإقبال وحجم المشاركة في مختلف المناطق، وقد شملت الحملة الدعائية مدينة الفلوجة ولو بشيء من التحفظ في أرقام الناخبين الذين كان عليهم أن يقترعوا تحت الرقابة الديموقراطية لجنود الاحتلال الأميركي مباشرة.
وكان طبيعياً أن يطل الرئيس الأميركي على العالم، قبل إقفال مراكز الاقتراع، متباهياً بهذا lt;lt;الإنجاز التاريخيgt;gt;، ومؤكداً أن الاحتلال هو أقصر الطرق إلى الديموقراطية... لا سيما في الدول الإسلامية عامة والعربية على وجه الخصوص.
صارت الدبابة صندوقة اقتراع مقبولة لمن حُرم من إثبات وجوده (الإنساني) على امتداد عقود، فضلاً عن أن يكون له رأي في كل ما يقرر له، بما في ذلك حياته أو موته في جبهة قتال بأهداف مزوّرة، ناهيك بأن يكون من حقه بأن يقول lt;lt;لاgt;gt; لأي قرار يتخذه حاكمه الإله الفرد والأبدي..
وصحيح أن هذه الانتخابات التي لن تبدّل كثيراً في واقع lt;lt;العراق تحت الاحتلالgt;gt; قد تعمّق الشرخ داخل المجتمع العراقي الذي كان الطغيان قد قطّع أوصاله ودمر بالقمع قواه الحية وشرّد نخبه في أربع رياح الأرض، إلا أنها ستظل بالنسبة للعراقيين تطوراً نوعياً يستحضرهم في عملية من طبيعة سياسية، هم الذين حرموا من ممارسة العمل السياسي دهراً حتى نسوا أولياته..
والاحتلال قضية سياسية، في الأصل، وإن كانت الطائرات والدبابات والصواريخ عابرة القارات أدواته... وذرائعه المرفوضة، كانت سياسية، وإجلاؤه عن أرض الرافدين قضية سياسية، أولاً وأخيراً، حتى وإن اعتمدت المقاومة بالسلاح أسلوباً.
والمناقشة تتركز حول النتائج السياسية لهذه العملية الانتخابية، وهل هي تعالج الشرخ الذي أصاب المجتمع العراقي أم هي تزيد من مخاطره بحيث تغدو الانتخابات مجرد عملية ترقيع تكشف هزال lt;lt;الديموقراطيةgt;gt; لا سيما حين lt;lt;تمنحgt;gt; منفصلة أو مقطوعة الصلة بالهموم الوطنية وأولها السيادة والاستقلال وحرية الاختيار والاطمئنان إلى وحدة الأرض والشعب.
وبديهي أن معادلة من نوع lt;lt;العراق تحت الاحتلال والعراقيين أحرارgt;gt; لا يمكن أن تستقيم، فقبل الانتخابات كما بعدها سيظل lt;lt;الجنرال المدنيgt;gt; نيغروبونتي هو الحاكم الفعلي المطلق للعراق، قراره هو القرار في الانتخابات كما في الدستور، وفي طبيعة النظام كما في أشخاص الذين لا يحكمون مهما تمّ تفخيم ألقابهم، وتوسيع المساحة لهم في صورة أصحاب القرار.
وما قيمة الانتخابات، كفعل ديموقراطي، إذا كان الوعد الأساسي الذي أطلق لتزكيتها بأنها ستكون المقدمة أو التمهيد العملي لمؤتمر وطني يتولى إنجاز المصالحة الوطنية العامة؟!
يقول جورج بوش المبهور بإنجازه العراقي: إننا قادرون على التحدي، وإن العراقيين قد رفضوا الإيديولوجية المعادية للديموقراطية (... وهي الديموقراطية التي كلفتهم سقوط وطنهم تحت الاحتلال)...
أما وزيرته كونداليسا رايس التي خاطبت الأميركيين بلغة رسولية عند تسلمها منصبها lt;lt;أتوسل إليكم أن تدركوا أنه وقت ينادينا فيه التاريخgt;gt;، فقد كانت أكثر تحفظاً من رئيسها، إذ بعدما نوّهت بأن lt;lt;الانتخابات تمثل بزوغاً لصوت الحرية في العراقgt;gt; فقد استدركت فقالت إن المستقبل يحمل في طياته الكثير من الصعاب.
وأما كوفي أنان الذي كاد موقفه يكلفه منصبه فقد اكتفى بالقول إن الانتخابات هي الخطوة الأولى ودعا إلى مساعدة العراقيين على الإمساك بزمام مستقبلهم؟!. وبالطبع فلا أحد يعرف إلى من يتوجه الأمين العام للأمم المتحدة في طلب مثل هذه المساعدة..
ماذا عن العرب؟!
لقد شاركت حكوماتهم عموماً في lt;lt;تغطيةgt;gt; هذه الانتخابات بحماسة تزيد عن حماسة lt;lt;الناخبينgt;gt; العراقيين... وتولت تسويقها، وكرّس العديد منها المحطات الأرضية والفضائية للترويج لها، كما أن صحفها قد تولت بالأجر أحياناً وبالتبرع في غالب الأحيان تصويرها كأنها فتح جديد في عالم lt;lt;الديموقراطيةgt;gt;، (وهو، على أي حال، عالم لا تعرف عنه هذه الحكومات الكثير).
كانت lt;lt;تصوّتgt;gt; للإدارة الأميركية، وكان نفاقها يقتضي سحب مختلف التحفظات، وبلع حكاية lt;lt;الهلال الشيعيgt;gt;، وسد الآذان عن سماع مطالب المعترضين من العراقيين، لا سيما أولئك الذين كانوا يحاولون الربط بين الانتخابات وتحديد أجل للاحتلال الأميركي.
... وغداً حين سيجيء عليها الدور في lt;lt;تمكينgt;gt; شعوبها من ممارسة حقوقهم الديموقراطية، رئاسية كانت أم نيابية أم حتى بلدية، ستكتشف هذه الحكومات أن نفاقها لن يجديها نفعاً، وستترك للإدارة الأميركية شرف أن تبدو كأنها أحرص على حقوق الإنسان العربي من حكوماته، وهذا من شأنه أن يكلفها كثيراً!.. ولكنها تفترض دائماً أنها قادرة على lt;lt;تنظيمgt;gt; الانتخابات بحيث تكون في شكلها مرضية للأميركي بينما مضمونها لا يفعل غير تثبيت سلطتها.. الأبدية!
لقط أعطى طاغية مثل صدام حسين الاحتلال الأميركي للعراق فرصة أن يبدو كأنه حمل إلى العراقيين الشعور بأنهم lt;lt;مواطنونgt;gt; وبأنهم lt;lt;أصحاب حق في أن يقولوا آراءهم في من يحكمهمgt;gt;.
وها هم نظراء صدام حسين، ومن موقع الخصومة معه أو من موقع اعتباره lt;lt;بطل القادسيةgt;gt; يمنحون الاحتلال الأميركي تزكية أخرى، لا يستحقها، حين يساعدون في إظهاره كأنه أكثر رأفة بشعوبهم منهم، إذ هو يمنح lt;lt;المواطنينgt;gt; فرصة التعبير عن آرائهم علناً، حتى بالاعتراض على وجوده (الذي لن يتأثر كثيراً بهذه الآراء)... بل لعله بهذه اللعبة الديموقراطية قد أنساهم، ولو إلى حين، أنه قد احتل بلادهم بالاجتياح العسكري، وأنه سيظل يتحكّم بأقدارهم (فضلاً عن ثروات بلادهم) إلى أجل غير معلوم، وأن الديموقراطية يمكن استخدامها أيضاً حلية تزيينية لصدر المحتل.