يتسم النظام السياسي في دولة الإمارات بالتركيبة الدستورية الاتحادية للدولة، والتي تنتج بشكل أساسي ثنائية في مستوى الحكومة، بحيث يمكن التمييز بين الحكومة الاتحادية من جهة، والحكومات المحلية للإمارات السبع من جهة أخرى. ولا تخلو هذه الترتيبات الاتحادية من جميع صور علاقات التعاون والتوتر، والتنافس والتنسيق، تماماً كما هو الحال في كافة دول العالم التي تتبنى النهج الاتحادي في صورته الحقيقية. إن من شأن هذه الثنائية المتمثلة في المستويات الحكومية الاتحادية والمحلية أن تصنع حالة مزمنة من شعور المواطنين بازدواجية نطاق السلطات التي يعيشون من خلالها، فهم يتقلبون في كنف المستويين الحكوميين من حيث توجهات الولاء وكذلك اعتبارات الحقوق والالتزامات والواجبات، كما تمتد هذه الثنائية لتشمل اختصاصات قطاعات السياسات العامة المختلفة، والتي تعنى بتقديم الخدمات التي يحتاج إليها أي مجتمع، مثل التعليم والصحة والإسكان وتنشيط الاقتصاد والأمن والنظام الداخليين.
يحمد لدولة الإمارات توافر العلاقة المثمرة والمستقرة التي تربط بين المواطنين من جهة، والمستويين الحكوميين الاتحادي والمحلي من جهة أخرى، والتي تتصف بأنها بعيدة إلى حد كبير من ممارسات الاستبداد السلطوي في صورته المقيتة. ويعود الفضل في تخلص المواطنين والقاطنين في دولة الإمارات من مصير الوقوع تحت وطأة الثقل الكامل للسلطة الحكومية المطلقة للدولة بأكملها إلى التركيبة الاتحادية في الدولة، والتي أسهمت منذ قيام الاتحاد في تجزئة السلطة وأدوات النفوذ والتدخل المتوافرة في الدولة بشكل عام إلى مستويين حكوميين، وذهبت إلى أبعد من ذلك عندما عمدت إلى تجزئة المستوى المحلي إلى سبعة أجزاء متفاوتة في الإمكانات والموارد.
من الصعب تصور أن تسود السلطوية المستبدة في ظل أنظمة الحكم الاتحادي حتى في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية كالانتخابات مثلاً، إذ إن الانحراف نحو التسلط سوف يتطلب توافقاً وانسجاماً بعيدي الاحتمال في التوجهات والممارسات السلطوية بين كل من الحكومات المحلية المختلفة، وكذلك بين الحكومات المحلية والحكومة الاتحادية. وبالتالي يمكن القول إن البنية الاتحادية لدولة الإمارات تسهم في صنع حالة إجمالية من الرضا لدى شعب الإمارات تجاه مستويات الحرية والتنوع والفرص المتاحة، قد لا يمكن توافرها في ظل أنظمة الدولة الموحدة. وعلى الرغم من أن أياً من الحكومة الاتحادية أو الحكومات المحلية لا تنفرد في تقرير السياسات العامة كافة أو التأثير في مستويات معيشة المواطنين والساكنين في دولة الإمارات، الأمر الذي يخفض بشكل حاسم من الاعتبارات السلطوية التي يمكن أن تقع على كاهل الأفراد، فإن ثمة مجالا حقيقيا للحديث عن إمكانية النظر في سبل تعزيز البنية الاتحادية للدولة من جهة، وتفعيل أداء قطاعات السياسة العامة التي تقدمها الحكومة الاتحادية من جهة أخرى، خاصة في ضوء نجاح بعض الحكومات المحلية في تطوير أدائها الحكومي إلى درجة أنها أصبحت تتفوق على القطاع الاتحادي.
بعبارة أخرى، هناك جملة من الأولويات الاتحادية التي يجب أن تلقى عناية فائقة خلال العقد الرابع من عمر الدولة. ولاتزال الإمارات تعتبر دولة فتية وفق معظم الاعتبارات والمقاييس، ولذلك فإننا سوف نحدد الحديث عن هذه الأولويات في نطاق تلك المتعلقة بما يمكن تسميته بأزمات بناء الدولة، والتي يتعين على جميع دول العالم المرور من خلالها، والنجاح في معالجتها بشكل متزامن، وذلك لأن كلاً من الأزمات تعتبر بمثابة عنق زجاجة وتمثل مرحلة حرجة من عمليات بناء الدولة.
* أزمة الهوية الوطنية: تعتبر هذه من أولى المسائل التي تعنى بها دول العالم، إذ لا يمكن أن نعرف ماذا يريد الشعب قبل أن نعرف من هو هذا الشعب. ويبدو أن شعب الإمارات لم يأخذ فرصته الحقيقية والكاملة من أجل بلورة هويته الوطنية بصورة متماسكة، إذ إن بداية التدفق الهائل للثقافات الأجنبية صاحبت بداية تشكيل الدولة في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ولذلك وجد أبناء شعب الإمارات أنفسهم في تنافس قوي مع ثقافات وافدة، وقد جلب كل منهم هويته الوطنية الواضحة، وكانت نتيجة هذه المواجهة غير المنصفة بين الهوية الوطنية الإماراتية الناشئة وأنظمة الهوية الوطنية الهائلة من حيث العدد والأقدمية التي وفدت من الخارج أن رأينا التنازلات التي اضطر المواطنون إلى تقديمها في صورة سلامة اللغة المستخدمة في الحديث مع الآسيويين مثلاً، وأيضاً في جانب من العادات الدخيلة التي انتشرت في مجتمعنا المحلي.
ولا شك أن التركيبة السكانية غير الطبيعية في دولة الإمارات والتي بات معها الحديث عن “الجالية المواطنة في الإمارات” أمراً مريراً ينذر بالمزيد من التدهور على صعيد الهوية الوطنية، ولا ينبغي أن يتم توظيف الفهم المغلوط للعولمة كتبرير يائس للاستمرار في التهاون والتدهور في التركيبة السكانية والهوية الوطنية. إن كلاً من سلامة البنية المؤسسية للدولة، وكذلك جدوى كافة خدمات السياسة العامة التي تقدمها الحكومة الاتحادية مرتبطة بشكل أساسي بقوة ووضوح وتماسك الهوية الوطنية، والتي يتعين على الحكومة الاتحادية العمل على صيانتها وحمايتها بكل الوسائل الممكنة بوصفها أولوية كبرى.
* أزمة بناء المؤسسات: لقد قطعت دولة الإمارات شوطاً لا يستهان به في إقامة هياكل السلطة الاتحادية في الفروع التنفيذية والقضائية والاستشارية، ولكن يتعين إدراك أن مظاهر الحيوية والتطور اللذين تشهدهما الهياكل والمؤسسات في بعض الحكومات المحلية قد أضحت تنذر بأن يتجاوز المستوى الحكومي المحلي نظيره الاتحادي، وذلك في اعتبارات متانة البنية المؤسسية من جهة، وفاعلية الأداء المؤسسي من جهة أخرى، ولا يتسع المجال لكي نخوض في جميع أوجه بناء المؤسسات التي يمكن أن تبادر الحكومة الاتحادية إلى معالجتها إذ إن الكثير قد كتب في هذا المجال، ولكن يمكننا أن نقتصر على تأكيد أهمية أن يتخطى الجانب التشريعي بعناية سريعة، وذلك حتى يتمكن المجلس الوطني الاتحادي في الدولة من أن يلحق بالقفزات الكبيرة التي حققها نظراؤه في دول مجلس التعاون الخليجي.
إن العديد من المجالس التشريعية الخليجية تتفوق على مجلسنا الوطني العتيد من حيث عدد الأعضاء، وحسن تمثيلها للفئات الاجتماعية الحديثة التي أنتجتها جهود التنمية في المجالات التعليمية والعلمية، وفي ضمها العناصر النسائية بصفتها جزءاً لا يتجزأ من المجتمع وقضاياه، وفي اتباع أسلوب الانتخاب الدوري لتشكيل عضويته.
لقد تنوعت وتشابكت مجالات صنع السياسات في دولتنا الاتحادية الحديثة، ولا يعقل أن تدخل الإمارات القرن الحادي والعشرين بدون جهاز تشريعي اتحادي فاعل يمكن تمييزه عن السلطة التنفيذية، ويمتلك العدد المناسب من الأعضاء الذين يمتلكون بدورهم المؤهلات والصلاحيات التشريعية والاستشارية الكافية. إن الأولوية الاتحادية في هذا الصدد تتمثل على أقل تقدير في العمل على أن يتمتع هذا المجلس بكل الإمكانات والموارد البشرية المؤهلة في مجالات جمع المعلومات وإجراء البحوث والدراسات الرصينة والتي تمكنه من أن يلعب الدور الحقيقي في التشريع والاستشارة والرقابة والمساءلة بحيث يتمكن من مواكبة التنوع والعمق اللذين يتسم بهما أداء الوزارات الاتحادية المختلفة.
* أزمة التدخل: ويقصد بها بشكل إجمالي السياسات العامة التي ترسمها وتنفذها الحكومة الاتحادية من أجل تلبية احتياجات المجتمع، أو معالجة مشكلاته، أو تلبية مطالبه المستجدة، إن ثمة عناصر في السياسات العامة موجودة على الأجندة الاتحادية في الإمارات، وذلك شأن كل دول العالم التي يتعين عليها أن تدرس أوجه سياساتها العامة وتتخذ القرارات المناسبة فيها. ويحمد للحكومة الاتحادية المبادرة التي اتخذها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة الشهر الماضي، وذلك حين أمر بتخصيص نحو مليار ونصف المليار درهم من أجل المسارعة إلى تلبية احتياجات المناطق النائية في الدولة.
وهناك جملة من المطالب لاتزال تراوح مكانها في الدولة وتشمل مسألة توفير السكن المناسب للقطاعات المواطنة في الدولة، وترقية الرواتب والأجور التي طالما اتسمت بالجمود خلال العقود الماضية والعمل للسيطرة على الغلاء المعيشي الذي بات يلتهم النصيب الأكبر من دخول الأفراد والأسر والارتقاء بالخدمات التعليمية في القطاع الحكومي الاتحادي بعد أن بات التعليم الخاص يشكل عنصراً جاذباً كبديل للتعليم العام الذي لا يحظى بتقدير كبير لدى المواطنين.
إن دراسة ومعالجة هذه المسائل الخدمية وغيرها بوصفها جوانب من السياسة العامة في الدولة تشكل في مجملها أولوية اتحادية ينبغي العمل على المبادرة إلى الاستجابة لها.