«روبرت دينيرو»، «آل باتشينو» نجمان كبيران و لا مراء في ذلك، شعبيتهما الطاغية، و أفلامهما التي لا تزال حاضرة في أذهان عشاق السينما هي الدليل الأبلغ على ذلك. و رغم أنهما بدآ سوياً مرحلة الإبداع و التألق منذ بداية السبعينات، و لا يزال مدد إبداعهما دفاقاً مستمراً، و رغم اتفاق الكثيرين على أنهما نجمان استثنائيان في تاريخ السينما - بالمشاركة مع عرّابهما «مارلون براندو» -، رغم كل ذلك، إلا أن عشاق هذين النجمين حول العالم لا يزالون يتصارعون فيما بينهم حول قضية أيهما الأفضل - دينيرو - أم - باتشينو -. هو صراع تجده في كل ميدان من ميادين السينما، سواء في المواقع الإلكترونية التي تعنى بالشأن السينمائي، أو عبر الفضائيات السينمائية، أو حتى محلات الفيديو، و الأمر شبيه بالتنافس التقليدي المعروف بين أندية كرة القدم - كالهلال و النصر - فهو ديربي مستمر و متواصل، يشتد و تزداد حدته مع كل فيلم جديد لأحدهما. و الساحة السعودية، من خلال متابعي الأفلام فيها، لها صلة بهذا الصراع، إذ تلمس هذا الخلاف بوضوح في منتديات الإنترنت السينمائية التي يتوزع أعضاؤها دائماً ما بين مؤيد لدينيرو و مؤيد لباتشينو.هذا التنافس المحموم بين عشاق النجمين، دائماً ما يتخذ من العاطفة غلافاً له، حيث ينطلق المؤيدون و الرافضون لهذا النجم أو ذاك من منطلق عاطفي لا يمكن الاعتماد عليه في تغليب كفة أحدهما على الآخر، و كما يقال «لا حكم أبداً للأذواق»، و الرأي الذاتي و الانطباع لا يمكن أن تجلو الحقيقة من خلالهما. لكن - رغم هذا - تبقى هناك بعض الآراء المتزنة التي تحاول طرح المقارنة بشكل موضوعي لا ينحاز لكفة على حساب الأخرى، إنما ينظر بتأمل إلى تاريخ النجمين، و إلى الأدوار التي قاموا بها، و الأهم إلى تاريخهما مع الجوائز، و بالذات مع الأوسكار. و مثل هذه النظرة الواعية هي الأجدر بالأخذ و الدراسة، و هي التي سترافقنا في مقالنا هذا.

و لا شك ابتداءً أن هذين النجمين يتمتعان بتلك الجاذبية التي سحرت عشاقهما، تلك التي تجعل من أي شيء يفعلانه أو يقولانه شيئاً جميلاً، و هنا لن يكون الحديث عن سبب إعجاب كل فريق بنجمه، فالأمر هنا واضح و جلي و سيكون الكلام فيه و حوله مجرد سفسطة ليس إلا. إذن فالحديث سيتركز على المآخذ التي يحملها كل فريق على الآخر، و لنبدأ أولاً بعشاق «آل باتشينو» الذين ينقدون على «دينيرو» عدم تنويعه لأدواره، حيث يرون أنه لا يزال أسيراً لأجواء الجريمة و المجرمين، و لا يكاد يخرج من هذا الإطار إلا فيما ندر، كما ينقدون عليه ميله الواضح في السنوات الأخيرة إلى الأفلام التجارية الرخيصة و هو ما يعزونه إلى طغيان الفكر المادي عليه و إلى بحثه الحثيث عن المال. أما « آل باتشينو » فإن عشاق «دينيرو» يوجهون له تهماً شبيهة، حيث يحملون عليه تكراره لأدواره و أنها دائماً ما تدور في فلك واحد هو الجريمة، و يزيدون على ذلك بتهمة أخرى و هي أن «آل» يميل دائماً إلى «الصراخ» في كثير من أدواره.


إذن هذه هي التهم، و هي بصفة عامة تتمحور حول «عدم التنويع في الأدوار» بالنسبة للاثنين، و «المشاركة في أفلام هابطة» بالنسبة لدينيرو، و «الصراخ» بالنسبة ل«آل باتشينو. أما و بالنسبة لمسألة عدم التنويع في الأدوار، فكما قلنا إن العاطفة ربما تعمي العقل عن التبصر في حقيقة الأمر، ذلك أن النجمين حين تنظر بعمق لتاريخهما ستجد أنهما قد نوعا - كثيراً - في أدوارهما، و لنبدأ بدينيرو و نستعرض تاريخه بشكل سريع، حيث نلحظ أنه كان فعلاً «مجرماً» لكن في بعض الأدوار و ليس الكل، فهو قد أدى دور المجرم في الفيلم الرائع HEAT و كذلك في فيلم (رفقة طيبون GoodFellas)، و البعض يرى في دوره الخالد في فيلم «سائق التاكسي» ملمحاً من ملامح الجريمة، لكن و على أي حال فهذه الأدوار رغم أنها تدور في فلك الجريمة إلا أن أياً منها لا يتشابه مع الآخر فطريقة تناول كل واحد منها مختلفة أشد الاختلاف. و هذه ربما تكون الأدوار الأوضح في تاريخ »دينيرو« مع الجريمة، و هي ثلاثة من أصل أكثر من ستين دوراً، و بقية الأدوار حين تنظر لها فستجد أنها أبعد ما تكون عن الجريمة، و خذ مثلاً في ذلك دوره الأسطوري في فيلم «الثور الهائج» و دوره الرائع في فيلم «اليقظة» و اللذين كانا دورين نفسيين بعيدين تماماً عن الجريمة و أجوائها، و هما من أبرز أدواره، بالإضافة إلى دوره في الفيلم الحربي الخالد «صائد الغزلان»، و عليه و بالاستناد إلى ذلك كله، يؤكد النجم «دينيرو» أنه من أكثر الفنانين تنوعاً و شمولاً. الآن نأتي ل«آل باتشينو» و لنأخذ جولة على أدواره، سنلاحظ أنه هو الآخر قد نوّع و غيّر في أدواره ما بين شخصية «كورليوني» الهادئة في العرّاب، و شخصية «توني مونتانا» الصاخبة المنفلتة في «سكارفيس»، و شخصيته المكسورة في «دوني براسكو»، و كذلك الرومانسي في «فرانكي و جوني»، دوره في «عطر امرأة»، و دوره كمدرب في فيلم «أني غيفين صندي»، و دور الزوج في « Author Author »، و دوره الكوميدي في فيلم «العدالة للجميع»، إذن هو الآخر كان متنوعاً. عموماً و على أية حال أنا لا أرى في مسألة «عدم التغيير و التنويع في الأدوار» أية مشكلة، و بالعكس اعتبرها ميزة و خاصية يتمتع بها عدد من النجوم الذين يعون و يدركون حجم إمكانياتهم و بالتالي يسيرون وفق المتاح و يستغلونه أقصى حدود الاستغلال، و هم يتعمدون عدم التغيير لعلمهم أنهم ربما لن ينجحوا في بقية الأدوار، و هذا ذكاء. و النجم العجوز «كلينت إيستوود» يأتي كأبرز الأمثلة على ذلك، حيث لا تزال أدواره محدودة بإطار البطل الهادئ الحكيم، و لأنه بارع في هذا الدور فإن الجمهور لا يطالبه إلا بها، و بالعكس ربما يمتعض جمهوره لو حاول «كلينت» التغيير. و هذا ينطبق أيضاً على النجم الساخر «وودي ألان» الذي لا يتغير أبداً، و أنا واثق أنه لو حاول أن يبدو جاداً - مثلاً - فإنه لن ينجح لسبب وحيد أنه «وودي ألان» الذي لا يليق إلا للعفوية و التهكم و السخرية.


هذا فيما يتعلق بتهمة التنويع، أما التهمة الأخرى الموجهة ضد دينيرو وحده و هي سعيه الواضح و الصريح نحو المادة و تجاهله للقيمة الفنية في مشواره الأخير مع السينما، فهي تهمة لا يمكن نفيها أبداً، و أدواره الأخيرة لا تعطي مجالاً لعشاقه لأن يدافعوا عنه، و إلا ما هو الدافع وراء مشاركته في أفلام سيئة مثل «رجال الشرف» و «15 دقيقة» غير البحث عن المال؟ و عليه، فالتهمة صحيحة و لا جناية فيها. أما التهمة الأخرى ل«آل باتشينو» بأنه دائم الصراخ في أفلامه، فهي نوعاً ما صحيحة و لا يمكن نفيها بهذه البساطة. إذن هذه محاور الصراع بين عشاق النجمين، و رغم حرارة الصراع و احتدامه إلا أن كلا طرفي النزاع، عشاق النجمين، لا ينكرون نجومية و موهبة «دينيرو» و رفيق دربه «آل باتشينو»، و لا يزالون ينظرون إليهما كنجمين ساهما بفعالية في توطيد و تثبيت أركان موجة الواقعية التي اجتاحت هوليود مطلع سبعينات القرن الماضي.. و لا يزال أثرها ماضياً حتى هذه اللحظة..