عندما فاز الإسلامويون في الانتخابات البلدية في كل من الرياض والمنطقة الشرقية من السعودية، فرح البعض غاية الفرح على أساس أن الشعب قال كلمته، وكلمته كانت رفضاً لكل تيار لا يستند في شرعيته إلى الخطاب الديني، ولا بد بعد ذلك أن يصمت من كانوا يتحدثون عن الأغلبية الصامتة الرافضة للخطاب الديني المؤدلج. وعلى الطرف الآخر، كان هنالك من ساءته النتائج، بل وكان غاية في الإحباط، على اعتبار أن الخطاب الديني المؤدلج ما زال هو الخطاب السائد، رغم محاولات التغيير والتنوير.

بل إن البعض من هؤلاء بدأ يتحدث عن عدم جدوى ممارسة الديمقراطية في منطقة مثل منطقتنا بشكل عام، ما دام كان الخطاب السائد والمهيمن على عقول الجماهير هو خطاب ديني مسيس لأغراض ليست بالضرورة أن تكون جزءاً من فضاء الدين نفسه. فجماهيرنا، وفقاً لهذه النظرة، ما زالت أسيرة الشعارات الملتهبة، والايديولوجيا المضللة، وفوق ذلك كله، ما زالت أسيرة خطاب ديني مغرق في أحاديته وإلهابه لمشاعر جماهير غير قادرة على التفرقة بين ما هو غث وما هو سمين.

وعلى ذلك، فإن الديمقراطية وما تعنيه من انتخابات وحرية في الاختيار، لا تعني أكثر من تجذر مثل هذا الخطاب، وتحوله إلى مؤسسات تتخذ القرار، وهو ما لا يراد في مثل هذه المرحلة، فحرية الاختيار لا تكون محمودة حين يكون المختار غير قادر على الاختيار، مادام كان أسير مقولات خطاب لا يعترف بالاختيار، ولا تعني له الحرية شيئاً. وعلى ذلك فإن بقاء الحال على ما هو عليه أفضل من تغير كان مرتقباً، فإذا به صار ممقوتاً.

ورغم أني أتفق مع وجهة النظر هذه من حيث وضع مجتمعاتنا، والخطاب المهيمن على أفئدتها، إلا أني أختلف مع النتيجة، فيما يخص الديمقراطية وممارستها، وإن كان ذلك في أضيق الحدود.

فقد كان من المتوقع أن يفوز الإسلامويون في الانتخابات البلدية السعودية، والفوز في بلاد أخرى أيضاً، فهم من ينتج ويهيمن على الخطاب السائد، وهم الأكثر تنظيماً في مجال العمل السياسي، وفوزهم نتيجة طيبة في المدى الطويل، تصب في صالح الممارسة الديمقراطية ذاتها. فالانتخابات، بصفتها آلية من آليات الممارسة الديمقراطية، تعني فيما تعني «دوران النخب»، أي أن الفائز اليوم ليس من الضروري أن يكون هو الفائز غداً.

ومن فاز اليوم عليه أن يُخلي مكانه لمن اختاره من وضعوه في هذا المكان ابتداءً، وإلا فإنه حين مارس الديمقراطية ودخل في لعبتها لم يكن مؤمناً بها بقدر ما كان مستغلاً لها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الفوز في انتخابات ما يعني البداية قبل أن يعني النهاية. فالشعارات المرفوعة ماضياً أصبحت على المحك حاضراً، وبالتالي إذا كانت الجماهير المأسورة بمقولات وشعارات خطاب معين قد انقادت لمن يرفعون تلك الشعارات، فإن ذات الجماهير سوف تحكم في النهاية على تلك الشعارات وأصحابها من خلال ما يتم إنجازه وتحقيقه على أرض الواقع.

فليس بالشعار أو الخطاب وحده يحيا الإنسان في خاتمة المطاف. وبالتالي فإن وصول أصحاب خطاب ما إلى مواقع القرار الفعلي، هو اختبار عملي لمدى صحة وعملية مقولاتهم وشعاراتهم، وهذا بحد ذاته يمكن أن يُنظر إليه كفعل تنويري، وبداية وعي حقيقي، وإن كان بشكل غير مباشر، فالديمقراطية في النهاية فعل وممارسة، وليست مجرد خطاب قد يُقنع وقد لا يُقنع، وفي الممارسة يكمن الوعي وينبثق الجديد.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ممارسة آلية من آليات الديمقراطية، وإن كان ذلك في أضيق الحدود، إدخال فعلي لثقافة جديدة، وخطاب جديد ما كان ليلقى أذناً صاغية دون أن يكون هناك ممارسة من نوع ما. فعندما يكون هنالك خطاب تقليدي مهيمن، أو عندما يكون مثل هذا الخطاب قد استقر في الأذهان على أنه الخطاب الأوحد والوحيد الحاضن للحقيقة الثابتة، فإنه من الصعب جداً اختراق تلك العقول التي ولدت ونشأت وترعرعت في ظله، ومن ثم إقناعها بما هو غير ذلك.

في الممارسة الفعلية لمقولات خطاب جديد، تتغير العقول، حتى دون إرادة منها، وإن لم يكن ذلك بذات السرعة التي يتمناها البعض. وفي الممارسة، ربما فاز أصحاب الخطاب القديم أو التقليدي المهيمن في الانتخابات، ولكن ذات الانتخابات وممارستها هي تجسد لمقولات الخطاب الجديد، بغض النظر عمن فاز وعمن خسر، وبداية تحرك وتغير لا يُعرف إلى أين ينتهي، حتى وإن كان المُخطط له غير ذلك، وذلك مثل كرة ثلج تبدأ بحجم قبضة اليد، ولكنها تنتهي بحجم كتلة السد.

لأجل ذلك نجد أن أصحاب الخطاب المهيمن يرفضون ويحاربون مبدأ الانتخابات، بل والديمقراطية كلها كنظام، رغم علمهم بأنهم هم الفائزون مسبقاً، وذلك لأنهم ينظرون إلى ما وراء الأفق، ويعلمون أن تجسد المبدأ أو بعضه، هو بداية النهاية لهيمنة خطابهم، حتى وإن كانوا هم الفائزون في المدى القصير.

وفي هذا المجال تحضرني قصة عن أحد المرشحين في انتخابات السعودية البلدية، الذي صرح بعد فوزه بأن الانتخابات حرام، وأن الديمقراطية نظام لا يتفق مع الإسلام. لم يكن هذا المرشح متناقضاً مع نفسه، كما هُيئ للبعض، بقدر ما كان يعبر عن الخشية من بداية تهافت الخطاب الذي ينتمي إليه إذا ما استمرت الممارسة الانتخابية، وما تعنيه من فتح الباب أمام هبوب رياح جديدة قد لا تكون في صالح خطابه في النهاية. فقد يكون هو الفائز اليوم، ولكن من يدري غداً؟

وهنا مكمن الأرق ومكمن القلق. لذلك نجد أن كثيراً من أصحاب هذا الخطاب يدخلون الانتخابات التي لم يكن لهم يد في اختيارها، وهم واثقون من فوزهم، ولكن على أمل أن يلغوا اللعبة من جذورها متى ما أصبحوا أصحاب القرار، على أساس إلغاء الديمقراطية بآليات الديمقراطية ذاتها، وعلى أساس أن هذا هو ما تريده الجماهير التي انتخبتهم، وذلك كما فعل هتلر وموسوليني وغيرهم من قبل، ولكن ما هكذا تورد الإبل يا سعد.

فالديمقراطية بصفة عامة، نظام له منطقه وآلياته الخاصة التي يجب أن يلتزم بها كل من دخل في «اللعبة» الديمقراطية، إن صح القول. فليس من الممكن أن يدخل أحدهم هذه اللعبة من أجل الوصول إلى مركز القرار، ومن ثم يغير قواعد اللعبة حين يكون في مركز القرار، وذلك كما فعل الفاشيون والنازيون حين جعلوا من آليات الديمقراطية وسيلة للوصول إلى الديكتاتورية، في انقلاب واضح وصريح على الأسس التي منحتهم شرعية اتخاذ القرار.

وعندما ينقلب متخذ القرار على الأسس التي منحته شرعية اتخاذ القرار، فإنه يفقد شرعيته، ولا تكون قراراته ملزمة، وهذا هو لب الموضوع. نعم فإن متخذ القرار إنما يتخذ قراره باسم الأكثرية التي انتخبته ومنحته الشرعية، ولكنه لا يستطيع إلغاء الآليات التي جعلت من الأكثرية محدداً للشرعية، وإلا لكان ملغياً للأكثرية باسم الأكثرية، وملغياً للشرعية باسم الشرعية، وهذه مفارقة غير مقبولة.

فالأكثرية متغير خاضع لظروف الزمان والمكان، ولكن أصحاب الخطاب الذي لا يعترف بالديمقراطية مبدأ، وإن مارسها مرحلياً، يريدون أن يجعلوا من هذه الأكثرية ثابتاً لا تطاله عوامل المكان ولا تقلبات الزمان، وهذا أمر غير وارد في ممارسة تقوم في جوهرها على التغير، ونظرية تقوم في لبها على التحول.

قد لا تكون شعوبنا اليوم مهيأة لممارسة الديمقراطية، حتى وإن كان ذلك في أضيق الحدود. بل وقد تختار جلاديها وسجانيها من خلال آلية ديمقراطية سليمة، ولكن كل ذلك لا يبرر التأجيل، حتى تعي الجماهير، أو حتى الإلغاء بحجة أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، كما يقول البعض في كلمة حق قد يُراد بها باطل وقد لا يُراد. بإتباع مثل هذا القول لن نكون مهيئين للديمقراطية في أي يوم من الأيام.

وذلك مثل طفل بقي حبيس البيت طوال حياته، فهو لن يبلغ مبلغ الرجال حتى وإن أصبح رجلاً. الديمقراطية ممارسة، وفي الممارسة قد نخطيء وقد نصيب، ولكن ما لم نخطأ فلن نصيب. والديمقراطية تقوم في الأول والآخر على الحرية وحق الاختيار، وليس من الضروري أن يكون الخيار هو الصواب دائماً، على افتراض أن هنالك معياراً واضحاً لما هو خطأ ولما هو صواب. ولكن مهما كانت الحال فإن حق الخطأ هو جزء من حق الاختيار، وخطأ باختيار أفضل ألف مرة من صواب بوصاية، فالجنة دون حرية هي عين الجحيم.