لن تكون معارضاً lt;lt;متنوراًgt;gt; إن لم تقطّب حاجبيك بعض وتبدي القلق على lt;lt;انتفاضة الاستقلالgt;gt; وما قد تتعرض إليه، وتحذر من الذبول السريع لزهرة lt;lt;ربيع بيروتgt;gt;. كلما كنت سبّاقاً كلما أظهرت، حيال أقرانك، أنك ذو وعي ثاقب، وأن لك من التجربة ما يسمح لك بأن تستنتج مبكراً ما سوف يلاحظه الآخرون لاحقاً. من كان له السبق في تعريف lt;lt;الانتفاضةgt;gt; عليه، كي يبقى جزءاً منlt;lt;الموضةgt;gt;، أن ينتزع السبق في تعريف مأزقها الحالي.
ثمة تلاق، في معرض التحذير، على نسبة أهداف إلى الانتفاضة (سيادة، استقلال، ديموقراطية، محاربة الفساد، تصحيح التمثيل، بناء دولة المؤسسات، المواطنية، العروبة الحضارية، إلخ...)، وعلى الاستطراد بأن مناورات السلطة أدت إلى انشقاقات في المعارضة تهدد بمنع الاستثمار الأمثل للاندفاعة الشعبية. تراجع الكلام عن تعدد المعارضة بصفته مصدر غنى.
غير أن هناك من يؤاسي نفسه، وعن حق، بأن مطالب تاريخية تحققت: الانسحاب السوري الشامل والكامل، تشكيل لجنة التحقيق الدولي، بدء تصدع قيادات الأجهزة. ويتمالانطلاق من ذلك لاستنكار ما يحصل وذلك قبل تحقيق باقي المطالب وأهمها خوض الانتخابات من أجل التغيير الكبير.
يبدو واضحاً أن هذه الأوساط تناقش خطابها السابق. لقد كان lt;lt;الشعبgt;gt;، وlt;lt;المواطنونgt;gt;، وlt;lt;الأهلgt;gt;، وlt;lt;الجماهيرgt;gt;، وlt;lt;الناسgt;gt;، وlt;lt;الشبابgt;gt;، وlt;lt;النساءgt;gt;، وlt;lt;المجتمعgt;gt; عند حسن الظن لكن المشكلة محصورة، كما يبدو، في القوى السياسية، والقيادات، والبرامج، والتنظيم، إلخ... يعني ذلك، ببساطة، أن هناك من يرفض الاعتراف بأن أخطاء ارتكبت في تقدير تظاهرة 14 آذار، وفي تحليل المضامين السياسية للهبة التي انطلقت غداة جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

لم يكن ما جرى بزوغ وحدة مفتقدة وإنما التقاء بين روافد سارت إلى جنب بعضها بما يجعل الخطأ البصري ممكناً في رؤيتها لمجرى واحد. هل توقف أحد عند البرودة التي استقبلت خطاب النائب بهية الحريري في الحشد المهيب. وكذلك كانت الشعارات المركزية تعرّف المرفوض لا المرغوب ولا توضح الكثير عن مستقبل يمكنه أن يكون داهماً. وقد كان. ولم يتم التفكير ملياً في معنى الاصطدام بجدار الأكثرية النيابية الراهنة ولو أنها لا تعكس التوازن اليفعلي في البلد ولكنها تبقى الممر الإلزامي لكل مرحلة لاحقة. فالذين استشاطوا تصفيقاً لاستقالة عمر كرامي باتوا ملحين من أجل الإسراع في تشكيل حكومة ومتعهدين عدم استفزازها إن لم تستفزهم. ولم تطرح الأسئلة الجدية عن آثار غياب القيادة الواحدة والجدية وذات البرنامج الواضح والخطة السياسية الملائمة والتكتيكات المناسبة. أي أنه لم يتم الاهتمام الكافي بابعاد التباين حول lt;lt;الطائفgt;gt; والقرار 1559، وحول الأهداف من طرح أسبقية الانتخابات الرئاسية المبكرة على النيابية أو العكس، وحول سلاح المقاومة، وحول موقع لبنان الإقليمي، وحول موازين القوى اللاحقة وتوزيع النفوذ لدى الأطراف المتجهة نحو الانتصار...
لأن ذلك كله لم يحصل شهدنا تضخماً في كيل المدائح الوضعية، والتركيز على سلمية التحرك، وتنوعه، وشعبيته... وهي كلها صحيحة ولكنها، للأسف، غير كافية. فالكتل البشرية غير المؤطرة والمكتفية بعفويتها لا تصنع التحولات الكبرى. وحتى إذا أمّنت فوزاً انتخابياً فإنها لا تجيب عن تساؤل lt;lt;اليوم التاليgt;gt;، وتبقى عرضة للمصادرة وكذلك للتفكك.
ما نلاحظه هذه الأيام أن التوافق الذي لم يكن قائماً تحول إلى عدم مشاركة الجميع في القلق. إن الذين أقدموا على إسقاطات على lt;lt;الانتفاضةgt;gt; محبطون. ولكن هناك غيرهم، من يقف على الأرض، ومن لم يرفع سقف الطموح، وهو يبدو ميالاً إلى الارتياح. القوى الحزبية منصرفة إلى أعمالها.
عناصر lt;lt;القوات اللبنانيةgt;gt; مهتمون بكيفية الرد المدني على التفجيرات الإجرامية. هذه ورقة سياسية ثمينة ترسمل على توتر مشروع. وناشطو lt;lt;التيار الوطنيgt;gt; عاملون على تأمين عودة احتفالية لlt;lt;الجنرالgt;gt;. ومناضلو الحزب التقدمي الاشتراكي يصوغون الوجهة التي تبقي على الصلة بالمعارضة الأخرى ولكنها لا تندمج سياسياً بها خاصة في ما يتعلق بموقع لبنان الإقليمي وامتداد ذلك داخلياً عبر عنوان lt;lt;سلاح المقاومةgt;gt;.
ويواصل تيار lt;lt;المستقبلgt;gt; نشاطه. ولقد كان غريباً جداً أن تصدر أصوات القلق على مصير lt;lt;الانتفاضةgt;gt; في أيام يشهد وسط بيروت احتشادات شعبية ذات مغزى. ولكن هذه الاحتشادات أقرب إلى مزاج تيار lt;lt;المستقبلgt;gt; وتتم، إلى حد بعيد، بدعوة ومبادرة منه. والدافع لنشاط التيار الإبقاء على التعبئة باسم lt;lt;الحقيقةgt;gt; وlt;lt;قادة الأجهزةgt;gt; والانتخابات، ولكنها التعبئة المعتمدة أساليب نضالية أقل lt;lt;كثافةgt;gt; من السابق. فالأمانة للرئيس الشهيد تعني إعادة الحياة إلى وسط بيروت بصفته lt;lt;وسطاً تجارياًgt;gt; وليس lt;lt;وسطاً نضالياًgt;gt; فحسب. ليس المطروح، بالطبع، تغيير العالم العربي وتصدير النموذج الديموقراطي إلى المملكة العربية السعودية ومصر وغيرهما. لذا فإن التحركات المدنية والسلمية يداخلها طابع كرنفالي، وحض على الاستهلاك، وتشجيع على تحريك الدورة الاقتصادية، ودعوة من أهل الفقيد إلى من يشاركهم حزنهم إلى الانتقال التدريجي من سواد الحداد إلى حب الحياة. وبما أن المناسبة تعانق 13 نيسان (شهران على الجريمة، ثلاثون سنة على الحرب) فإن الهمّ تحقيق إنجازات تعني العنوانين وليس افتتاح أزمات لا تنتهي وإطلاق حركات نضالية ذات برامج طموحة لا تقل عن تثوير العالم العربي. يمكن الاكتفاء بشعارات من نوع دولة آمنة لا أمنية (دعوا العلمانية لأصحابها)، وعروبة لبنان تعني أفضل العلاقات مع الحكومات والشعوب العربية لا تحريض الشعوب ضد الحكومات ولا الابتعاد عن الشعوب والحكومات (عروبة لبنان الوديعة في مواجهة عروبة الثورة الديموقراطية)، ولبنان المستقر والجاذب للاستثمار والسياحة لا لبنان المعطي أولوية مطلقة لدولة الرعاية، إلخ...

لا شك في أن lt;lt;شيئاً ماgt;gt; حصل في ساحة الشهداء. ولا شك في أن عشرات (مئات) الآلاف اختبروا معنى المشاركة في التأثير على المصير الوطني لبلدهم. ولا شك في أن هؤلاء يعرفون ما لا يريدونه. ولا شك في أن المادة الخام متوفرة وقد اقتحمت، لبرهة الحياة السياسية.
غير أن المشكلة باقية. وهي من وجهين. الأول هو الضعف البنيوي لقوى التأطير والاستيعاب والتنظيم والأدلجة واستيلاد هيئات ثابتة ذات وجهة برنامجية واضحة. ففي النهاية هذه القوى هي التي تصنع تغييراً ذا وجهة محددة. ولكن أن تكون هذه القوى ضعيفة، وفوق ذلك متباينة، فهذا يعني تأمين عودة المتظاهرين إلى منازلهم وبيئاتهم. أين الذين تظاهروا، بالملايين دعماً للفلسطينيين؟ أين عشرات الملايين ممن احتجوا على حرب العراق؟ ألم يحن الوقت للحسم في أن تحويل العفوية إلى فعل سياسي مؤثر تلزمه عناصر ليست متوفرة. الشاشات لا تكفي، ولا المقالات.
أما الوجه الثاني، وهو في امتداد الأول، فهو قصر المدة الفاصلة بين التظاهرة والانتخابات. نعم هناك من اعتبر أن هذه فرصة. وهو يراهن على ترجمة سريعة في صناديق الاقتراع للزخم الشعبي. كان ذلك سيؤدي، ولا يزال، إلى فوز المعارضة. ولكن من العبث الاعتقاد أن ذلك كان سيعني انتصاراً لبرنامج افتراضي لهذه المعارضة. إن الرهان على lt;lt;الفرصةgt;gt; دليل على أن هناك من يريد أن يلغي دور الوسائط بين الشعب والسياسة. وهذه الوسائط هي، حتى إشعار آخر، الأحزاب. وحتى لو سلمنا بأفضلية منظمات المجتمع المدني على الأحزاب يجب أن يكون معروفاً، مثلاً، أن lt;lt;التغييرgt;gt; في قيرغيزيا أحدثته 7500 منظمة ثم تبيّن، بسرعة، أنه أقل من انقلاب!
هناك مشكلة قوى سياسية وقيادات سياسية وبرامج سياسية. ومع ذلك كانت الآمال كبيرة لدى المعنيين. وهم، حتى اليوم، يرفضون تحديد المعضلة، ويرفضون إعادة تشريح وتحليل ما جرى، ولا يكفون عن أنشودة lt;lt;الوحدةgt;gt;، ولا يوضحون التباينات والتحالفات، ولا يكفون عن إبداء الحزن على هذه lt;lt;اللحظة الثوريةgt;gt; التي لم تكن، في الواقع، كذلك.
لم تظهر قيادات جديدة خلال التحرك. لم تظهر تنظيمات جديدة. لم تتبلور أشكال عمل مناطقية. لم يظهر خطاب جديد ومتمايز فعلاً ومؤثر. جرى تمجيد العفوية، وتمجيد الشبابية بصفتها قيمة بذاتها، وتمجيد الألوان، وإحلال lt;lt;الأسطرةgt;gt; محل الواقع، والتعامي عن كل ما يحيط بلبنان، والصمت عن قول كلام معقد في وضع معقد يتداخل فيه الداخل بالخارج... لن يكون غريباً أن يكون السقوط مؤلماً بقدر ما كانت نبرة الخطابية عالية.