نجيب ميقاتي صديق شخصي للرئيس السوري بشّار الأسد وحليف سياسي له. يقال عنه في لبنان انه من «الوزراء الثوابت» المحسوبين على دمشق. وصل الى البرلمان على لائحة واحدة مع سليمان فرنجية الذي يشاركه اللغات السابقة. وميقاتي على خلاف مع عمر كرامي المعارض منذ 12 سنة.

والمتخذ مسافة عن اصدقاء سوريا اللبنانيين قادته الى التحالف مع بعض اركان المعارضة اليوم (بطرس حرب ونائلة معوض). تقرّب ميقاتي مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري في السنوات الاخيرة لكن ذلك لم يحل دون وجوده في التشكيلات التي رعتها دمشق من اجل الإيحاء ان الحريري لا يمثل وحدة الطائفة السنية كلها.

يعني ذلك ان الحركة الاعتراضية اللبنانية الراهنة، اذا كانت متماسكة، واذا كان عليها ان تختار بين الرجلين حسب قرب كل منهما من سوريا، موضوع الاعتراض، فان المنطقي هو اختيار كرامي بلا تردد. ومع ذلك فان هذه المعارضة التي شنت حملة شعواء ضد كرامي أجمعت تقريباً على تسمية ميقاتي مرشحاً لرئاسة الحكومة. لماذا؟

السبب الاول هو ان اغتيال الحريري حصل في عهد حكومة كرامي. وهناك من يريد تحميله المسؤولية السياسية عن ذلك لانه لم يتخذ تدابير الوقاية اللازمة، ولانه لم يستقل بعد الجريمة، ولم يعمد الى إقالة قادة الاجهزة الامنية، ولم يتدخل بفعالية لضمان شفافية التحقيق، ولم يقاوم المحاولات التي جرت لتعطيل قيام لجنة التحقيق الدولية. انه، في عرف المعارضة، مسؤول ولو لم يكن مذنباً.

السبب الثاني هو انه حاول بعد الاستقالة والعودة تشكيل حكومة اتحاد وطني تضم المعارضة. ثمة من وجد في ذلك مناورة هدفها الخداع والتمييع بما لا يستوجب حتى المبادرة الى وضع النوايا على محك الاختبار.والسبب الثالث هو تفسير سلوكه بالاستقالة ثم العودة ثم التهديد بالاعتذار ثم الاعتكاف بأنه يهدف الى كسب الوقت والمماطلة .

من اجل تأجيل حلول الانتخابات النيابية التي ستصبح محكومة بالتأجيل اذا مرت نهاية هذا الشهر من دون دعوة الهيئات الناخبة. والتأجيل غايته منع المعارضة من تحقيق انتصار مؤكد يسمح بانتقال السلطة من يد الى يد.السبب الرابع هو ان الاعتذار النهائي لكرامي عن عدم تشكيل الحكومة وضع المعارضة أمام احد خيارين:

اما نجيب ميقاتي واما عبد الرحيم مراد. والثاني، بالنسبة الى المعارضة، هو «الشر الأكبر» لأنه فضلاً عن علاقته الوثيقة بالسوريين، وبرئيس جهاز الامن العميد رستم غزالة، فهو حاد في ولائه وفي رفضه لسياسات خصومه. أضف الى ذلك انه بدا اكثر استعداداً لتأجيل مديد للانتخابات (وضعه الشعبي في منطقته يجعله صاحب مصلحة في ذلك).

وأكثر ميلاً الى حماية قادة الاجهزة الامنية ما لم تثبت ادانتهم. كان مراد قريباً جداً من تيار الحريري إلا انه ابتعد عنه وغالى في ذلك.كانت المعارضة امام معضلة. اما ترفض تسمية أي مرشح وفي الامر تسهيل نجاح مراد. واما ان تسمي واحداً من صفوفها، وبما انها أقلية، فانها تحرم ميقاتي من الفوز.

واما ان تقبل «أهون الشرين» فتختار ميقاتي وتلعب دوراً ترجيحياً خاصة وان الرجل أطلق امامها وعوداً بأنه يلتزم إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن، وانه مع حكومة حيادية، وانه يرفع الغطاء عن قادة الاجهزة الامنية خاصة اذا تبين ان هذا شرط من شروط عمل لجنة التحقيق الدولية.

وهكذا كان. مالت المعارضة الى ميقاتي ووفرت له الاصوات الكافية للفوز. لا بل وفرت له اصواتاً اكثر من تلك التي نالها من فريقه أي من فريق الموالاة الذي يعاني تصدعاً لا يخفى على أحد.يمكن الاكتفاء بهذه الرواية لما حصل في لبنان. غير انها رواية لا تأخذ بالاعتبار حجم التدخلات الخارجية في البلد، وعجز أي قراءة داخلية لتطوراته الكبرى من ان تشكل مادة تفسير وافية. يتوجب اذاً البحث عن عوامل اخرى.

لوحظ، عشية تكليف ميقاتي، ان مساعد وزير الخارجية السورية وليد المعلم قام بزيارة الرياض حاملاً رسالة من الأسد الى الامير عبد الله. ولوحظ، ايضاً، ان الزيارة تمت عشية توجه الامير عبد الله الى فرنسا حيث استقبله شيراك بحفاوة بالغة أظهرت التوافق حول القضايا كلها وفي طليعتها الازمة اللبنانية. ولقد كان لافتاً وجود أحد زعماء المعارضة في باريس في ذلك الوقت، وليد جنبلاط، وكذلك سعد الدين الحريري.

ومن تابع تفصيلاً اخبار اليوم الطويل في لبنان (الجمعة 15 ابريل) أدرك ان شيئاً ما حصل في باريس وانعكست آثاره في بيروت. ولقد تحدث جنبلاط، بصراحته المعهودة، عن ذلك مشيراً إلى «توافق سعودي ـ فرنسي»، والى دور لتيري رود لارسن المندوب الدولي المكلف تطبيق القرار 1559.

والى مساع شارك فيها آل الحريري والمعروف ان جنبلاط أبلغ كتلته النيابية ان الامر قضي وان الواجب تسمية ميقاتي، وكذلك فعل الحريري مع نواب كتلة «قرار بيروت». وأمكن للطرفين معاً حسم التردد ضمن المعارضة المسيحية التي لم تستطع المقاومة بعدما أبلغت ان السيدة بهية الحريري ستقوم شخصياً بزيارة القصر الجمهوري وإبلاغ الرئيس اميل لحود موقفها (كذلك فعل النائب مروان حمادة).

وربما لعب الجنرال ميشال عون دوراً في إقناع الرافضين الذين وجدوا انفسهم مهددين بخسارة وحدتهم. ولكن الواضح، هنا، ان تقاليد السياسة اللبنانية لعبت الدور الحاسم. كان يكفي ان يتخذ الجناح المسلم قراراً، وآل الحريري تحديداً، حتى يرضخ الآخرون. فالمنصب المعني من اختصاص طائفة ولا يحق لطائفة حليفة التدخل!

لقد شهدنا في لبنان، التدخل الاول لمحور سعودي ـ فرنسي يملك سنداً داخلياً شعبياً ونيابياً. إلا انه تدخل من نوع خاص. فهو اذ يقحم نفسه في تعيين رئيس الحكومة فانه يفعل ذلك على قاعدة الدور الترجيحي بين مرشحين محسوبين على دمشق بما يعني ان فوز أي منهما لا يستفزها.

كان يكفي ان يوافق هذا المحور على ميقاتي حتى يوجه رسالة تقول انه لا يريد للاصوات اللبنانية ان تتحول الى منطلق للتضييق على سوريا ومحاصرتها وإضعاف النظام الحاكم فيها. لا يريد هذا المحور للبنان ان يؤدي هذه المهمة المهددة للاستقرار في سوريا والمنطقة.

اكثر من ذلك تذهب رسالة الطمأنة الى حد القول بأن هذا المحور ومن يؤيده في لبنان لن يرضى، لاحقاً، بتشكل اكثرية نيابية معادية لسوريا وانه اذا حصل ذلك فانها لن تبقى اكثرية لان كتلاً منها سوف تنحاز الى خيار آخر. ان من يراجع خطابات الامير عبد الله في باريس يلاحظ نبرة التشديد على «الأخوة اللبنانية ـ السورية».

ومن يعرف الموقف الفرنسي من القرار 1559 يعرف ان شيراك معني بالشق اللبناني السيادي منه وليس بتحويل البلد الى منصة للتقدم نحو دمشق. وأخيراً فان هذا هو معنى المواقف الاخيرة لوليد جنبلاط، ولآل الحريري، وكذلك للانعطافة في سياسة عون الذي أعلن انتهاء أي مشكلة له مع سوريا.

هذا هو الوجه الاول للرسالة التي وجهها المحور السعودي ـ الفرنسي. وهي تطمئن سوريا ولو انها لا تلتقي مع السياسة الاميركية الراغبة بمزيد من الضغط. لا تلتقي معها ولكنها لا تعارضها ولا تحبطها. فالمعروف ان السياسة الاميركية الاجمالية حيال لبنان تركز على المفاصل وتترك التفاصيل لغيرها.

وما تعلنه واشنطن هو انها تريد استكمال الانسحاب السوري الكامل من لبنان وفي أسرع وقت، وتريد التعاون مع لجنة التحقيق الدولية، وتريد إجراء انتخابات نيابية في أسرع وقت ممكن، وتريد، في المدى المنظور، إبقاء قضية سلاح «حزب الله» مطروحة إلى ان يأتي الله أمراً.

ترى واشنطن ان تحقيق هذه العناوين انجاز يمكن استخدامه في إطار سياستها الاجمالية. فهي تحقق لها إضعاف سوريا في وجه اسرائيل ووضعها تحت ضغط في ما يخص العراق وفلسطين، وتساعدها في توظيف ورقة «الديمقراطية اللبنانية المستعادة» في سياق مشروعها لـ «الشرق الأوسط الكبير»، ومحاصرة «حزب الله» وتوليد مناخ ضاغط عليه من اجل ارغامه لاحقاً على ترك سلاحه والتحول نحو العمل السياسي.

وليس سراً ان واشنطن شجعت المعارضة اللبنانية على تسهيل الامور أمام عمر كرامي او حتى عبد الرحيم مراد بشرط واحد هو ضمان إجراء الانتخابات. لذا لا يضيرها كثيراً ان يكون ميقاتي رئيساً للحكومة، وان يحصل ذلك بتدخل سعودي ـ فرنسي، والا يكون استفزازياً حيال سوريا. هذه تفاصيل لا تخرج عن الإطار العام لما يريده البيت الابيض من لبنان في هذه المرحلة.

هل يمكن الحديث، تأسيساً على ما تقدم، عن صفقة تكون حكومة ميقاتي البند الاول فيها؟ يصعب ذلك. فمواضيع الخلاف كثيرة سواء في ما خص التوازنات اللبنانية الداخلية او الموقع الاقليمي للبنان، ولا يبدو أفق التسوية الآن. ومع ذلك لاقت التطورات الاخيرة ارتياحاً. ان مشكلة مؤجلة ولو من دون حل خير من مشكلة منفجرة فوراً.

كاتب لبناني