علي مطر من اسلام آباد:عبق التاريخ ينبعث فواحا من مدن باكستان القديمة وكأن جدران محلاتها تكاد تبوح باسماء وصفات من كانوا يمرون بها عبر

سوق العطارة
العقود والازمان لما مر عليها من اوقات طويلة وهي تكافح ضد المتغيرات وتوسيع الطرق ونشر المعاصر من البضائع والمشتريات وشق الطرق الجديدة التي يمكنها ان تفتح ذراعيها لاستقبال الحديث والمتجدد من وسائل المواصلات. مدينة كرتشي مدينة تغلفها الحداثة واسواقها تتبدل وتتغير الى ان اخفت معالم القديم وطمسته اما مدينة لاهور فان سوقها اناركلي الممتد في ازقة لا تكاد تنتهي يحمل اسمه رمزا لقصة حب اسطورية بطلتها اناركلي؛ ومدينة بيشاور فيها سوق مماثل اسمه قصا خاني بازار وهو في شرفاته المطلة من فوق دكاكينه يكاد يلامس في الذاكرة صورا مشابهة لصور اسواق كابول ومزار شريف وطشقند وغيرها من مدن جمهوريات وسط اسيا.
ما يميز سوق بازار الراجا او الراجا بازار هو ان اصحاب محاله لا يزال واحدهم يعتقد انه مهراجا وان سمته يجب ان يبقى كذلك حتى بعد التغيير الجارف الذي حل بالمكان ومن هنا تبرز سمتهم الجادة التي تسيطر على مظاهر تعاملهم التجارى من بيع وشراء مهما كانت طبيعة عملهم وخصوصية الاشياء التي يتاجرون بها. بينما اصحاب المحلات في الاسواق الاخرى اكثر دهاء وحرفة في التلون بالصورة التي يرغبها المشتري وفي سلوك الكثير من المسالك معه لدفعه قسرا الى الخروج من المحل وقد افرغ محفظته من قدر من النقود لا دخل له في تحديده ولكن البائع هو الذي يقرره بكل دهاء وبراعة. فالباعة في الراجا بازار يتركون للمشترى تقرير مدى رغبته في ادارة دفة المقايضة ويتركوه معلقا امامهم بدون ان يكترثوا به سواء اشترى او لم يبيعونه. جمودهم هذا توارثوه ابا عن جد لان القلعة الكبيرة التي وراء السوق تشهد لهم بان اجدادهم قبل الستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية كانوا يسيطرون على مساحات كبيرة من هذه المنطقة دون ان ينازعهم احد السيطرة عليها وربما كان هذا هو ما جعل الرئيس ايوب خان رئيس باكستان الاسبق يعاجل الى اتخاذ قرار نقل العاصمة الباكستانية من كراتشي الى اسلام اباد في اواخر الستينات من القرن الماضي.


متحف تاريخي
ويقع سوق الراجا يازار في وسط مدينة راولبندي التابعة للعاصمة ويعتبر الموقع التجاري الرئيسي فيها بالاضافة الى انه بمثابة متحف تاريخي يضم الاسرار والقصص التي تروى على مر العصور عن هذه المنطقة. ويقاربه في عتقه وتراثه اسواق اخرى في منطقة المسلمين بدلهي او ما يطلق عليها اولد دلهي وهي الجزء القديم من العاصمة الهندية نيودلهي والتي يقطنها سكان اغلبيتهم او كثير منهم على الارجح مسلمون وتمتاز منطقتهم بعدة اسواق متداخلة ببعضها البعض وتلتف التفافا جميلا حول مسجد دلهي الجامع.

بضائع مستوردة ومهربة وخطرة
واول ما يواجه الزائر لسوق الراجا بازار هو التشكيلة التي لا نهاية لها من البضائع والتي في مقدمتها مواد الاستخدام اليومي وبضائع تتراوح من الابرة وحتى الاليكترونيات الحديثة والمتطورة. وفي جزء منه منطقة لبيع البضاعة المهربة من الادوات الكهربائية المنزلية والهواتف النقالة والتلفزيونات والهواتف وجلها من الصناعة الصينية. بل ان منطقة التهريب قد احتوت في الاونة الاخيرة على بيع اجهزة محظورة والتي يمكن من خلالها الربط مع الاقمار الصناعية والكشف عن مكان تواجد شخص ما من خلال جواله او أي بيانات اخرى ملحقه به. وقد حذرت جهات امنية من تداول هذه الاجهزة لان بوسعها تسهيل مهام الباحثين عن خطط للارهاب لتنفيذها ويبدو ان الاجهزة الامنية قد تداركت الموقف ومنعت الباعة الذين لا يدرون كنه ما يبيعونه من بيع مثل هذه الاجهزة. ومما لا شك فيه ان معظم او جميع الباعة في هذا السوق لا يستطيعون الاحتفاظ باشياء مما يبيعونه لان مداخيلهم لا تسمح لهم باقتناء الاشياء الكثيرة من البضائع التي تعتبر من الكماليات بالنسبة لهم والتي تنتشر بشراهة بالغة في الراجا بازار.


سوق للفقراء والاغنياء
كل شيئ متوفر في هذا البازار من الاواني الصينية الى تلك الاوروبية والملابس المحلية والاجنبية وخصوصا تلك التي تدور على احزمة المصانع الصينية وتخرج كمنتج يجد طريقه الى باكستان قبل ان يصل الى انحاء الصين الاخرى نظرا لتماس الحدود ولان باكستان ستتحول بعد الانتهاء من بناء ميناء جوادر البحري الى معبر تشق الصناعات والمنتجات الصينية طريقها منه الى بقية انحاء المنطقة. لقد تحول السوق الى مغارة علاء الدين التي يلجأ اليها من اراد ان يجد كل شيئ في مكان واحد بل ويجد اصنافا من هذا الشيئ ليختار منها وليقارب الاسعار المتاحة المختلفة لكل نوع ويختار بحريته. وعلى الرغم من ان هذا السوق يطلق عليه اسم سوق الفقراء الا ان المعروضات التي تحتويه تجذب حتى السياح ناهيك عن ابناء الطبقتين المتوسطة والغنية من سكان اسلام اباد وراولبندي الذي يدركون ان البضاعة عندما تصل فانها تحط الرحال اول ما تحطه بهذا السوق وان من صنف هذه البضاعة او تلك متوفر ما يزيد عن الحاجة وما يحبب التفكير والاختيار بدلا من ان يتقيد المشترى بصنف واحد من الاسواق الاخرى وهي كثيرة في اسلام اباد وراولبندي.


فنادق الهواء الطلق
وليس هذا كل ما يقدمه السوق بل ان فيه مطاعم وفنادق تتراوح درجات الفنادق من تلك المعهودة والاخرى التي تسمح لمن كان مسافرا وليس بجيبه الكثير ان ينام الليل في مساحات مفتوحة لا سقف لها ويدفع اجرة زهيدة لمن يسمح له باستخدام الاسرة المتنائرة في بقع معروفة لهؤلاء في البازار.
وما يشجع السياح على ورود هذا السوق هو اسعار الفنادق الرخيصة نسبيا وكون مدينة راولبندي على مفترق طرق يصل بين الاجزاء الشمالية الغربية من باكستان وبين اجزاءها الشرقية والحنوبية. ولا بد من المرور بها سواء كان السفر برا او بالقطارات ففيها مجمع الالتقاء بين هذه الجهات ومنها يتوجه المسافرون الى العاصمة التي يفصلها عنها شارع رئيسي يفصل ايضا بين القديم والجديد والفوضى العمرانية والتخطيط الحديث للمدن والمتمثل باسلام اباد. والسياح القادمون الى هذه المنطقة يريحون فيها استعدادا للذهاب الىىمناطق الشمال التي تحيط بالصين والتي تمتاز بقمما الثلجية الشاهقة.
لا ينتهي تدفق الزوار بالحافلات او القطارات او وسائل النقل الخاصة او بالجو الى راولبندي بسبب كونها على مفترق الطرق هذا. وكل هؤلاء الزوار يفدون الى راجا بازار لكي يتعرفوا على التراث والثقافة الخاصة بهذه المنطقة. ولا يمكن ان يشعراحدهم بالملل في هذا السوق لانه مجموعة من الاسواق المتداخلة والتي لا يكاد احدها ينتهي حتى يفتح على سوق اخر اكثر امتاعا من سابقه.
كما ان سكان المدن والقرى المجاورة يقومون بزيارة راجا بازار من حين لاخر بل ان بعضهم ينظمون زيارت اسبوعية او في فترات محددة لهذا السوق من اماكنهم النائية لان البضائع المتوفرة في مدنهم وقراهم محدودة مقارنة بتجمع الاسواق هذا. بعض مرتادي السوق يأتون من مدن بعيدة مثل كوجار خان على بعد 40 كيلومترا من مدينة راولبندي.
ومما يجعل الناس يأتون للسوق لانه ملئ بالاشياء اللازمة للجهاز الذي تحضره العائلات لبناتهم استعدادا لتزويجهم ؛ فالاباء يقومون بابتياع الاقمشة و الملابس المزركشة وحتى الادوات الالكترونية التي لها اسواق متداخلة تنتهي باسواق الاواني الصينية التي يسيل لها لعاب ربات المنازل لمنظرها الجميل والوانها التي تسرالناظرين صوبها فتجذبهم لها. فالنساء يجدن ان شراء ملابس العروس امرا ممكنا واقتصاديا ولا يتوفر في منطقة اخرى.
منذ الصباح وحتى وقت متأحر من الليل والمنطقة المحيطة بالسوق تظل مزدحمة بالسيارات والشاحنات باحجامها والدراجات والعربات المجرورة والتي لا يفصل بينها سوى شعرة صغيرة لو اخطأ احدهم لاشتبك الحابل بالنابل بسبب ضيق الطرق والازقة و قدمها. وحتى بعد ظهور اسواق جديدة منبعثة عن السوق القديم الا ان الازدحام لم ينخفض في هذا الاخير وكان الناس يبحثون عن التاريخ القديم وعبقه الذي يفوح من ارجاء الراجا بازار.


اسواق الجنس اختفت
وبالطبع فان هناك اشياء تاريخية اندحرت ولم يعد لها مكان في هذا السوق ولا يذكرها سوى الطاعنون في السن والذين كانت لهم صولات وجولات في شبابهم وفي مقدمتها المنطقة الحمراء التي اختفت تماما مع بدايات تكوين باكستان. وكان يطلق عليها اسم منطقة قصاي جالي التي كانت تنتشر فيها مباني ذات غرف صغيرة فيها اسرة وعليها بائعات الهوى اللاتي كن يتقاضين حينها بضعة روبيات من زوار السوق ممن يبحثون على هذا الصنف من البضائع التي تزدهر في اسواق باكستان القديمة ولا تزال موجودة في بعضها حتى الان على الرغم من مرور سنوات طويلة على تنفيذ احكام الشريعة.
[email protected]