صيف الرياض هذا العام: حيوية وجرأة وانفتاح إلى حين

الرياض: السعوديات لا يعرفن ما هي حمامات الشمس لأنهن لسن بحاجة إليها؛ فهن، عملياً، يتمتعن بهذا الامتياز مجاناً، ولمدة تصل إلى تسعة أشهر من كل عام، إذ تصطليهن الشمس الحارقة مدعومة بنوعية أزيائهن التي تغطي المرأة كلياً، وبميل "الحريم" إلى التمرد على فكرة "القعود في البيت" حتى إن كان الثمن عرقاً وتوتر أعصاب وخسارة ملابس جديدة.

صيف الرياض هذا العام اختلف في تفاصيل كثيرة عن أسلافه وكأنه صيف سياحي، إذ بدا متحرراً من محافظته التقليدية بعض الشيء، متخلصاً من صرامته في ضرورات العزل بين الجنسين حتى أن الحواجز الفاصلة، بين العوائل والعزاب في مطاعم الأسواق، غدت شكلية وجمالية أكثر منها قطيعة. أما تواجد رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد غاب عن أسواق كثيرة، وأصبح غير ملحوظ في أسواق أخرى، إما لكثرة الأسواق في الرياض واستحالة السيطرة عليها جميعاً، أو لأسباب أخرى!

منطقياً لا سبب واضح لهذا التحول رغم أن البلد تموج بأطياف انفتاح عدة، لذا فإن المراهنة على استمراريته قد تكون خاسرة، إذ ربما كانت المسألة حالة ارتخاء مؤقتة، أو من باب التيسير على قاطني المدينة بعد أن أرهقتهم ضغوطات النشاطات الإرهابية، ولعله يندرج ضمن الخطط السياحية. كل هذه الاحتمالات معلقة إلى أن يهل صيف قادم فإن استمر الحال كان دليلاً على حدوث تغيير، وإن عادت لأمور إلى سابق عهدها الصارم، يبقى لهذا الصيف أنه حقيقة كان "غير".

في أسواق شمال المدينة (الجزء الأكثر انفتاحاً مقارنة بالجنوب والغرب) زاد، بشكل لافت، عدد السعوديات غير المحجبات أو المنقبات. وبدا اللباس الأنثوي أكثر جرأة في تفاصيله الداخلية، في حين أن العباءة النسائية نسيت، تقريباً، وظيفتها القديمة بكونها غطاءا ساتراً يخفي المرأة جميعها، ومالت إلى أن تكون إحدى سمات الزي السعودي للنساء سواء من حيث شفافيتها أو مقاربتها لملامح الفساتين؛ التصاقاً وانحناءاً وتزييناً، أو من حيث تنوع درجات الطول حتى لتغدو أحياناً من نسل التنانير القصيرة.

في المطاعم، خصوصاً في الأسواق، حرمن النساء من امتياز تقليدي وهو أن يكون لهن نوافذ خاصة ومعزولة للشراء من خلالها تحوطاً من اختلاطهن بالرجال. وأصبحت القاعدة هي: الأولوية لمن يأتي أولاً، فلا غرابة أن يقف في الطابور الواحد رجل وإمرأة ليس بينهما معرفة سابقة دون ذكر الروابط الشرعية.

المؤكد أن الرياض مدينة شابة إذ أن معظم المتسوقين (الأسواق في الرياض هي المدار المحوري لحركة سكانها وماعدا ذلك إما يفضي إليها أو يتولد منها) من الجنسين، هم من الشباب، ليس في العمر فقط، بل حتى في السلوك والثقافة، فهو جرىء، منطلق، متمرد إلى حد ما يوحي أن العقد القادم لن يكون نسخة مكررة من سوابقه بل هو ولادة جديدة لجيل جديد يؤسس لنقلة نوعية قد تغير حتى أنماط المنازل، أما ملامحه الأساسية فهي: لاضرورة للحجاب مالم يكن إلزاماً، ضرورة أن تقود المرأة سيارتها. لا معنى لوجود أقسام للعوائل وأخرى للعزاب في المطاعم والأسواق. ولا للفصل بين الطلاب والطالبات في الجامعات.عدم التعدد وتغييرات أخرى ستذكر كبار السن ببعض مشاهد المرحلة الذهبية لحي " الملز" في الستينات.

هذا الصيف تقلص الحضور العائلي لصالح المجموعات من كل جنس يتجولون سوية ما يشير إلى أن الغزل بات أكثر سهولة، ولعل هذا التحول هو السبب في تقلص تحرشات الشباب الخشنة بالفتيات، أما رؤية عائلة تسوق سوية فأصبح مشهداً يستحق التوثيق لأن الملمح الأكثر وضوحاً، منذ سنوات، هو تضاد نشاطات الزوجين ما يستدعي فصل ارتباطهما الكاثوليكي في هذا الشأن يلحقه، بالضرورة، تحرر المراهقين من الجنسين في حركتهم بأزيائهم الغريبة وتصرفاتهم المغايرة تماماً للقيم التقليدية.

يمكن القول أن كثيراً من سكان الرياض مرتاحون لهذا التحول إذ سمح لهم بالتمتع بمناخات مدينتهم دون حاجة للسياحة داخلياً أو خارجياً، لأن مدينتهم بعد أن خففت من صرامتها المحافظة غدت أجمل وأكثر حيوية، وتلبست حلة شبابية حيوية انتقلت عدواها إلى السكان فضاعفوا الجرأة، وزادوا الحدود المسموح بها، وبعد أن كانت الرياض تغفو قليلاً في آخر الليل لم تعد تعرف النوم أو الهجوع، وكثافة الحركة فيه تكاد لاتتغير في أي وقت من النهار أو الليل حتى وأن أقفلت المحال التجارية إذ يبقى أن التسكع في الشوارع (بالسيارات طبعاً) له نكهة خاصة وعذبة للسهارى من الطلاب والقادمين من مناطق أخرى.

في السابق كان سكان الرياض يحسدون قاطني جدة والخبر على انفتاحهما النسبي، اليوم لا يريدون بديلاً خصوصاً أن مدينتهم ذات فخامة ورونق لايضاهيهما مدينة أخرى. هل تمضي الرياض خطوات أخرى في هذا الطريق أم أنها سحابة صيف عابرة مخلفة ذكرى حزينة؟ الاستجابة الايجابية العارمة لهذا التحول تقول أن الانتظار له طال كثيراً ولم يبق سوى قطافه، لكن المحافظين، وهم القوة الفاعلة، لهم رأي آخر مغاير إن لم يكن ناقماً، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.