القدس:"القدس هي المشكلة والحل"، مقولة يرددها الكثيرون لما للمدينة من أهمية دينية،و روحية، و رمزية من النادر أن تبلغها مدينة في العالم، لكن معظم الطروحات السياسية والنظرية حول القدس اليوم تتعامل معها كرمز وعاصمة وتاريخ وقضية نضال ضد الاحتلال، ولا تتعامل معها بشكل كاف كمدينة لها سكان لديهم مشاكل حياتية يومية، لهم الحق في حياة كريمة ومستقبل امن في مدينتهم التي ولدوا فيها دون خوف من التهجير أو العزل في كانتونات.
بناء الجدار حول القدس طرح مشاكل جديدة على الفلسطينيين المقدسيين، وأعاد طرح مجموعة من المشاكل و التساؤلات والمخاوف التي تتهدد وجودهم في القدس وتهدد المدينة نفسها فالقدس اليوم تواجه أيضا خطر التقسيم والفصل مما سيضعفها ويهمش مكانتها وبالتالي سيهدد مركزيتها وأهميتها بالنسبة لجميع الأطراف. كما أن القدس الغربية اليوم تعتبر أفقر مدينة في إسرائيل، رغم سياسات الدعم الحكومي التي تصرف لها.
إن عزل القدس عن بيت لحم والخليل جنوباً ورام الله غرباً وسائر الضفة الغربية أضعفها، وقلل من مركزيتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهي التي كانت عبر تاريخها المركز الاقتصادي والسياسي والديني للشعب الفلسطيني.
أكثر ما يقلق الفلسطينيين في القدس اليوم _والذين يشكلون نسبة تقترب من ثلث عدد سكان المدينة بشطريها الغربي والشرقي (يشكل اليهود اليوم نسبة تقارب 65% من سكان القدس، وذلك بعد ضم مجموعة من المستوطنات إلى حدود بلدية القدس من اجل فرض واقع ديموغرافي جديد يجعل من الإسرائيليين أغلبية )_ هو وضعهم القانوني في ظل الحديث عن المستقبل السياسي لمدينة القدس وتقسيمها؛ في حال الوصول إلى حل نهائي من خلال المفاوضات أو من خلال حل تفرضه إسرائيل عليهم أو من خلال خطة الفصل أحادي الجانب. بدأ هذا القلق بالتزايد مع بدء البناء في جدار الفصل والذي اخرج من المدينة عدة أحياء فلسطينية مثل الرام و مخيم شعفاط وكفر عقب، وصار الفلسطينيون يشعرون بان الأخطار تقترب منهم أكثر من أي وقتِ مضى.
ومع ازدياد الإشاعات بين المقدسيين و التي تتحدث تارة عن إلحاق أهل القدس بالجنسية الإسرائيلية، وتارة تتحدث عن إلحاقهم بالجنسية الفلسطينية والتي ستحد من حركتهم وتساويهم ببقية الفلسطينيين من حيث محدودية حرية الحركة، ولا يخلو الأمر من حديث عن عودة الخيار الأردني وخصوصاً من خلال بعض المقالات التي نشرت في الصحافة الإسرائيلية على وجه الخصوص، في الآونة الأخيرة، وكذلك حديث آخر عن تدويل المدينة الخ.. السلطات الإسرائيلية لم تقدم تصريحاً يكشف عن النوايا الإسرائيلية الحقيقية تجاه أهل القدس، والمواطن الفلسطيني في القدس يشعر بانعدام الثقة تجاه السلطات الإسرائيلية التي اتخذت سياسية عنصرية واضحة منذ احتلالها القسم الشرقي من المدينة في عام 1967، (القسم الغربي جرى احتلاله في العام 1948 وجرى تشريد ما يقارب 20 ألفاً من أهل القدس الغربية العرب الفلسطينيين) وحالة الغموض هذه تزيد من حيرة المواطن الفلسطيني في القدس وانعدام يقينه بشأن المستقبل.
أزمة السكن الخانقة في المدينة والتي ازدادت بشكل كبير بعد بناء الجدار، تجعل حياة الفلسطينيين صعبة في القدس وأحياناً مستحيلة. فالجدار الذي أقامته إسرائيل وفَرْضُ الحواجز العسكرية في محيط المدينة منذ العام 1993 حوّل حياه فلسطينيي القدس إلى عذاب وخوف دائمين، فعشرات الآلاف عاشوا قبل هذه السياسة في محيط القدس ضمن أحياء نشأت بشكل قصري وعشوائي نتيجة سياسة منع الفلسطينيين من البناء التي تنتهجها السلطات الإسرائيلية؛ مما دفع بهم للهجرة والخروج من حدود المدينة، التي حددتها إسرائيل لاعتبارات جغرافية تسيطر على المساحات الشاسعة لبناء المستوطنات و تضمن بقاء أغلبية ديموغرافية يهودية داخل حدود بلدية القدس (التي لا يعترف بها الفلسطينيون ويعتبرونها بلدية احتلال، لكنهم في النهاية مجبرون على الانصياع لقوانينها التي يصفونها بالتمييز والعنصرية)، وفي المقابل فإن السلطات الإسرائيلية تبذل جهدها بواسطة هذه القوانين الجائرة أن لا ترتفع نسبة الفلسطينيين في المدينة، ويحاولون دائماً رفع نسبة الإسرائيليين بشكل اصطناعي.
سياسة الاغلاقات وبناء جدار الضم والتوسع دفع بالكثيرين من أبناء هذه المدينة إلى العودة إلى الأحياء داخل المدينة فزادت المعاناة ونشأت أحياء فقر، وكثافات سكانية عالية، وتزايد بناء المساكن والشقق بشكل عشوائي لتتحول أحياء المدينة في معظمها إلى أحياء فقر ومعاناة؛ لتزداد الآفات الاجتماعية، كتعاطي المخدرات لترتفع نسب الادمان بين الشباب، خصوصاً في البلدة القديمة من المدينة، ( السلطات الإسرائيلية تغض الطرف عن الاتجار بالمخدرات في الأحياء العربية في القدس!) و بكلمات مختصرة يمكن وصف حياة الفلسطينيين المقدسييين بأنها حالة استنفار يومي للحفاظ للبقاء في مدينتهم.
قبل أيام وفي إحدى زياراتي النادرة للقدس، نظراً لمشقة الوصول إليها، تمشيت في شوارع المدينة، شاهدت عائلات فلسطينية تفترش الرصيف قرب وزارة الداخلية لحجز دور حتى صباح اليوم التالي، معظم المحلات تغلق أبوابها مبكراً، مررت قرب "بيت الشرق" المؤسسة الفلسطينية التي أغلقتها سلطات الاحتلال للحد من التمثيل الفلسطيني الرسمي في القدس، كانت شجرة ياسمين كبيرة تملأ الرصيف بزهورها البيضاء.......... تماماً قرب الباب المغلق لبيت الشرق.