سمية درويش من غزة: فوق تلك الأزقة المتزاحمة تموج سحابة صغيرة من الدخان كلما تصاعدت أعمدتها المتطايرة من مدخنة، لا يتجاوز ارتفاعها لثلاث أمتار،صمدت فوق جدران مهترئة بعدما أكل الزمان الكثير من جوانبها وتعرت بعض صخورها والحجارة المرصوصة بين أكوام من الطين منذ ما يقارب النصف قرن.
انطوت بين تلك الصخور الكثير من القصص والأحداث حتى أصبحت شاهدة على التاريخ في هذا المخيم،ففي قلب منطقة يبنا الواقعة في مخيم رفح الملاصق للحدود المصرية تعتلي تلك المدخنة الفرن البلدي "فرن زعبوط"، هذا الاسم الذي يطلقه أهل المخيم على صاحب الفرن محمد جبر "أبو جمال"،الذي هاجر من بلدته الأصلية أسدود،حيث ولد هناك عام 1935،وامتهن هذه الصنعة حتى أصبح جميع أهل المنطقة يحتكون به يوميا ويعرفونه جيدا،وكذلك هو يعرف صغيرهم قبل كبيرهم.

يرتشف قهوته
الجميع اعتاد أن يلقي الصباح على العم زعبوط حين يرونه كالعادة مع الساعة السادسة صباحا يجلس على كرسيه الخشبي الذي صنعه بيديه جوار الفرن ويرتشف قهوته مشعلا سيجارة،وكذلك بعض القطع الخشبية بداخل طاقة النار في الفرن حتى تحتمي ارض الخبيز في الفرن بعد أكثر من ساعة،وما أن يكون هذا، وكأن بعض نساء المخيم يتواعدن مع تلك القطع من الأخشاب فتراهن من أطراف وعمق المخيم كل منهن على رأسها قطعة من الخشب تسمى "فرش العجين" ويلفها قطعة من القماش بداخله أرغفة من العجين وتراهن في عجل.

السرد والطرد
فكل واحدة تود أن تعقد اجتماعها في هذا الفرن مع صديقاتها وجيرانها وتعود في وقت قصير على المنزل،وما أن يتجمعن بين تلك الجدران فتقول الحاجة أم إسماعيل أن تأخذ كل واحدة بالسرد والطرد مع غيرها من النساء ويكون الفرن بمثابة النشرة الإخبارية للمخيم وبالتفصيل وهكذا يقفز العم زعبوط إلى الحفرة الموجودة في ركن هذه المساحة للفرن التي لا تزيد عن ثلاثين مترا ويأخذ بالتقاط الأرغفة ووضعها على قطعة مستقيمة من الحديد لها يد خشبية طويلة تسمى "المجروف" ويلقيها بداخل طاقة النار،وهذا على نغمات تلك القصص المتطايرة من النساء.

العم زعبوط
فهذه تحكي كيف ستقضي يومها وتلك تقص كيف كان الزجل والأرغول في عرس ابن عمها،وغيرها تتفاخر كيف يبني لها زوجها بيتا جديدا ولا زال العم زعبوط يستمع إلى تلك القصص حينا ويحدق باللهب سارحا في حاله وحال من حوله حينا،ويراقب الخبز حافظا لكل واحدة اين خبزها وكم عدده، ويمازح النساء حين تهديه الواحدة رغيفا طازجا قائلا أن خبز الحاجة أم محمد أفضل من غيرها،وحينا أخر يصرخ بهن أن يسكتن ولو لبرهة واحدة ليستطيع تحديد دور كل واحدة.

فاجعة نساء المخيم
وعلى هذا الحال مر الزمان بالعم زعبوط وكأنه ساعة تنبيه لأهالي المخيم، ورابط بينهم أو كأنه موزع لجريدة الأخبار الخاصة بهم حتى كانت الفاجعة لنساء المخيم حين شاع خبر وفاة العم زعبوط.

أنغام القصص
بهذا الحال راقب جميل وهو احد أبناء العم زعبوط مجريات الأمور ومن بعد والده لا زال جميل يرمم جدران الفرن التي لم تسلم من دمار الاحتلال،ويجمع لوحين الزينكو على أخشابها ليعيد بناء باب الفرن ويقفز إلى الحفرة ملتقطا نفس المجروف ويلقي بأرغفة الخبز على أنغام قصص تتلوها النساء ولكن ما اختلف الآن هو أن هذه تقص كيف رأت عرس الشهيد تلو الشهيد وتلك كيف هدم الاحتلال منزلها وأخرى تشكو بأن لا تدري متى ستعود للفرن فمن شدة الفقر لا تجد طحينا كي تصنع منه الخبز لغد.