تعيين حمدان بن محمد في دبي نموذجًا:
ولاية العهد في الخليج بين التراتبية وضرورات التغيير

فزاع .. من المهد ... الى العهد

تعيين نائبين للحاكم شكل مفاجأة للأوساط الاماراتية

تاج الدين عبد الحق من أبو ظبي: لم يكن تعيين الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم وليًا لعهد دبي هو السابقة الأولى التي لا يخضع التعيين فيها إلى التراتبية في العمر، كما أن دبي ليست هي استثناء في هذا المجال فهناك تجارب أخرى في المنطقة تؤشر الى وجود تطور في المفاهيم التي تحكم عملية انتقال السلطة بين الاجيال. ومع أن تاريخ المنطقة كثيرًا ما شهد بعض الحالات التي انتقلت فيها السلطة، دون اعتبار لمعايير التراتبيه في العمر، الان تلك الحالات كانت تتم بشكل انقلابي، وربما بشيء من العنف وبالتالي فأن قراءة تلك الحالات كانت تتم على اساس كل حالة على حدة وتبعا للظروف التي فرضتها او ساعدت على قيامها. على ان تحول تلك الحالات الاستثنائية لما يشبه الظاهرة بدأ منذ منتصف السبعينات ، وجاء كصدى لاستقلال دول المنطقة اولاً ونتيجة لحركة التطور الاجتماعي والاقتصادي التي تلتها ثانيًا .

فقد فرض الواقع السياسي المتمثل في الاستقلال، والاجتماعي والاقتصادي المتمثل في عملية التنمية الشاملة التي شهدتها المنطقة، استحقاقات على الانظمة السياسية لجهة التكيف مع هذه التطورات والتحول من النمط القبلي بكل ما فيه من موروثات تربط الحكم بالاشخاص الى عمل مؤسسي يأخذ بالحسبان اتساع دور ومسؤوليات انظمة الحكم . وقد كان لكل دولة من دول الخليج تجربتها الخاصة واسلوبها في التعاطي مع هذه المتغيرات . وفيما يلي محاولة لتتبع الكيفية التي استجابت فيها دول الخليج لاستحقاق التغيير :

السعودية
وفي السعودية التي تفرض عليها الجغرافيا والديمغرافيا اعباء مختلفة عن باقي دول الخليج لجهة الحاجة الى العمل المؤسسي فإن ولاية العهد، وانتقال الحكم في المملكة لم يثر ذلك الجدل الذي وجدناه في الدول الخليجية الاخرى . ومع ذلك، فإن نظام البيعة الذي جاء بمبادرة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز هو احد مظاهر الاهتمام بايجاد قنوات واضحة تسمح بعملية انتقال سلسة للسلطة دون عواقب على الاستقرار السياسي والاجتماعي ودون ان يكون في الوقت نفسهمحكومًا بالمعايير التقليدية التي تعيق عملية التحول من سلطة العائلة الى سلطة الدولة .

الكويت
أما الكويت التي استقلت مبكرًا فكانت من اوائل الدول التي شكل فيها توارث الحكم قضية سياسية وليس اجراء روتيني تحكمه الاعراف والتقاليد، قبل ان تحكمه النصوص والقوانين . وكان لهذا الامر تجليات معروفة في الكويت منذ بعض الوقت . فمع ان هناك نصوصًا معروفة عن كيفية التناوب في انتقال السلطة بين جناحي اسرة آل الصباح ، فإن اختيار ولي العهد كان يمر في مرحلة مخاض صعبة في كل مرة وكثيرًا ما كان الامر يأخذ بعض الوقت قبل التوافق بين أفراد الاسرة الحاكمة على من يرث الحكم . ولعل التجربة الصعبة الاخيرة التي شهدتها الكويت عند وفاة الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح، مثل قريب على الخلافات التي كانت تحيط بعملية اختيار ولي العهد . وهو ما يعني ان الاعراف والنصوص التي تحكم الاختيار لم تكن العامل الفاصل في اختيار ولي العهد الجديد الذي يعد من الناحية السياسية التعبير عن الاستمرارية وضمانتها الاساسية . والملفت في حالة الكويت ايضًا ان الاختيار لم يعد محكومًا بشكل مطلق باتفاق الاسرة الحاكمة . ولعل الدور الذي لعبه المجلس النيابي الكويتي في عملية اختيار الشيخ صباح الاحمد اميرًا للكويت واختيار ولي العهد يؤشر الى ان اطراف الاسرة الحاكمة باتت تستقوي عند نشوء اي خلاف بينها بمواقف واراء القوى السياسية والاجتماعية في البلاد ، وهو في حد ذاته تعبير عن تغير في قواعد اللعبة السياسية الحاكمة لهذه المسألة ، بشكل ينزع بها نحو شكل من اشكال الانتخاب وهو ما يتسق مع التجربة الديمقراطية الكويتية .

قطر
كانت الانقلابات العديدة التي شهدتها قطر قبيل الاستقلال والتي استمرت بعد ذلك من السمات الاساسية التي تميز بها انتقال الحكم بين افراد اسرة ال ثاني الحاكمة . وآخر هذه الانقلابات واشهرها الانقلاب الذي قاده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني على ابن عمه الشيخ أحمد بن علي آل ثاني في بداية السبعينات بذريعة استعادة حق مسلوب حيث كان الشيخ خليفة قاصرًا، عندما توفي والده الحاكم الاسبق الشيخ حمد بن عبد الله آل ثاني فتولى السلطة عمه الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني الذي اورث الحكم لابنه احمد ولم يعيده كما كان يفترض للشيخ خليفة الذي اعتبر انه كان احق بالحكم بعد وفاة عمه .
ومع ان الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني نجح في تحقيق استقرار الحكم واستعادة العمل بآلية انتقال السلطة من الحاكم للنجل الاكبر سنًا، إلا انه لم يكن وهو يعين نجله الاكبر وليًا للعهد قد ادرك بما يكفي رياح التغيير التي تهب على المنطقة فظلت قطر في عهده اقل تطورًا، مما كانت تشهده دول الخليج الاخرى وهو ما حمل الشيخ حمد -- حسب ادبيات الفريق المحيط به -- على قيادة عملية التغيير والاطاحة بوالده الشيخ خليفة في انقلاب كاد يؤدي الى مواجهة دموية بين صفوف الاسرة الحاكمة التي لا تزال تعاني الانقسام بين المؤيدين للامير الجديد والامير الاب .

وظهر من خلال تلك التجربة العصيبة التي مرت بها قطر انعكاسات واضحة على التفكير السياسي داخل الاسرة حيث اطلق الشيخ حمد بن خليفة مبادرات على صعيد التوريث بدت غير متوقعة ، بسبب تجاوزها للمفاهيم الروتينة حين قرر تعيين نجله الشيخ جاسم بن حمد ال ثاني وليًا للعهد متجاوزًا اكبر ابنائه الشيخ مشعل بن حمد ال ثاني . وكرس هذه الانتقائية في تعيين ولي العهد عندما استبدل فيما بعد الشيخ جاسم بالشيخ تميم بن حمد الذي اصبح وليًا للعهد دون مبرر واضح سوى القول بأن ولي العهد السابق هو الذي طلب الاعفاء من منصبه .

ولم يقتصر التحول في توزيع السلطة بين افراد الاسرة الحاكمة على منصب ولاية العهد بل امتدت يد التغيير لتطال اشقاء الامير وابرزهم الشيخ عبد الله بن خليفة ال ثاني الذي كان من الذين ايدوا انقلاب الشيخ حمد على والده والذي عين رئيسًا للوزارة منذ عام 1996 وحتى العام الماضي حين تولى هذا المنصب الشيخ حمد بن جاسم بن جبر ال ثاني الذي لا يعد ضمن معادلة توارث الحكم من المرشحين لتولى مقاليد الامور، وإن كان البعض ينظر بالريبة والشك الى السرعة التي يستحوذ فيها على لسلطة داخل قطر للدرجة التي يطلق عليه البعض بالعراب الذي يملك كل الخيوط .

وسواء كان التغيير الذي شهدته قطر في عملية اختيار ولي العهد تعبيرًا عن رؤية الامير الخاصة او استجابه للمعادلة السياسية الداخلية فقد كانت في كل الاحوال خروجًا على قاعدة التوريث الروتينية .

الامارات
وكان في الامارات اكثر من مثال على التطور في طريقة اختيار ولي العهد. ففي ابوظبي التي تعد كبرى الامارات الاعضاء باتحاد دولة الامارات، جاء اختيار الشيخ خليفة بن زايد ال نهيان رئيس الدولة و حاكم ابوظبي الحالي كولي للعهد في بداية السبعينات وبعد عدة سنوات من تولي الشيخ زايد بن سلطان ال نهيان مقاليد الحكم في العام 1966 تتويجًا طبيعيًا للدور الذي كان الشيخ خليفة يلعبه في الحياة العامة الى جانب والده. ولذلك فإن اختياره لولاية العهد لم يكن فقط تعبيرًا عن رغبة الحاكم فقط بل استجابة لرغبة شعبية ظهرت من خلال الخيوط العديدة التي استطاع الشيخ خليفة وهو --النجل الاكبر للشيخ زايد رحمه الله-- ان ينسجها في فترة قصيرة مع مختلف الشرائح الاجتماعية في البلاد .

اما اختيار الشيخ محمد بن زايد وليًا لعهد ابوظبي وهو الابن الثالث للشيخ زايد رحمه الله والاخ الثاني لرئيس الدولة الحالي الشيخ خليفة بن زايد ال نهيان ، فقد تم على مرحلتين الاولى عندما عين في حياة والده المغفور له الشيخ زايد بن سلطان ال نهيان نائبًا لولي العهد ، ثم بعد وفاة والده وتسلم الشيخ خليفة مقاليد الحكم عندما عين وليًا للعهد وهو ما عنى ان الشيخ محمد حظى بالتزكية لهذا المنصب مرتين مرة من قبل الشيخ زايد رحمه الله الذي كان يملك فراسة مشهودة في اختيار الفريق الذي يحيط به ومرة من الشيخ خليفة بن زايد ال نهيان رئيس دولة الامارات الحالي الذي لم يرث فقط فراسة الاختيار بل يعرف ما يتمتع به الشيخ محمد بن زايد من صفات، خاصة وان فارق السن بينهماجعلته بمثابة اب له فضلا عن انه كان مشاركًا في اعداد الشيخ محمد للحياه العامة، خاصة في قيادة القوات المسلحة حيث كان الشيخ خليفة قبل توليه الحكم نائبًا للقائد الاعلى للقوات المسلحة في حين كان الشيخ محمد قائدا للقوات الجوية وفيما بعد رئيسًا لهئية الاركان قبل ان يصبح الآن، وبعد ان اصبح وليًا لعهد ابوظبي نائبًا للقائد الاعلى للقوات المسلحة .

دبي
في دبي ثاني اكبر الامارات الاعضاء في اتحاد دولة الامارات كان تجاوز القوالب الروتينية في توزيع مسؤوليات الحكم ، اكثر وضوحا دون مساس بالاعتبارات الاجتماعية المتوارثة . ففي عهد المغفور له الشيخ راشد بن سعيد ال مكتوم كان معروفًا ان المسؤوليات التي انيطت بنجله الثالث الشيخ محمد بن راشد ال مكتوم على مستوى الامارة اكثر من حيث الكم والكيف ، و تستند بالاساس الى المؤهلات والصفات الشخصية التي اهلته لتحمل كثير من الواجبات التي فوضها له والده الحاكم . وجاءت النتائج التي حققها في الدوائر التي تولى الاشراف عليها وادارتها مصدقة للامال التي كان الشيخ راشد يعقدها على نجله .ولذلك فأن تعينه كولي لعهد الحاكم السابق الشيخ مكتوم بن راشد ال مكتوم رحمه الله جاء تكريسا لواقع واستجابة لضرورات الحفاظ على زخم واندفاع تجربة التنمية التي بدأت في عهد المغفور له الشيخ راشد بن سعيدال مكتوم والتي كان الشيخ محمد بن راشد أحد ابرز محركيها والركن الابرز في اركانها .

اليوم يتكرر المشهد . فالشيخ محمد بن راشد الذي يقود عملية تنمية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة يجد ان الحكم يحتاج الى اعداد واستعداد . اعداد على مستوى التأهيل والتدريب وهو ما عمل له في تربية ابنائه حيث يقول المحيطين به انه لم يعط لاي منهم امتياز غير مستحق ولا سلطة ليسوا اهلا لها .واستعداد يتمثل في اعتبار الحكم مسؤولية لا سلطة ،وواجب وتكليف وليس امتياز وتشريف .
ولذلك فان اختيار الشيخ حمدان بن محمد بن راشد ال مكتوم كولي للعهد لم يكن دافعه هوى في النفس او ميل شخصي وظهر ذلك واضحا من خلال تعينه اولا كرئيس للمجلس التنفيذي، فيما بدا انه خطوة تمهيدية يختبر فيها قدراته لتولي المسؤوليات الجسام كولي للعهد. وكما كان متوقعًا فإن اختيار الشيخ حمدان بن محمد لولاية العهد في دبي لم يحظ بالترحيب فقط من قبل مختلف الاوساط في دبي ودولة الامارات ككل بل انه اعتبر استنادًا الى الصفات الشخصية التي يتمتع بها باعثًا على اطمئنان لكثيرين ممن حجبت بصمات االشيخ محمد بن راشد المكتوم الكثيرة عنهم رؤية الطابع المؤسسي لعملية التنمية في الامارة .

رأس الخيمة
في الامارات ايضًا كان هناك تجاوز لروتين الاختيار عندما قام الشيخ صقر بن محمد القاسمي حاكم امارة راس الخيمة بتنحية نجله الاكبر وولي عهدة السابق الشيخ خالد بن صقر القاسمي عن ولاية العهد بعد اكثر من ثلاثين عامًا في هذا المنصب، وتعيين نجله الثالث الشيخ سعود بن صقر القاسمي في المنصب الذي يعد بالظروف الصحية التي يمر بها الشيخ صقرحاليًا بمثابة نقل للسلطة. وكان واضحًا ان قرار الشيخ صقر الذي اتخذ قبل حوالى 5 سنوات جاء استجابة لحاجة الامارة للتجاوب مع رياح التغيير التي بدأت تهب على المنطقة والتي لم يكن معيار التوريث حسب التراتبية التقليدية قادرا على مجاراتها والتفاعل مع استحقاقاتها. وقد ظهرت مصداقية ذلك في الدور الذي بدأ الشيخ سعود يلعبه على مستوى الامارة والتي اصبحت تحقق معدلات نمو تفوق بكثير ما يتوفر فيها من امكانيات وموارد .

الشارقة
وكانت امارة الشارقة ثالث اكبر الامارات من حيث السكان وثانيها من حيث المساحة، ايضًا من بين من شكلت ولاية العهد عنصر جدل سياسي فيها منذ مقتل الشيخ خالد بن محمد القاسمي في عام 1972 في الانقلاب الذي قاده شقيقه الشيخ صقر بن محمد القاسمي . فعلى الرغم من أن الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الذي وقع عليه الاختيار ليكون حاكمًا لإمارة الشارقة بعد مصرع حاكمها السابق وابعاد شقيقه الثاني صقر القاسمي، حاول ترتيب البيت القاسمي في الامارة بتعيين شقيقه الشيخ عبد العزيز بن محمد القاسمي قائدًا للحرس الاميري وهو ما كان يعني اعطاءه دور الرجل الثاني في الامارة من الناحية الواقعية ، إلا أن الرياح جرت بعكس ما كان يشتهي ، فقاد الشيخ عبد العزيز انقلابا استولى فيه على الحكم في الامارة قبل ان يتراجع تحت الضغط الرسمي والشعبي لقبول منصب ولاية العهد وهو منصب لم يشغله فعلاً وظل حبرًا على ورق. وبعد سنوات عدة من تلك المحاولة قام الشيخ سلطان بتعيين أحد افراد الاسرة وهو الشيخ سلطان بن محمد بن سلطان القاسمي وليًا للعهد فاتحًا الباب لئن يكون اختيار ولي العهد من بين الاسرة القاسمية الكبيرة وليس من بين ابناء الحاكم بالضرورة.

سلطنة عمان
في سلطنة عمان تشكل ولاية العهد منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان مقاليد الحكم في عام 1971 هاجسًا للعمانين لم تحسمه، إلا وصية أودعها السلطان مجلس الدولة العماني، وفيها اسم من يوصي له بالحكم إذا فشلت الاسرة الحاكمة في اختيار من يخلف السلطان في حال شغور منصبه. على ان عدم وجود ولي للعهد حاليًا لا يعني ان السلطات غير موزعة داخل الاسرة. فالسيد فهد بن محمود آل تيمور نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون القانونية، يعد على نطاق واسع بأنه ولي العهد المنتظر حتى لو لم تتم تسميته فعليا . ويتولى السيد فهد الكثير من المسؤوليات الداخلية لخارجية ابرزها تمثيل السلطان في مؤتمرات القمة الخليجية والعربية .

البحرين
وأخيرًا فإن البحرين هي الدولة الخليجية الوحيدة التي تبدو فيها ولا ية العهد محسومة وتنتقل بالوراثة من الملك الى النجل الاكبر . لكن الخلافات داخل الاسرة خاصة الخلاف العلني الاخير بين ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ورئيس الوزراء الشيخ خليفة بن عيسى آل خليفة عنصر قلق داخل الاسرة، ومن المبكر أن يقال شيء بشأن التداعيات التي تنتج عنه وما اذا كان سيطال موقع ولاية العهد.