الفرحة لا توصف ومقتله يعني الكثير
اغتيال مغنية أنقذ سمعة الموساد
أسامة العيسة من القدس:
يحتفل قادة الموساد، بنجاح أي عملية اغتيال، بفتح زجاجات النبيذ والشمبانيا، ولا بد انه في مكان ما في تل أبيب، فعلوا ذلك، بعد أن تأكدوا من اغتيال عماد مغنية، ولا شك أن فرحتهم بهذا النجاح لا توصف لأنه يعني الكثير، وبالنسبة لهم، فان النيل من الثعلب، يعتبر في أحد أوجهه نجاحا، بعد إخفاقات عديدة في مطاردات لعناصر حزب الله في مدن عالمية مختلفة.
واكثر من هذا فان اغتيال مغنية الذي اعتبر (ضربة معلم) أنقذ صورة الموساد التي تضعضعت، منذ أن فشل رئيسه الأسبق داني ياتوم في اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، في العاصمة الأردنية عمان يوم 25/9/1997م.
وبعد خمسة اشهر من محاولة اغتيال مشعل الفاشلة، أراد ياتوم إعادة الاعتبار لهيبة الموساد، فنفذت مجموعة من الموساد عملت تحت إمرته المباشرة، عملية ملاحقة لعنصر من حزب الله في سويسرا، ساهمت في سقوط المزيد من اسهم الموساد.
في شهر شباط (فبراير) عام 1998م، دخلت مجموعة من عملاء الموساد إلى المبنى رقم 27 من شارع فابر ساكر في بلدة ليبيفيلد بالقرب من مدينة كونيتس في مقاطعة بيرن السويسرية، يقطن فيه مواطن سويسري من أصل لبناني يدعى عبد الله الزين، والنزول إلى أسفل المبنى لفحص إمكانية زرع أجهزة تنصت على هاتفه، باعتباره أحد مناصري حزب الله في لبنان.
و كان عميل للموساد في لبنان، على الأرجح، هو من أخبر رؤساءه أن المواطن اللبناني المغترب عبد الله الزين، الذي عاد في زيارة إلى بلاده التقى مسؤولين في حزب الله واجتمع معهم في بيروت، قبل أن يتوجّه إلى قريته الجنوبية ليلتقي عائلته. ورصد عميل الموساد، الزين وهو عائد إلى سويسرا حيث يقيم، عناصر من حزب الله رافقته حتى مطار بيروت.
وطارد رجال الموساد، الزين، المتهم بجمع التبرعات لحزب الله من أغنياء الشيعة في أوروبا، في عدة مدن أوروبية، حتى عثروا عليه في بلدة ليبلفيد، وتم استئجار بيت سري يقيم فيه رجال الموساد على مقربة من بيت الزين، لتبدأ فصول عملية فاشلة جديدة للموساد.
كثّف رجال الموساد من مراقبة الزين بينما تابع داني ياتوم، التخطيط لعمليته من تل أبيب، وحسب الصحافي البريطاني غوردون طوماس فإن ياتوم quot;أرسل خبيرًا في الاتصالات إلى ليبليفد لفحص صندوق الوصل الهاتفي، فالتقط مجموعة من الصور للقسم الداخلي وعاد بها إلى تل أبيب حيث تولى درسها قسم الأبحاث والتطوير، وتبعًا لذلك أدخلت تعديلات على الأدوات قيد التحضير، كان بين هذه الأدوات جهاز صغير متطوّر يمكّن من مراقبة جميع المكالمات في شقة الزين، وتم ربط هذا الجهاز بآلة تسجيل ضئيلة الحجم تختزن ساعات من المكالمات الهاتفية، وكان لآلة التسجيل قدرة ذاتية على التفريغ الإلكتروني بإشارة معدة مسبقا تأتيها من البيت السري، وهناك في هذا البيت يجري نقل فحوى المكالمات خطيا و ترسل إلى تل أبيب عبر جهاز فاكسميلي سريquot;.
و في ليلة 19/2/1998، تحرّك خمسة من عملاء الموساد لتنفيذ المهمة، نزل إلى أسفل المبنى ثلاثة من العملاء: رجلان وامرأة، وبقي اثنان يقومان بمهمة الحراسة في الخارج، وبدأ الثلاثة ينفّذون مهمتهم وهي وضع جهاز تنصت على هاتف عبد الله الزين، وفي أثناء ذلك وصلت السرداب تحت المبنى سيارة شرطة استدعتها إحدى النساء التي استرعى انتباهها حركة غير عادية أسفل المنزل، وضبطت الشرطة عملاء الموساد الثلاثة، وزعم هؤلاء، أنهم ليسوا إلا سياحا قدِموا من (إسرائيل) واختاروا هذا المكان لممارسة الجنس بشكل جماعي بعيدا عن الأعين، و لكن رجال الشرطة لاحظوا سلكا مشبوكًا في الحقيبة الدبلوماسية مع العملاء، فتم إلقاء القبض على العملاء الخمسة، الذين نجح أربعة منهم بالهروب لاحقا، بطريقة غريبة، عن طريق الادعاء بالمرض والهروب من المستشفى، ولا يستبعد أن يكون تم ذلك بتعاون بين الموساد والاستخبارات السويسرية أو من تدبير الموساد لوحده، ولم يحقق المدّعي العام الاتحادي في سويسرا في هروب العملاء الأربعة، بينما بقي في حوزة الأمن السويسري عميل واحد، كان يحمل جوازي سفر إسرائيليين غير مزيّفين اسمه في الجواز الأول: إسحاق بنتال، وفي الثاني يعقوب تراك، وتم إطلاق سراحه بكفالة في أواخر نيسان (ابريل) 1998، قيمتها ثلاثة ملايين فرانك دفعتها الحكومة الإسرائيلية، مع تعهد إسرائيلي بعودته لمحاكمته، قدمه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية آنذاك إليكيم روبنشتاين، وفعلاً عاد في بداية شهر تموز (يوليو) 2000، ليحضر جلسات المحكمة في محكمة العقوبات الاتحادية في لوزان.
وبالطبع كان أول إجراء اتخذه القاضي هو التأكد إذا ما كان (السيد موساد) غير المعروف اسمه الحقيقي الماثل أمام المحكمة هو نفسه المتهم الذي أفرج عنه بالكفالة، وتم التأكد من ذلك بشهادة اثنين من رجال الشرطة كانا مكلفين بمراقبة العميل مجهول الهوية.
وجرت محاكمة غريبة عجيبة لا تحدث حتى في دول العالم الثالث، لا مجال لذكر تفاصيلها هنا، والمهم انه في يوم الجمعة (7/7/2000) التأمت المحكمة للنطق بالحكم، ولم يكن متوقعًا من خلال سير المحكمة، أن يكون بغير ما أتى عليه.
جرّمت هيئة المحكمة المتهم بالتعامل المحظور لصالح دولة أجنبية، والقيام بنشاط استخباري سياسي، وتزوير وثائق ثبوتية، وحكمت على المتهم الذي لا يعرف له اسم، بالحكم عاما مع وقف التنفيذ ومنعه من دخول سويسرا لمدة خمس سنوات، و دفع نفقات المحكمة البالغة 65 ألف دولار تخصم من الكفالة التي دفعتها حكومة إسرائيل على أن يعاد الباقي لهذه الحكومة.
وحاول القاضي التخفيف من الانتقادات التي رافقت هذا الحكم على المتهم المجهول الهوية فقال إن ما قام به quot;يشكل انتهاكًا عظيما لسيادة سويسرا ولكن المتهم كان مجرد شخص مأمور في دائرة رفيعة المستوىquot;، وهو كلام يمكن أن يثير السخرية من قاضي بارز في سويسرا كهانز فيبريختيغر.
بعد الفشل في سويسرا استقال ياتوم، وأوكل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، في نيسان (أبريل) 1998، رئاسة الموساد لأفراهيم ليفي، الذي ارتبط اسمه بفضيحة عملية اغتيال مشعل الفاشلة في عمان، عندما فاوض على إبرام الصفقة مع الملك حسين مستغلاً العلاقة القوية التي تربطه به، وكان هو على الأغلب وفقاً لمصادر متعددة صاحب فكرة الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، مقابل الإفراج عن عميلي الموساد في الأردن.
ولقي تعيينه ترحيبًا لأنه من رجال الموساد السابقين أي من داخل المؤسسة، ويتمتع بشخصية متزنة بالإضافة إلى كونه شديد الحذر ومن المستبعد أن يتورط بعملية فاشلة أخرى، كما كانت التقديرات بشأنه، وبدأ بمحاولة إصلاح الأخطاء التي تسبب بها سلفه أو حدثت في عهد سلفه وإعادة الروح المعنوية لأفراد الموساد الذين كانت تلاحقهم الفضائح من عمان إلى سويسرا.
وبدأ هليفي عمله محاولا تطويق ذيول عملية بيرن الفاشلة، ولكن كانت اللعنة التي أصابت الموساد مازال تأثيرها موجودا، فتفاجأ بإلقاء القبض في قبرص على عملاء للموساد، اتهمتهم الحكومة القبرصية بجمع معلومات لصالح الحكومة التركية، ووجدها القبارصة فرصة لتلقين عملاء الموساد الذين يسرحون ويمرحون في جزيرتهم درسا، كي لا يعودوا لممارستهم تلك أو يخففوا منها، لذلك لم تستجب الأجهزة القبرصية لجهود هليفي بإطلاق هؤلاء العملاء المقبوض عليهم، ولكن جهودا سياسية مكثّفة وتدخلات أطراف أخرى أدّت إلى الإفراج عن العملاء من قبرص و إعادتهم إلى إسرائيل.
وتفجّرت بعد وقت قصير فضيحة رجل الموساد إيهود جيل، وهي فضيحة غريبة، فجيل هذا قدّم تقارير مفبركة لجهازه وحكومته عن استعدادات سورية لشن حرب ومعلومات أخرى غير صحيحة ادعى أنه استقاها من عميل رفيع المستوى للموساد في سوريا، ولم تعرف ملابسات القصة أو الأسباب التي أدّت برجل الموساد لفعل ذلك، وانتهى ليكون أحد نزلاء السجون الإسرائيلية.
ولم تمض ستة أشهر على تعيين هليفي، حتى عيّن شخص آخر قويّ هو عميرام ليفين نائبا لرئيس الموساد، ليساهم في ترميم الجهاز من الداخل بعد الهزات التي لحقت به، وجعلته أضحوكة على صفحات الصحف العالمية.
وجاءت النتيجة عكسية ومدمّرة، فالجهاز أصبح يديره رأسان وبدا لكلّ منهما له فريق في الموساد، لا يعملان دائمًا في وفاق.
ووصل التدهور إلى درجة أن مقدّم برنامج إخباري في الإذاعة العبرية كان يستضيف نائب وزير الدفاع الإسرائيلي أفرام سنيه وأبلغه بالمعلومات التي تحدّثت عن امتناع عملاء الموساد الميدانيين في الخارج عن العمل ورفضهم تنفيذ أي عمل في الخارج احتجاجا على ما وصل إليه الوضع في جهازهم، وقابل سنيه ذلك بدهشة كبيرة.
ووضعت خطط منها تحويل شعبة البحث في الموساد إلى شعبة استخبارية وتكليفها بجمع المعلومات إلى جانب وظيفتها الأصلية والتي كانت تنحصر بتحليل المعلومات واستخلاص النتائج، وتعيين هيئة ناطقة باسم الجهاز ترتبط بعلاقات دائمة مع وسائل الإعلام، والقيام بتجنيد عملاء بشكل علني كما تفعل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، و ذلك لسد النقص الشديد في القوى البشرية المدربّة، والتي تبيّن أن الموساد يحتاج إليها بعدما لاحقته ولاحقت رجاله اللعنة التي رافقت محاولة اغتيال مشعل من العاصمة عمان إلى بيرن في سويسرا... إلى قبرص.
وذهب نتنياهو، وجاء ايهود باراك مكانه، واندلعت انتفاضة الأقصى، والموساد يعاني من سوء سمعته امام جمهوره، ودفع الإسرائيليون بارئيل شارون إلى مقعد رئاسة الوزراء، الذي جلب معه صديقه ومساعده مئير دغان، عضو حزب الليكود، إلى رئاسة الموساد، وسط انتقادات واسعة، استمرت طويلا، حتى تمكن أخيرا من تحقيق أحد إنجازات الموساد المهمة باغتيال مغنية، وهو بذلك، أعاد لهذا الجهاز هيبته، التي فقدها، وسجل اسمه في صفحات الموساد، كواحد من أبطاله البارزين.