بلند أسس مجلة "مواقف" لكنه اختلف مع أدونيس&بسبب التوجه الأدبي والفكري للمجلة فاستقال&
بعد رحيل زوجها الشاعر العراقي الكبير بلند الحيدري، كثفت الفنانة التشكيلية دلال المفتي، من نشاطها الفني والسياسي. الزميل الشاعر العراقي هاشم شفيق زارها في مرسمها، واجرى معها حديث ذكريات، تروي فيه "أم عمر" قصتها مع زوجها الراحل بلند الحيدري "صديق العمر"&كما تسميه. هنا الحلقة الثانية.
الشاعر الراحل بلند الحيدري
* كان عبد الرزاق عبد الواحد يتحدث وأنا أبكي لما لاقاه من ظروف لا انسانية أجبروه فيها أن يغطس رأسه في غائط السجناء.
وأنت يا أم عمر ماذا حدث لك؟
أنا أُخذ من ثانوية الوثبة، في منطقة الكرخ، حيث كنت أدرّس اللغة الانكليزية للصفوف الاخيرة، حين جاؤوا قلت لهم: دعوني أكمل الدرس وسوف آتي معكم. بعدها أخذوني الى معتقل "كرادة مريم" ومن ثم نقلوني الى دائرة الأمن العامة في بارك السعدون، كان مبنى الأمن العامة مجاورا لبيت أهلي، لأن هذا المكان كان في السابق بيت داوود الحيدري خال بلند، وهو نفس البيت الذي كان يعيش فيه بلند ايان تعرفي عليه في مطلع الخمسينات.
اذن الاتجاه كان الى بيروت؟
نعم، ذهبنا في "النيرن" تلك النقليات الطويلة والكبيرة. في "النيرن" رأينا الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، كان خارجا حديثا من السجن، وحالته النفسية يرثى لها، لقد حكى لناعبد الرزاق طرائق التعذيب التي تعرض لها، كان وقع حديثه عليّ مؤلماً، هو يتحدث وأنا أبكي لما لاقاه من ظروف لا انسانية أجبروه فيها أن يغطس رأسه في غائط السجناء.
وصلنا الى بيروت، كان الجو ماطرا رغم اننا كنا في فصل الصيف، آنها نزلنا في فندق "البريستول" الكبير، بعدها عمل بلند مصححا في احدى الصحف اللبنانية لمدة شهرين لم يدفع له خلالها، الى ان عمل في ثانوية "برمانا" مدرس للعربية ثم مديرا لها فيما بعد. لقد احتضنه الأدباء اللبنانيون حال وصوله مثل عمر أبو ريشة وأحمد أبو سعد وعلي شلق وفؤاد الخشن وأدونيس.
هل استمر في التدريس؟
لا طبعا. لأن لبلند همومه الصحافية والأدبية، اذ سرعان ما عرضت عليه مجلة " العلوم" عملا، وهو تحرير الصفحات الثقافية في المجلة كان يزوره الأدباء والفنانون العراقيون المتواجدون في بيروت، ابراهيم زاير، ابراهيم الحريري، عارف علوان، شريف الربيعي، واخرون. وعمل كذلك في جريدة "الكفاح" لصاحبها رياض طه، وفي "بيروت المساء".
كيف كانت الحياة في بيروت انذاك؟
بيروت مدينة جميلة. والمرحلة كانت مرحلة انفتاح، أحزاب وتيارات وصحف، وثقافة ليبرالية، وسط هذا المناخ أصدر بلند أهم أعماله الشعرية، مثل "خطوات في الغربة" و"جئتم مع الفجر" و"رحلة الحروف الصفر" وأغاني الحارس المتعب" وكتب هناك ديوانه الشعري "حوار عبر الأبعاد الثلاثة" وحسب رأي النقاد يعد نقلة في تجربته الشعرية.
وحياتكم أنتم كيف كانت وسط هذا المناخ؟
الحقيقة في البدايات كنا نفكر كثيرا في العودة، دائما كان لدينا أمل ان يحدث تحوّل ما ونعود الى العراق، ولهذا حتى منفضة السجائر كنا نؤجل شراءها، فأثاث البيت على سبيل المثال أهدانا اياها الشاعر فؤاد الخشن الذي افتتح محل للموبليات "الموند الغانتي" لكننا رغم ذلك كنا مرتاحين وكان لنا اصدقاء وعلاقات ودودة وجميلة مع حسين مروة وجورج غانم وكريم مروة ومحمد دكروب، اضافة الى صحبة أدونيس وخالدة سعيد وسلمى الخضراء الجيوسي وغيرهم.
ألم تكن هنالك منغصات على صعيد التفاصيل اليومية؟
بالطبع كانت لنا مشاكل جدية على صعيد تجديد الاقامة السنوية، مرة ذهب بلند وولدي الوحيد عمر، الى الامن العام، وكان ذلك عام 1977 ولكنهما تأخرا كثيرا، وقتها قيل لنا ان الكتائب اللبنانية قد أخذته، وهناك الكتائب استجوبته عن الاقامة ووضعه وعن احواله في لبنان وفي احدى المرات كتبت صحيفة "العمل" الكتائبية موضوعا اساسيا تتهم فيه بلند كونه السبب الرئيسي في توتر العلاقة بين لبنان والسعودية، مفاد التهمة ان بلند الحيدري مسؤول عن تنظيم خلية شيوعية سعودية في لبنان، طبعا التهمة باطلة وكاذبة، لفقها شخص أراد أن يوقع ببلند ويضع في طريقه العراقيل، لكن الزمن اثبت بطلان هذه التهمة، لأن صاحب هذه الاساءة نفسه جاء ال بغداد يوما لاجئا، هاربا من جحيم الحرب اللبنانية عندما تصاعد أوجهها، والتقى بلند ليعتذر منه عن تلك الفعلة الشنيعة، فما كان منه الا وان استقبله في بيتنا في المنصور وأكرمه على الطريقة العراقية.
من جهة أخرى، كان أيضا لنا الوجه الجميل من الحياة هناك، يومها كان لنا بيت بحري في منطقة الحلوة في "بيبلوس" المعروف بجبيل، وأنا كنت أعمل في السفارة الهندية وعملي، كان هو تلخيص ما تنشره الصحف اللبنانية عن الأوضاع في الهند، كنا نعيش الى حد ما في بحبوحة، نسافر مرة في السنة خارج لبنان، وفي بيروت نرتاد المعارض التشكيلية والمسارح دور السينما، ونذهب ايضا للمطاعم والمقاهي وخصوصا مقهى "الدولتيفيتا" وهناك كنا نرى الأدباء والسياسيين والصحافيين كمنح الصلح ورياض طه وفريد الاطرش وعبد السلام النابلسي وأدونيس وعماد حمدي واكرم الحوراني، وكانت هناك ايضا مقهى "الهورسشو" الشهيرة التي يرتادها نفر آخر من الأدباء.
في البيت البحري كان بلند يجلس في الشرفة البحرية ليكتب مقالته الاسبوعية لمجلة "بيروت المساء" وغيرها من المجلات التي كان يعمل فيها، ولهذا البيت كان يأتي الاصدقاء ليسهروا ويناموا عندنا وكان البيت يتسع لأكثر من عشرة أشخاص من الضيوف.
قال لي مرة بلند انه في وارد استعادة بيته في لبنان، أصحيح ذلك؟
هذا البيت الذي تتحدث عنه هو سكننا الاخير في بيروت، وهو عبارة عن شقة تقع في منطقة "ساقية الجنزير" الذي تركناه اثناء الحرب اللبنانية عام 1976، ليحتل من قبل جماعات مسلحة، وحاول بلند عندما ذهب الى بيروت في العام 1991 اثناء انعقاد مؤتمر المعارضة العراقية، أن يستعيده، فحصل على وعود بذلك، ثم أعطى وكالة لأحدهم لمتابعة الأمر، ولكن المسألة لم تأت بنتيجة، وفي البيت كتب ولوحات ثمينة وأغراض وأثاث وملابس وأشياء أخرى.
من خلال كلامك يتبين ان لبيروت مكانة خاصة عندكم؟
أجل بالتأكيد. لقد كانت لنا علاقات كثيرة مع اللبنانيين، وكانت لنا علاقة مميزة مع الرحابنة وفيروز، وأذكر في بيت غادة السمّان تعرفنا عل فيروز، ومن الرسامين كنا بالبصابصة وعارف الريس، وهنا أتذكر بيت أدونيس في قرية "بيت الديك" على طريق ضهور الشوير، والايام الجميلة التي كانت تجمعنا بيوسف الخال وخليل حاوي وديزي الأمير وسونيا البيروتي مقدمة البرامج التلفزيونية، وليلى الحر من الوجوه الصحافية، وأحلى أيام بلند كانت تلك التي عمل فيها مديرا في "الدار العصرية" حيث طبع كتبا للدكتور المخزومي وعلي جواد الطاهر وللشاعر حسين مردان وسعدي يوسف وطراد الكبيسي ومذكرات كامل الجادرجي، غير عمل الدار. وأسس مع أدونيس مجلة "مواقف" لكن بعد صدور بعض اعدادها اختلف بلند مع أدونيس من ناحية التوجه الأدبي والفكري للمجلة فاستقال بلند في رسالة لطيفة تعبر عن مدى العلاقة التي بينهما لكن الاختلاف في الآراء يبقى واردا بين الاصدقاء وقد حمل أحد اعداد مواقف هذه الرسالة.
هل تحنين الى بيروت؟
بالطبع أحن الى بيروت والى تلك التفاصيل في جسدها الجميل الذي يجمع البحر والجبل، ولكن بعد دخول الاسرائيليين واحتلال بيتنا بدأ الحنين يخفت.
سمعت انكم قد توجهتم الى اليونان أيام اشتداد فتيل الحرب، أليس كذلك؟
في الحقيقة، ذهبنا الى تركيا أولا، وهنا أردنا أن نسجل عمر في احدى جامعاتها، لكن عمر لم يرغب أن يقيم في تركيا، فغادرناها الى اليونان. في اليونان أقمنا لمدة شهر، آنها قد قيل لنا أن الامور هدأت، فعدنا الى دمشق ثم اللاذقية وعبر البحر مخرنا الى بيروت، لكن الامور لم تكن على ما يرام، اذ سرعان ما تصاعدت المواقف بين الاطراف اللبنانية المتنازعة، فقضينا أغلب اوقاتنا انذاك في الملاجئ، فالقصف كان يأتينا من بناية الكارلتون تجاه بنايتنا التي نصبت فوقها المدافع، وهنا عدنا مرة اخرى الى اليونان، فمكثنا هناك قرابة الثلاثة شهور، أنفقنا خلالها كل ما نملك، وقتها أغلق مطار بيروت، وكذلك اغلقت في وجوهنا كل الطرق والاتجاهات،
ولم يكن أمامنا هنا سوى العودة الى العراق فعدنا صيف عام 1977.
البقية في الحلقة الثالثة