&
تنشر "قضايا النهار" هذا النص في سياق رصدها للمواقف والحساسيات العالمية المتعلقة بحدث 11 أيلول، ومن مواقع مختلفة داخل الغرب وفي العالم الاسلامي، أو في "العالم الثالث" عموماً وذلك لاتاحة المجال أمام قرائها للاطلاع على ما يصدر تاركة تحديد الموقف من أي نص لهم طبعاً.
"ليست هذه القضية قضية اسلام": عبارة دأب زعماء العالم على تكرارها طوال اسابيع. آملين جزئياً، بأن تحول دون حصول اعتداءات ثأرية على المسلمين الابرياء الذين يعيشون في الغرب، ولأن الولايات المتحدة، من جهة اخرى، لا تستطيع ان تحتمل كلفة التلميح الى ان الاسلام والارهاب مرتبطان في شكل من الاشكال، اذا ما كانت تريد الحفاظ على الائتلاف الذي شكلته ضد الارهاب.
المشكلة الكامنة في هذا الانكار الضروري، هي انه ليس صحيحاً. فاذا لم تكن القضية حقاً قضية اسلام، فما سبب التظاهرات الاسلامية في جميع انحاء العالم، دعماً لاسامة بن لادن و"القاعدة"؟ ولم تجمهر عشرة آلاف رجل مسلحين بالسيوف والفؤوس على حدود باكستان مع افغانستان، ملبين بذلك دعوة احد الملا للجهاد؟ ولمَ خسارة الارواح البريطانية الاولى في الحرب تعدّ ثلاثة رجال مسلمين قتلوا وهم يحاربون الى جانب "طالبان"؟
لماذا التهمة الاسلامية المتكررة والمعادية للجهود كالعادة، القائلة بأن "اليهود" هم الذين دبروا الضربة على "مركز التجارة العالمي" والبنتاغون، والتي تنطوي على تفسير استخفافي بالذات الى حدّ غريب، قدّمته قيادة "طالبان"، ومفاده ان المسلمين لا يملكون البراعة التكنولوجية ولا التطور التنظيمي اللازمين لتنفيذ عمل كهذا؟
ولماذا يطالب عمران خان، وهو النجم الرياضي الباكستاني الذي اصبح رجل سياسة، بأن يتم الكشف عن الادلة التي تثبت ذنب "القاعدة"، في حين انه يصمّ اذنيه على ما يبدو للتصريحات التي تثبت تورط "القاعدة" والتي يدلي بها الناطق باسم "القاعدة" نفسه (سوف تمطر السماء طائرات، ويحذّر المسلمون المقيمون في الغرب من العيش في مبان شاهقة او العمل فيها)؟ ولماذا كلّ هذا الكلام عن الجنود الاميركيين الكفّار الذين يدنّسون ارض المملكة العربية السعودية المقدسة، في حين ان تحديد ما هو مقدّس لا يدخل في صلب موجات الاستياء الراهنة؟
طبعاً، ان هذه هي "قضية اسلام". اما السؤال الحقيقي فهو: ماذا يعني ذلك بالضبط؟ اذ ان جزءاً كبيراً من الايمان الديني ليس لاهوتياً جداً. ومعظم المسلمين ليسوا محللين متعمقين في القرآن. وبالنسبة الى عدد كبير من الرجال المسلمين "المؤمنين"، "الاسلام" صامد، في شكل مشوش وغير منتظم ونصف مدروس، لا بسبب مخافة الله فحسب - انه الخوف اكثر منه الحب قد يظن المرء - بل كذلك بسبب مجموعة من العادات والآراء والاحكام المسبقة التي تتضمن ممارساتهم الغذائية، ومصادرة "نسائهم" او عدم مصادرتهن، والعظات التي يلقيها الملاّ الذي يختارونه، والنفور من المجتمع العصري عموماً، والذي افسدته الموسيقى والجنس والكفر، ونفور (وخوف) من نوع خاص، من امكان تعرض محيطهم المباشر لغزو اسلوب الحياة الغربي الليبرالي (سموم الغرب).
لقد انهمكت منظمات مندفعة للغاية من الرجال المسلمين خلال الاعوام الثلاثين الاخيرة، في انماء حركات سياسية متطرفة انطلاقاً من هذا "الايمان" وهؤلاء الاسلاميون - يجب ان نعتاد هذه الكلمة، فـ"الاسلاميون" هم اولئك الذين يلتزمون مشاريع سياسية مماثلة، كما يجب ان نتعلم ان نميز بينهم وبين "المسلمين"، وهي كلمة اكثر شمولية ومحايدة سياسياً - يضمون الاخوان المسلمين في مصر، ومحاربي جبهة الخلاص الاسلامية والجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر، والثوار الشيعة في ايران، و"طالبان". الفقر هو معينهم الاعظم، وثمرة جهودهم هي جنون الاضطهاد. وهذا الاسلام المصاب بجنون الاضطهاد، الذي يلوم الغرباء، او "الكفّار"، على كل مصائب المجتمعات الاسلامية، والذي يقترح ان الحل هو اغلاق تلك المجتمعات في وجه مشروع الحداثة المنافس هو في الوقت الحاضر النسخة الاسرع نمواً للاسلام في العالم.
ولا يتوافق ذلك تماماً مع نظرية صموئيل هنتنغتون حول صدام الحضارات، لسبب بسيط هو ان مشروع الاسلاميين ليس موجهاً ضد الغرب و"اليهود" فحسب، بل كذلك ضد نظرائهم الاسلاميين. فمهما كان الخطاب العام والمعلن، ليس ثمة ودّ كبير بين نظام "طالبان" والنظام الايراني. والخلافات بين الامم الاسلامية هي عميقة بقدر حقد تلك الامم على الغرب، ان لم تكن اعمق. لكن من العبث رغم ذلك ان ننكر ان هذا الاسلام المبرّئ لذاته والمصاب بجنون الاضطهاد هو ايديولوجيا تحظى باعجاب واسع النطاق.
لعشرين عاماً خلت، حين كنت اكتب رواية متخيلة حول صراعات السلطة في باكستان، كانت جرت العادة في العالم الاسلامي ان يحمل الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً، مسؤولية كل مشكلاته. وفي ذلك الوقت كما الآن، كان بعض تلك الانتقادات قائماً على اسس سليمة. وليس ثمة مكان هنا لتكرار الخصائص الجيوسياسية للحرب الباردة، و"التسديدات - لكي نستخدم عبارة كيسينجر - المؤذية غالباً التي كانت توجهها سياسة اميركا الخارجية نحو (او بعيداً عن) هذه الدولة المفيدة موقتاً (او المغضوب عليها) او تلك، او دور اميركا في تنصيب قادة وانظمة كثيرين بغيضين ومن ثم خلعهم. لكني كنت اود آنذاك طرح سؤال، لا يزال بالاهمية نفسها اليوم: فلنفترض ان مصائب مجتمعاتنا ليست في شكل رئيسي ذنب اميركا، واننا نتحمل نحن مسؤولية عللنا. كيف يمكن ان نفهمها آنذاك؟ أليس من الممكن ان يؤدي قبولنا لتحمل مسؤولية مشكلاتنا، الى مساعدتنا على حلها بأنفسنا؟
لقد شرع عدد كبير من المسلمين، بالاضافة الى محللين علمانيين ذوي جذور في العالم الاسلامي، في طرح اسئلة مشابهة الآن. وخلال الاسابيع الاخيرة، ارتفعت اصوات لمسلمين من جميع انحاء العالم، ضدّ عملية الخطف الظلامية لديانتهم.
استشهد كاتب عراقي بهجاء عراقي كان قال: "المرض الموجود فينا، هو منّا". وكتب بريطاني مسلم: "لقد اصبح الاسلام عدو نفسه". واخبرتني صديقة لبنانية قادمة من بيروت انه بعد اعتداءات 11 ايلول، بات انتقاد الحركة الاسلامية اكثر جرأة وعلنية. وقد تحدّث عدد كبير من المعلقين عن حاجة العالم الاسلامي الى الاصلاح.
ان هذا يذكرني بالطريقة التي كان يباعد فيها الاشتراكيون غير الشيوعيين بينهم وبين اشتراكية السوفيات الاستبدادية. ورغم ذلك، فان التحركات الاولى لهذا المشروع المضاد هي في غاية الاهمية. ويجب، بغية ان يتصالح الاسلام مع الحداثة، تشجيع هذه الاصوات حتى ترتفع وتغدو صرخة هادرة. ومعظم هذه الاصوات يتحدث عن اسلام من نوع آخر، هو دينهم الشخصي والخاص.
ان اعادة الدين الى دائرة الامور الشخصية، ونزع الصفة السياسية عنه، هما الهدف الذي يجب ان تسعى اليه كل المجتمعات الاسلامية لكي تصبح حديثة. اما الناحية الوحيدة من الحداثة التي تهم الارهابيين فهي التكنولوجيا، التي يعتبرونها سلاحاً يمكن ان يرتد على صانعيه. ولكي ينهزم الارهاب، يجب ان يتبنى العالم الاسلامي المبادئ& الانسانية العلمانية التي ترتكز عليها الحداثة، والتي من دونها ستظل حرية البلدان الاسلامية حلماً بعيداً خارج متناولها.
ترجمة جمانة حداد
عن "النيويورك تايمز"
&