الرياض- محمد السيف: احتفالاً بالمناسبة التي تعيشها السعودية هذه الأيام، وهي ذكرى مرور عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم في السعودية، فقد أصدرت صحيفة " الشرق الأوسط" اليوم ملحقاً خاصاً بالمناسبة، ضمَّ فيما بين دفتيه العديد من المقالات التي تناولت بالتحليل تجربة الفهد النموذجية، كتبها عدد من المفكرين والمثقفين العرب، إعجاباً بمشروعٍ نهضوي قاده الفهد خلال مسيرة عشرين عاماً.
ومن بين الكتاب المشاركين الأستاذ عثمان العمير، رئيس تحرير " إيلاف" الذي أنثالت ذكرياته حبراً على الورق، عندما استنطق الذاكرة فجادت بمواقف عاشها مع مليكه، منذ نعومة أظفاره، عندما ألتقاه، وهو في العاشرة من عمره، في زيارةٍ تفقدية قام بها الأمير فهد بن عبدالعزيز لمدينة الزلفي، مسقط رأس عثمان العمير، وإلى أن سأله عن صحته الغالية، مروراً بالعديد من المواقف في الرياض ولندن، ووقف عثمان العمير في مقاله أمام التاريخ يتساءل: هل سينصف التاريخ والمؤرخون الفهد؟ وهل سيكتبون سيرته كما عاشوها وشاهدوها بتجرد وإنصاف؟ ووقف العمير على أكثر من موقف ودور كبير لعبه الملك فهد بن عبدالعزيز،ليس على المستوى المحلي فحسب، بل على المستوى الإقليمي والدولي.

"إيلاف" تنشر المقالة كما نشرتها الزميلة " الشرق الأوسط"&
يجد كاتب هذه السطور حرجاً كبيراً في الحديث بشكل متوازن، أو بنظرة حيادية، عن شخصية فهد بن عبدالعزيز، فالتخلي عن العاطفة، والعلاقة الشخصية، أمران صعبان بالنسبة لي وأنا استعيد تجربة عامرة معه، ومواقف مميزة شهدتها، إبان ترؤسي تحرير مجلة " المجلة " ومن ثم جريدة " الشرق الأوسط" حتى استقالتي في سبتمبر (ايلول)1998. وحين أمضي بعيداً فترة طويلة من الزمن إلى فهد، أميراً ووزيراً وولي عهد، وملكاً، اتيقن أكثر وأكثر كيف أنه على امتداد تلك الفترة كان ذلك الزعيم الذي يُعدُ بتقديري واحداً من أهم أربعة زعماء من أسرة آل سعود، ذات الدول الثلاث منذ تأسيسها في منتصف القرن الثامن عشر.
أول مرة رأيتُ فيها ( فهد) كانت على أغلفة الكتب المدرسية، إذ جرت العادة أن توضع صورته على الدفتر المدرسي بالابتسامة التي لا تفارقه منذ ذلك الحين، وعندما كنتُ أقل من سن العاشرة، استقبلت الزلفي ، بلدتي، وفداً غير عادي، وربما كان ذلك الحدث هو الأول من نوعه في تاريخها، إذ أفاقت تلك المدينة الصغيرة، ذات مساء وهي شبه ناعسة على مجموعة من الرجال تحملهم سيارات فاخرة، بأثوابهم وعباءاتهم الزاهية، يدلفون إليها تلبية لحفلة عشاء أقامها ابن عمةٍ لي كان يعمل لدى المغفور لها الأميرة حصة السديري، والدة الملك فهد، وكان على رأس الضيوف الأمير فهد بن عبدالعزيز، وكان معه بعض إخوانه، ثم غابت عني صورة الفهد فترة من الزمن، لتظهر من جديد عبر توليه وزارة الداخلية، ومن ثم نائباً لرئيس مجلس الوزراء، من دون أن ننسى أنه رجل التعليم الأول الذي أرسى أسس النهضة التعليمية إلى درجة أنه كما قال، كان يتنافس مع شقيقه الأمير سلطان وزير المواصلات آنذاك، على اجتذاب وإغراء العائدين السعوديين الحاملين شهاداتهم من الخارج، كلاهما يريدهم في وزارته.
انتقل رجل التعليم بدوره إلى تثبيت الاستقرار والأمن، وتكريس واقع تنظيمي جديد للسعوديين، وفهد لم يكن وزيراً للداخلية فحسب، بل كان رجل الدولة الذي يشرف على مناحي الحياة في البلد من خلال ترؤسه للجانٍ عليا مثل التعليم، والبترول والأمن والاقتصاد و الأمور الاجتماعية، وفي أوائل عام 1970م أوفدتني جريدة" الرياض"- وكنت وقتها مندوباً للشؤون المحلية، لتغطية مناورة عسكرية كانت تجري تحت رعاية الأمير فهد، وكان يومها النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية وبحضور الأمير سلطان، وزير الدفاع والطيران. يومها جلست بقربه، وجعلت أتأمل ذلك الرجل الذي لا يظهر أنه الرجل القوي في البلاد، لكن المؤشرات تؤكد ذلك، اقتربتُ منه وقدّمت نفسي على أنني صحافي وأود أن يجيب عن أسئلتي، فقال : أكتب لي الأسئلة.
في صباح اليوم الثاني كنتُ أنتظر عند باب الفيلا المتواضعة التي يقيمُ فيها في قاعدة خميس مشيط، وفتح الباب وأطل فهد بنفسه، يسأل: أين مندوب جريدة " الرياض"؟ ، قلت: ها أنا . سلمني الإجابات وقد كتبها بخط يده، كما أتذكر جلياً.
ذهبت الأيام والسنوات، أتيت إلى انجلترا وأتي لزيارتها، فالتقيته بعد أن صار المسؤول الأول في البلاد، تحت قيادة أخيه المرحوم الملك خالد بن عبدالعزيز، وكنتُ أتشرف بلقياه، هنا وهناك، مواطناً مرة، وصحافياً مرة أخرى، حتى صرتُ في " الشرق الأوسط" ، مضت فترة طويلة قبل أن اقترب منه أكثر وأكثر، فأصبحتُ بفضله، وفضل شقيقه الأمير سلمان، موضع العناية والرعاية.
ليس من عادتنا كسعوديين أن نؤرخ لبلادنا، والكثير من الأحداث والمواقف مضت من دون تسجيل أو رصد، وغيّب الموت الكثير من الشهود الأساسيين، بينما لا يزال الآخرون صامتين عن إثراء المراجع بما حدث، وكيف حدث. ونتيجة ذلك هو أن الأجيال سوف تخسر الكثير من تفاصيل الأحداث التي تنبئ عن مواقف إيجابية للسعودية ورجالاتها على المستويين المحلي والعربي، وكنتُ في الفترة التي أعمل فيها رئيساً للتحرير في " الشرق الأوسط" في غاية الاهتمام كي يكتب خادم الحرمين الشريفين شهادته للتاريخ، كما فعل ونستون تشرشل، وشارل ديغون، وريتشارد نيكسون، وجيمي كارتر، وأنور السادات، والملك الحسن الثاني، وغورباتشوف، وهيلموت شميدت.. وغيرهم من كبار الزعماء، وذات يوم وجدت الفرصة مناسبة كي أثير هذه الأمنية معه، فالتاريخ يقلب صفحاته بسهولة، أما الكتاب فيظل ساهراً ولا يذهب للنوم عادةً، إنني ما زلتُ أرجو أن يجد محبو فهد، وهم كثيرون، فرصة كي تجمع وتصنف هذه السيرة التاريخية لهذا الرجل العظيم وإنني أرى أن أبنه البار الأمير عبدالعزيز خير من يحقق هذه الفكرة، ولا أخال الأمير سلمان بن عبدالعزيز، الذي كان ولا يزال وفياً للفهد، ولتراث الأسرة السعودية الملكية، إلا مؤيد لهذه الخطوة، مباركاً لها، ففهد محب للتاريخ وراوٍ له ، وهو قارئ من الطراز الأول، وكنا نتداول نحن الصحافيين العرب بيننا تسمية له بأنه "رئيس التحرير الحقيقي" ليس لأنه يفرض رأيه ويتصرف كرئيس تحرير ، بل لأنه يحمل أهم ميزة من ميزات رئيس التحرير الحقيقي التي نفتقدها نحن، وهي قراءة كل شيء، فعندما ترى وتسمع كيف يناقش، ويتابع، ويبحث عن الفاصلة والنقطة، يتخيل إليك أنه يمضي يومه في قراءة كل شيء.
لقد تجمعت لفهد كل صفات الزعامة: تربية سياسية، وخلفية ذهنية، ومقدرة على فهم الناس والتعرف عليهم، ثم شاءت الأقدار أن يسوس بلاده بينما العالمان العرب والإسلامي يمران في أدق الظروف وأكثرها حلكة وحساسية، كان الفهد في عين العاصفة حين هبت أزمة النفط عام 1973م، ثم حين صارت البلاد في أوج مجدها المالي وهو الذي وقف بشدة كي تنشأ البنوك الاستثمارية والإعانات الأهلية، وقاد التيار في مجلس الوزراء آنذاك .
وعاش الفهد كل الأزمات التي مرت على عالمنا ، وكان داخلها :
الثورة الإيرانية .
أحداث لبنان .
الحرب العراقية- الإيرانية .
تطورات أزمة الشرق الأوسط .
سقوط الاتحاد السوفيتي .
حرب افغانستان .
أزمة البوسنة والهرسك .
العلاقات المغربية .
نشوء وتمدد الأصولية .
حرب الخليج .
وأحداث كبرى أخرى، تجد لفهد بن عبدالعزيز بصمات فيها، وأدوار أدت إلى منع الكثير من الانفجارات، والإنكسارات، وهذه في حد ذاتها تشكل قواعد للبحث في شخصية فهد، وممارساته، وصوابية نظرته، وأستطيع القول أن المؤرخ أو الباحث سوف يحتار من أين يبدأ ومن أين ينتهي؟
هل سيذكر موقف الملك فهد الرافض للحرب مع إيران من جاني العراق، وأقواله المسجلة نصائح للرئيس العراقي صدام حسين؟ بيدَ أن أحداً من الطرفين لم يسمع فقرر فهد أن يأخذ جانب الشقيق قبل الصديق، أم يعرج المؤرخ على حرب الخليج الثانية، كيف تصرف بحكمة، وبذل المستحيل، وعندما وقعت الواقعة كان الرجل التاريخي ورجل اللحظة والموقف الحاسم، فلم يتردد ولم يرتبك، لم يسأل ولم يضع رجلاً هنا وأخرى هناك، جعل حكمته في خدمة بلاده، من أجل حماية أرضها وشعبها، كان رجل القرار في لحظة القرار، كان قائد الحملة في عز الحملة، ذهب ذلك الرجل السمح المتسامح، الذي يحمل الأشياء بالإقناع، والتسديد، والمقاربة، كان يرى أن السعودية كلها بين يديه، فصاغها كما أرادها ربه له، وخرج منتصراً، آخذاً إعجاب العالم.
هل يروي المؤرخ كيف عمل الفهد لقضية فلسطين متوجاً ذلك بمشروع فهد للسلام؟ وهل يذهب إلى التفاصيل حين كاد أن يفجر حفل العشاء الذي أقامه له الرئيس رونالد ريجان في الثمانينات من أجل القضية الفلسطينية؟ وما الذي سيقوله المؤرخ حين استدعى فهد بن عبدالعزيز السفير الأمريكي في الرياض وطالبه بمغادرة البلاد فوراً، لأنه نطق بكلمة اعتبرها الفهد تدخلاً في شؤون بلاده؟ وبالمناسبة كان هذا على حد علمي، أول إجراء من نوعه يقدم عليه زعيم من الشرق الأوسط منذ بدء العلاقات الأمريكية- العربية.
وهل سيتحدث التاريخ عن قدرة الفهد الفائقة على حل الأزمات الخانقة، والاحتقانات في الداخل والخارج؟.
القصصُ عديدة، وطويلة، تمتلئ بها الجعب والأدمغة، ولكنها للأسف محصورة في تداول الخاصة فقط، فلا تظهر للعالم حتى يعرف الناس كيف يدير فهد بن عبدالعزيز الأمور، وكيف يواجهها، يبقى أن الملك فهد ليس بدعاً، فهو ابن عبدالعزيز وحفيد فيصل بن تركي، وعندما نحتفل بعشرين عاماً من حكمه، فإننا لا ننصف، ربما اقتضى الإنصاف القول أنه في الحكم من قبل تولي المُلك بسنين طويلة، فقد رافقنا منذ أن كان وزيراً للتعليم والمعارف، كان مع كل حجر، مع كل حبة رمل في الصحراء، كان رفيق العلم، رفيق الأمن، رفيق التنمية، رفيق الاستقرار... منذ خمسين عاماً.
في البيت الياباني استقبلني ذات ليلة، وكان حاضراً الجلسة الأخ خالد بن محفوظ.
قلتُ له: مولاي، أراك والحمد لله تتمتع بصحة جيدة.
قال: أتدري لماذا ياعثمان؟ وأكمل: لأنني عندما أضع رأسي على الوسادة أنام نوماً عميقاً، والسبب أنني أنسى غضبي، وأنسى الكلام الذي يغضبني.
دمت أيها العظيم الذي لم يحمل في حياته حبة حقد، ولا يستقر في قلبه مثقال ذرة من غضب.&