&
في الدول العربية ترقب واهتمام بالاحاديث الكثيرة حول مراجعات تقوم بها حكومات الغرب تجاه المنطقة العربية. هناك توقع بأن تعيد واشنطن النظر في سياستها تجاه القضية الفلسطينية، وان تتبلور اعادة النظر هذه في دعم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، مستقلة وذات سيادة كاملة . وهناك من يتوقع ايضاً ان تقوم واشنطن بدور نشيط من أجل وقف عمليات الاستيطان وفقاً لما جاء في تقرير ميتشل. الي جانب ذلك هناك توقعات حول مراجعة يقوم بها مسؤولو الاتحاد الأوروبي تجاه سياسته العربية والشرق الأوسطية. هذه المراجعة ستساهم، كما تقول التوقعات، في احياء عملية السلام في المنطقة وفي تخفيف الضغوط الاسرائيلية علي الفلسطينيين. فضلاً عن ذلك فإنه من المتوقع ان تشمل عملية المراجعة هذه موقف الاتحاد من التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول العربية التي تلتزم بعقود شراكة مع أوروبا.
هذه المراجعات تلقي ترحيباً في الدول العربية، فالسياسة التي تتبعها دول الغرب، بصورة عامة، تجاه العرب هي سياسة تضر بالمصالح العربية، علي أقل تعديل. وفي كثير من الحالات اتبعت هذه الدول القاعدة الصفرية تجاه العرب، أي اعتبار ضعفهم ضمانة لحماية المصالح الغربية، وتحسن احوالهم مصدر تهديد لهذه المصالح. لذلك فإن مراجعة هذه السياسة هو أمر جدير بالترحيب. بيد ان التجارب والنظرة العقلانية الي العلاقات العربية - الغربية تقضيان بعدم المبالغة في تقدير أهمية هذه المراجعة. فلقد سبق لدول الغرب ان سايرت العرب في ظروف معينة مثل الظروف التي اقتضت مثل هذه المسايرة، حتي اذا تبدلت هذه الظرروف عادت السياسة الغربية الي قواعدها الاصلية المتنافية مع المصالح والتطلعات العربية. ونحن نمر اليوم في مثل هذه الظروف حيث يحتاج الغرب التعاون العربي في الحملة العسكرية ضد افغانستان وضد الارهاب، ومن الارجح ان ننتهي مع الغرب الي النتائج نفسها. ومما يؤكد محدودية هذه المراجعة هو ان الحديث عنها غلبت عليه التكهنات والايماءات والايحاءات من دون ان تخرج وتتحول الي مشاريع محددة واضحة المعالم صريحة الاهداف. أما ما تسرب عنها الي الأوساط السياسية والاعلامية فقد اتصف بالغموض. فما هو المقصود بالدولة الفلسطينية القابلة للحياة عندما تكون اسرائيل قد زرعت أراضي هذه الدولة الموعودة بعشرات المستوطنات التي تملك الهيمنة الاستراتيجية واللوجستية عليها؟ هل يعني التوصيف الذي رشح عن الادارة الاميركية للدولة الفلسطينية استعداد واشنطن للضغط علي اسرائيل لتفكيك تلك المستوطنات؟ ام ان الادارة الاميركية تري دولة فلسطين جمهورية موز شرق أوسطية لا تملك من الاستقلال والسيادة والقابلية للحياة الا بمقدار التصاقها وتبعيتها لاسرائيل؟
هناك أسئلة كثيرة تثيرها أحاديث المراجعات التي تجري في الغرب، وهي اسئلة مشروعة وفي محلها. إلا انه من الضروري الا تقود هذه الاسئلة الي اصدار حكم سلبي مسبق علي هذه المراجعات من دون دراستها بجد والوقوف علي معانيها وخلفياتها وتقييم جديتها وتحديد وسيلة التعاطي معها سلباً أو ايجاباً بما يخدم المصالح العربية. من ناحية اخري فإنه من المهم ألا تقود المراجعات المفترضة والمبادرات التي تصدر عن دول الغرب بصدد القضايا العربية الي تعليق آمال في غير محلها علي هذه المبادرات. ان تاريخ العلاقات العربية - الغربية مليء بالوعود الوردية والتخلف عن تنفيذ هذه الوعود، وليس لنا ان نضيف فصلاً جديداً الي هذا التاريخ في وقت تجتاز فيه بعض القضايا العربية، وبخاصة قضية فلسطين، اخطر مراحل تطورها. اذا كانت الحكمة تقتضي ان نتعامل مع المبادرات الغربية متي خرجت الي النور بشيء من الواقعية، فإن هذه الواقعية تدلنا علي اننا اخطأنا في الماضي عندما وضعنا كل بيضنا في سلة الغرب، وعلي اننا نخطئ اليوم اذا كررنا المسار نفسه في العلاقات الدولية. الخروج من هذا الخطأ يتطلب العمل علي بناء التحالفات الدولية المناسبة، هذا فضلاً عن بناء الذات، بالطبع. والتحالفات الدولية التي تفيد العرب هي غير التكتل الدولي الذي يخدم مصالح الولايات المتحدة. ومن اجل بناء مثل هذه التحالفات فإنه آن الأوان للمجموعة العربية ان تتطلع مرة الي الشرق والي الفضاء الآسيوي بدلاً من الانجذاب الدائم الي الغرب. وهذا التوجه الي الشرق لا تمليه علي العرب اعتبارات عابرة أو محدودة الأهمية مثل كسب عدد من أصوات الدول في المحافل الدولية. كذلك فإن الدول العربية لا تتصدق علي أحد في القارة الآسيوية عندما تسعي الي عقد الصداقات والتحالفات في تلك المنطقة من العالم، بل ان هذا التوجه هو من قبيل الأخذ بتطورات العصر وضروراته. هذه الضرورات أملت علي القوي الكبري وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العمل علي كسب ود دول الشرق وتمتين العلاقات معها. ولعل مؤتمر آبك الأخير الذي ضم دول حوض المحيط الهادئ والذي انعقد في شنغهاي ما يؤكد الأهمية الكبري التي توليها الولايات المتحدة لهذه المنطقة. واذا كان هذا هو شأن القوي الكبري مع دول آسيا البازغة، فإنه أولي بالعرب كقوة متوسطة ان يدركوا أهمية هذه الدول وان يعملوا علي تمتين العلاقة معها.
ان الاهتمام العالمي الراهن بدول الشرق البازغة لا يختزل المكانة المتزايدة التي باتت تحتلها هذه الدول في العالم. فهذه الدول الآسيوية لا تزال، علي رغم عثراتها، في مرحلة صعود، اي ان مكانتها الدولية في تنام وتعاظم. ويقترن هذا الصعود بزيادة طاقات هذه الدول، كما يقترن باتجاهها الي تمتين التعاون الاقليمي في ما بينها. ولئن تمثلت نواة هذا التعاون الاقليمي في السبعينات في رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) التي ضمت عدداً محدوداً من الدول ذات القدرات الاقتصادية والعسكرية المتواضعة، فإن هذه النواة تحولت الي عملاق اقليمي اليوم هذا فضلاً عن انها تتوسع عمودياً عبر توطيد التعاون بينها، وافقياً عن طريق زيادة عددها. وكانت الصين واليابان وكوريا الجنوبية أبدت خلال العام المنصرم اهتماماً بالمشروع الذي دعا اليه الزعيم الماليزي مهاتير محمد عندما اقترح تأسيس سوق مشتركة لدول شرق آسيا. الا ان هذا الاهتمام اخذ يتبلور، كما لاحظ سوباتشاي بانيتشباكدي، الأمين العام المقبل لمنظمة التجارة الحرة الدولية في خطوات عملية لتحقيق هذهالسوق في سنة 2008، اي في السنة نفسها التي حددت كموعد لإنجاز مشروع منطقة التجارة الحرة العربية الكبري.
ان قيام هذه السوق سيؤدي الي نتائج اقتصادية واستراتيجية بعيدة المدي وتؤثر تأثيراً كبيراً علي أوضاع السياسة الدولية. فدول شرق آسيا تعتمد حالياً اعتماداً كبيراً علي التصدير الي السوق الاميركية، وهذا الاعتماد يؤثر علي مواقف وسياسات دول المنطقة علي الصعيد الدولي، ويضطرها في بعض الاحيان الي مراعاة المصالح الاميركية علي حساب المصالح المحلية. هذا الوضع سيتغير عند قيام السوق التي ستستهلك، في تقدير سوباتشاي، القسم الأكبر من صادرات دول المنطقة وتمكنها من التخفيف من الاعتماد علي الاسواق الاميركية.
من النتائج المتوقعة ايضاً لقيام سوق شرق آسيا واستمرار النمو في اقتصادات المنطقة ازدياد الطلب علي صادرات النفط وعلي الاستثمارات الاجنبية. ومن اجل تلبية حاجتها الي النفط، فإن دول المنطقة تتجه الي عقد الصفقات مع بعض دول آسيا الوسطي ومع روسيا، الا انها في مطلق الحالات ستظل في حاجة الي النفط العربي الجيد النوعية والرخيص السعر نسبياً، وسيزداد الطلب عليه مع التحسن في الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول. ففي العام الفائت، ومع التحسن الطفيف الذي طرأ علي أوضاع دول المنطقة زادت مستورداتها من النفط العربي، كما يبين التقرير السنوي لمنظمة الدول العربية المصدرة للنفط (أوابك)، كذلك فإن دول شرق آسيا توفر بيئة مفضلة وملائمة للاستثمارات العربية.
المصالح الاقتصادية والاعتبارات السياسية تحض الدول العربية علي تطوير علاقاتها مع دول شرق آسيا. وهذا الاتجاه سيستقبل بالترحاب في تلك المنطقة حيث للعرب فيها صداقات تاريخية من أيام الكفاح المشترك ضد الاستعمار وضد هيمنة الدول الكبري وتأسيس حركة عدم الانحياز. وكما اشترك العرب في الماضي مع اصدقائهم الآسيويين في العمل من اجل اقامة مجتمع دولي متأثر بقيم العدالة والمساواة، وكما ساهموا معاً في تخفيف حدة النزاعات الدولية ومن امكانية وقوع المواجهة النووية بين الجبارين، فإنهم يستطيعون اليوم التعاون من اجل نظام دولي جديد غير خاضع لمصالح طرف واحد من أطرافه. وفي هذا السياق فإنه يمكن للطرفين، اي لمجموعة الدول العربية ولدول آسيان، ان يتعاونا سوياً علي عقد قمة آسيوية تكمل سلسلة مؤتمرات القمة القارية الاميركية والأوروبية والافريقية، وتكون وسيلة من وسائل تطوير التعاون بين الدول العربية واصدقائها الكثر في القارة، وهو تعاون له آثاره المفيدة في حقول عدة منها تنمية العلاقات التجارية بين العرب والآسيويين علي نحو يفيد المصدرين والمستهلكين العرب، ومنها ايضاً تشديد الضغط الدولي علي الاسرائيليين من اجل انهاء احتلالهم للأراضي العربية.(الحياة اللندنية)

ہ كاتب وباحث لبناني.