&
محمد ابرهيم : الاكاديمي الاميركي صموئيل هنتنغتون، صاحب نظرية "صراع الحضارات"، طرح في ندوة اخيرة له برنامجا لتفادي الصراع بين الغرب والاسلام.
البرنامج يلقي بمسؤوليات على الولايات المتحدة، وعلى الدول الاسلامية، وذلك لتجنب المعطيات الدولية الراهنة التي تؤكد صحة النظرية، ولو لم يقل صاحبها ذلك.
وما لم يقله هنتنغتون قاله البرنامج نفسه، فهو يشير عمليا الى مسؤوليات الطرفين في جعل "النظرية" حقيقة واقعة.
انه يطلب من الولايات المتحدة الكف عن "اعتبار ثقافتها ثقافة عالمية واعتبار ان الآخرين يرغبون ان يكونوا مثل الاميركيين". كما يطلب من واشنطن تخفيف تدخلاتها العسكرية الخارجية، والمباعدة بينها وبين اسرائيل. كما يطلب دعما اميركيا لتنشيط التنمية الاقتصادية في الدول الاسلامية الفقيرة.
وكلها بنود تشير الى مسؤولية الولايات المتحدة عن اتخاذ الصراع الراهن طابعا دينيا - حضاريا.
فعندما تصر الولايات المتحدة على تعميم قيمها، وفرضها، تستفز قيم الآخر وتجعله في موقع الحرص المبالغ فيه على قيمه التقليدية.
وعندما توظف القوة العسكرية في خدمة خليط من المبادئ والمصالح، تجعل الرد يستهدف المبادئ نفسها، فتظهر المبادئ الاخرى، اي طريقة عيش الآخرين التقليدية، نقيضا لها.
وعندما يبدو ان المعايير التي تضعها واشنطن للعالم كله لا تنطبق على اسرائيل، لاسباب تبقى غامضة، رغم بديهيتها في السياسة الاميركية وبالنسبة الى الاميركيين، فانها تستثير في المقابل تفسيرات اشد غموضا، وتتيح ربطا بين خلفيات حضارية ودينية ليست هي بالتأكيد في خلفية هذه العلاقة الخاصة الاميركية - الاسرائيلية.
اما عندما لا يوازي الاهتمام العسكري بالعالم، ورديفه الاهتمام الايديولوجي - التجاري، اي اهتمام بالدول والمجتمعات الاكثر تضررا، او الاكثر تأخرا، فإن ذلك يؤدي الى ايجاد "جنّات" لأكثر النزعات المحافظة جذرية، حيث تتوهم انها قادرة على مواجهة اكثر الاطراف قدرة على السيطرة في العالم.
ولا يقل برنامج هنتنغتون قسوة في تعاطيه مع الدول الاسلامية، فهو عندما يدعوها الى ان تكون اكثر ديموقراطية في التعامل مع معارضاتها، يشير الى دورها الكبير في تحويل المعارضة المعتدلة الى معارضة متطرفة، اي اصولية.
كما انه عندما يدعوها الى تبني نموذج من الحداثة لا يتناقض مع قيمها التقليدية يلمح الى علاقتها المزدوجة، المرائية، بالغرب. فهي تتحالف معه على الصعيد السياسي العام فيما تشجع على المستوى المحلي، الافكار والقيم التي تشكل البيئة الطبيعية لنمو اعدائه الجذريين.
هذا البرنامج الذي يطرحه هنتنغتون يبدو قريبا من كثير من الاتجاهات التي تعارض من مواقع مختلفة نوع الهيمنة العالمية التي تمارسها الولايات المتحدة بعد اكثر من عقد على تحولها القوة العظمى الوحيدة في العالم. مع ان تلك الاتجاهات لا تمت، عموماً، بصلة الى نظريته في "صراع الحضارات" الذي افتتحه انتهاء صراع المعسكرين الاميركي والسوفياتي.
في المقابل نجد ان مؤيدي هذه النظرية، وهم اليوم مسلمون في اكثريتهم، يرتاحون الى ما يشبه الشق الأول من برنامج هنتنغتون، شق الانسحاب من الشؤون العالمية، فيما يعارضون بالتأكيد جانبه المتعلق بنموذج الدولة الاسلامية التي تجمع بين الحداثة والديموقراطية والقيم التقليدية.
اما واشنطن التي تتزعم اليوم المستخفين بنظرية ان صراع الحضارات حلّ محل صراع المعسكرات، فانها تبدو، على الصعيد العملي، اكثر الاطراف نفخاً للحياة فيها.
فعندما ترفض الولايات المتحدة الربط بين الاسلام والارهاب، لا تفعل ذلك فقط سعياً الى تأمين شروط النجاح لمعركتها الراهنة ضد "طالبان" و"القاعدة"، وليس فقط مراعاة لحساسيات العالم الاسلامي الصديق او الاسلام الذي بات جزءاً مكوناً للمجتمع الاميركي نفسه، بل تفعل ذلك اولاً وأساساً لأنها لا تصنف نفسها، على اساس ديني. والفرق كبير بين نمط الحياة الاميركي والتشكيل الديني للمجتمع الاميركي.
لكن رفض تصنيف الصراع الراهن باعتباره صراعاً دينياً، والتشديد على ان ما تواجهه الولايات المتحدة هو الشر بنفسه، وليس ديناً من الاديان، لا يلغي ان ما تقوم به هو الداعم الاول لنظرية صراع الحضارات.
اذ لا يكفي ان تغيّر واشنطن الاسماء حتى تتغير الوقائع. وهي اذا استمرت في حصد انتصاراتها في افغانستان وخارجها، وخصوصاً في العلاقة مع الفلسطينيين، فانها تؤسس بذلك لصراع قد يتخذ اشكالاً غير منظورة اليوم، لكنه بالتأكيد سيتغذى من الاحباط الذي يشعر به العالم الاسلامي اليوم.
بعد حرب الخليج الثانية& نفّس جورج بوش الاب الاحتقان العربي - الاسلامي، في مدريد. اما بعد كابول اليوم فان جورج بوش الابن يعدنا بحملة مستمرة تقتصر عملياً على العالم الاسلامي ودوله. فهل من داعم اكبر اليوم من جورج بوش... لنظرية هنتنغتون؟ (النهار اللبنانية)