لعل الحرب في افغانستان عند ظهور هذه الاسطر، باتت في حكم المنتهية. هذا يضع حداً لآلام الشعب الافغاني الذي له منا كل حنان ونرجو ان يرتفع زعماؤه الى مستوى مسؤولياتهم فلا يتقاتلوا فيقدموا لهذه الامة كل اسباب الرقي والرخاء القادرين وحدهما على ان يزيلا التقاتل الممكن تفجره.
وقلوبنا ايضاً الى الشعب الاميركي في المحنة الاخرى التي حلت به في الحادي عشر من ايلول فإن احباطه وهلعه مؤذيان له ولنا. ليس احد بمنأى عن المصيبة مهما كان كبيراً. خروج الاميركيين من الهلع يكون باندفاعهم الى دعم الفقراء في العالم. هكذا يتحرر الكبير من كبريائه كما يتحرر الصغير بمحبوبيته وشعوره انه مهم كالكبير او اكثر. لعل من ادار مصائر الشعوب يفهم ان سعادة الكل في اعتبار هذه الانسانية واحدة بحيث لا يفصلها المال الكثير او القليل، ولا يؤذي السلطان من كان بيده او كان باعناقه. الاميركيون شعب يصلي ويعرف مجد الله في السماء كما نادت به الملائكة عند ميلاد السيد، عساه يعرف ان السلام على الارض الذي غنته الملائكة ايضاً هو اولاً مسؤولية من كان المال بيدهم والسلطان وان هذا يترجم في دنيانا بوسائل سياسية لا تجريح فيها ولا تعنيف.
ولعل الادارة الاميركية تفهم صدق الشعب اللبناني الذي حمل مفكروه قضية فلسطين منذ مئة عام وحمل شعبه القضية منذ السنة الـ،1948
لعلها تفهم ان تمسكنا بالمقاومة الوطنية جزء من التزامنا الانسان اللبناني والانسان العربي المحيط بنا والذي ارضه لا تزال محتلة. لعل كل الشعوب تدرك ان المقاومة هي على طريق الانسنة وانها تعود بالخير على كل من عانق الحرية التي لا تتجزأ بين مدى ومدى وبين حقبة واخرى. العمق الانساني للمقاومة هو ما حدانا على ان نرفض تهديدها بمراقبة حساباتها وتجميدها.
* * *
غير ان قلبنا على العراق وكان قمة وكثافة في الحضور العربي طوال العهد العباسي. وبلغت فيه الحضارة العربية ذروتها. وفيه طليعة مثقفة ذوّاقة للشعر والفنون ومقيمة في الحداثة. العراق يحمل طاقة في النهضة العربية المرجوة وضربه قصف لنا جميعاً وسبب حزن لا ينتهي.
العراق قومي عربي في مشاعره الشعبية وفيه مسيحيون كثيرون مقيمون ليست مسيحيتهم طارئة وهم مشاركون في السلطة ولهم حضورهم الاجتماعي. غير ان بين العراق واسرائيل حذراً كبيراً وهي تذكره من وقت الى آخر على انه خطر عليها. واليهود الاميركيون مسيطرون على الاعلام في الولايات المتحدة التي لا تزال منفذة للحظر. وعلى رغم انحسار الحرب على الافغان يبقى ان من منفعة اليهود في العالم ان يبينوا ان الحرب قائمة بين المسيحيين والمسلمين. والعقلاء منا يعلمون انها ليست كذلك ولكن قد لا تبقى لنا حيلة ازاء هذا الجنون العميم وقد لا تكون لنا طاقة هنا لاسكات لغة الموت.
اذا امتدت الحرب ودخلنا عولمة جديدة هي عولمة الموت فهذا من شأنه ان يوسع الشرخ بين اميركا والمسلمين. واذا كان المسلمون لم يشفوا من جرح الصليبيين ولا من جرح الاستعمار قديمه وحديثه فلا شيء يثبت لهم انهم غير مستهدفين. طبعا بتعميق التحليل لا يعيش الغرب هذا الصدام خلافا مسيحيا - اسلاميا وقد قلنا هذا نحن وسوانا غير مرة. ان اي اتساع لرقعة الحرب يثير تشنجات لا يستطيع احد ان يعرف قوتها. وليست الادارة الاميركية مهتمة كثيرا بالمسيحيين العرب لتدرك ان اي انفعال في الشارع الاسلامي يؤذيهم. الغرب كله - على رغم علماء الاستشراق والسائحين في الارض - يفهم ان الشرق مسلم فقط، انى لك ان ترشد الغرب الى ان الارهاب ليس من طبيعة الاسلام وان المسلم يقول له كتابه الا يعتدي الا اذا أعتدي عليه، لا يهم ارباب الحرب كثيرا ان يقرأوا الآيات البينات التي تكشف هذا المعنى بوضوح.
* * *
في العاصفة اذا امتدت الى ما بعد الحدود الافغانية يحق للمسلمين ان يغضبوا والمسيحيون المتنورون شركاؤهم في هذا الغضب. ونحن صائمون معهم رمضان بمعنى اننا معهم في مبراتهم ومجاهدتهم الروحية لأن "الصوم لي" يقول الله في تراثهم. فاذا كانوا مع الله في كبح شهواتهم والتماسهم وجهه المبارك فمن هذا انهم مع السلام لأنفسهم ولنا. من بعد رمضان الفطر والفطر الذي يلوح لي في الافق الكوني هو ان يفرح فقراء الارض جالسين الى مائدة الحرية والمعرفة والتواضع معا. لعلها هي ايضا - بتجاوز المعنى الحرفي - تلك التي تحدث عنها القرآن بقوله: "قال عيسى بن مريم اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك" (سورة المائدة، الآية 114).
غير ان هذه المجالسة بيننا مسيحيين ومسلمين تتطلب حكمة كبيرة وهدوءا كبيرا، الصحوة الاسلامية الكبرى لا تحتوي على عنصر التعدي على الاهلين. غير ان الجماهير اذا تأذى احساسها معرضة لغضب قد يصير مخيفا. نحن نتمنى على القيادات اليقظة الا تفلت مقاليد الامور من يدها فتوحي ان التلاحم المسيحي - الاسلامي في لبنان هو وحده الذي يحفظ البلد من التصدع والدم.
اذكر دائما تحذير المغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي قال غير مرة ما مفاده ان لبنان مسيحيا فقط لا قوام له وانه مسلما فقط لا يقوم. حذار الهجرة وليس من اغراء بها اعظم من الفتنة اذا حلت.
هذا السهر يتطلب ارشادا دائما. نحن احوج ما نكون الى كلام علماء الدين الاسلامي وفي لبنان منهم نخبة كبيرة عاقلة، دقيقة التحليل حادة الرؤية. ما يفخر به المسلمون ان الاسلام دين الحياة وانه شامل للوجود. ما يعنينا اليوم من هذا الوجود السلام. والسلام من الاسماء الحسنى وينعكس سلاما على الارض وخلافة لله في الارض. عندما كان عرب الجاهلية يلقون السلام في البادية كان هذا ليطمئن من مروا به. نحن تجاوزنا هذا الى السلام - الفعل.
لبنان ليس بادية. انه مدنية. له نظام المدينة الكبرى حيث يتلاحم المواطنون ويتلاقون بالسماحة، والعلماء امة واحدة اذ ليس عندهم حماسة باطلة، ولا شيء يعوزهم حتى يتحلوا بالشجاعة والاقدام عند حلول الاوان.
ان الكلمات التي تفوه بها سماحة مفتي طرابلس الشيخ طه صابونجي ومطارنة المدينة بعد حادث صغير مؤسف كان فيها من الحق ومن الطراوة ما يجعلها نموذجا لكل الكلمات، قد تحتاج السهر الى تفعيل بصورة صيغة لمجالسة من شأنها ان توطد اخاء العلاقة وحرارتها حتى تتوارى العاصفة ويحل علينا سلام الرب.(النهار اللبنانية)
&