"سبحان البيغيِّر وما بيتغيَّر"!
صار الرئيس جورج دبليو بوش، الذي تولى الاحكام ولم يكن يعرف من العالم الخارجي غير جارته المكسيك، يستقبل في مزرعته في التكساس وارث قياصرة الروسيا - ووارث ستالين كذلك - ويناديه امام الصحافة بـ"صديقي فلاديمير"!!!
هل يعني ذلك ان العالم صار فعلاً واحداً، و"العزيز جورج دبليو" رئيسه؟
لا، لا... بل العكس!
مشهد الرئيسين العملاقين يتنادمان يعيد الى الاذهان صورة الرئيس فرانكلين روزفلت وهو يمازح اعظم ديكتاتور في القرن العشرين، واسوأ طاغية، جوزف ستالين، فيناديه "انكل جو"... ثم يتجالسان، في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة، في المنتجع الروسي "يالطا" ومعهما ونستون تشرشل...
كان ذلك في شباط ،1945 وكانت الحرب العالمية الثانية تشرف على نهايتها، فقيل ان الثلاثة الحلفاء الكبار تقاسموا آنذاك العالم. واستمر التقاسم يترسخ، رغم انشاء "منظمة الامم المتحدة" وشرعتها التوحيدية... فأسدلت موسكو "الستار الحديدي" (والتعبير لونستون تشرشل) على حصتها من العالم، ثم بنت جدار برلين في قلب عاصمة اوروبا المنهزمة، ودخل الجميع في "حرب باردة" غالباً ما كانت حامية جداً، وخصوصا في الدول التي تحوّلت ساحات صراع على الموارد والمواقع والساحات، من الفيتنام الى لبنان... لبنان الذي كان، وهو لا يدري، موقع المعركة الاخيرة في حرب النصف قرن!
- 2 -
هل اجتمع الجباران مرة أخرى ليتقاسما العالم من جديد؟
هل نحن امام "يالطا" جديدة؟
يالطا ثانية سيدفع "العالم الثالث"، اي نحن الصغار، أهل الاحلام الرومنسية، ثمنها تكراراً، كما دفعنا ثمن يالطا بترولاً عربياً لاميركا - مثلاً - وقواعد في الخليج... و... و... وبطولات انهارت على اعتاب موسكو، كالناصرية وفلسطين و...لبنان، بالطبع!!!
* * *
ليس المجال هنا للتأريخ بعد، ولا لتفسيره.
في لغة الواقع، هذه بعض الملاحظات التي قد تساعد في ترقّب ما يحمله المستقبل:
اولاً: صحيح ان خليفة ونستون تشرشل لم يكن حاضراً في تكساس مع الرئيسين بوش وبوتين... غير انه كان يحمل "كلمة السر" الى اوروبا المستغيَبة، فيدعوها الى قبول روسيا في حلف شمال الاطلسي، كعضو مكتمل العضوية، لان معالم التحفظ "العدائي" حيالها قد سقطت كلها. (ويصح هنا، بين هلالين، السؤال الذي وجهه نائب بريطاني معارض الى انطوني بلير: هل هو رئيس حكومة "صاحبة الجلالة"، ام هو وزير خارجية واشنطن؟... لعل الاثنين، في عالم الغد، واحد!!!)
ثانياً: في ظننا ان انطوني بلير يريد ان يحتوي، في الاطار "الاطلسي"، اي الاوروبي خصوصا، الاختلاف الذي لم يتمكن جورج بوش من حسمه مع "صديقي فلاديمير"، رغم كل المظاهر... اي التوصل الى تفاهم نهائي حول مشروع "الدرع الصاروخية" (مشروع بوش ذي الاولوية المطلقة) وخفض الاسلحة النووية الروسية وتوقيع المعاهدات النووية التي لا تزال موسكو تتردد في توقيعها بل تنفيذ ما كان موقعا منها.
ثالثاً: زبدة الاتفاق الاميركي - الروسي - الاطلسي (الاوروبي) هي اذاً تكريس الحلف الدولي ضد الارهاب... وأهم ما فيه، مما هو غير معلن بالطبع، امتناع اي من الفرقاء عن توسّل الارهاب ضد الآخر (وهذا ما كان يحدث، فلا ارهاب ينجح بدون حماية دولة كبرى وتأهيلها له وتزويدها اياه ادوات النجاح!!!) ومن ثمّ المشاركة في مكافحته.
رابعاً: هذه المشاركة - وهنا الحدث الاهم في عالم ما بعد 11 ايلول - ستكون جماعية... فلا احادية اميركية بعد الآن، ولا رئاسة أميركية للعالم تحكمه من علو قاذفات القنابل العملاقة والصواريخ العابرة للقارات التي ثبت انها، على جبروتها، لا تكفي لاعتقال بن لادن و"سوقه الى المحاكمة" (ترى، هل ثمة من له مصلحة حقا في مثول بن لادن في محاكمة علنية؟؟؟) وتدبير ائتلاف بين قبائل تتولى حكماً بديلاً من طالبانه.
- 3 -
... وتبقى خارج العالم الاميركي - الروسي - الاوروبي عوالم ثلاثة، كلها صعبة المعاملة، ولكنها غير مستحيلة التعامل:
اولاً: العالم الصيني... دنيا قائمة بذاتها، ربع البشرية، أقل أو اكثر قليلاً، والحسابات المعادلات متغيِّرات ابداً.
وقد بدأ هذا العالم "التعولم" مع الآخرين عبر انضمامه الى منظمة التجارة العالمية، وفي جعبته الصين الصغرى وقد سمّيت "الصين تايبه منطقة ذات سيادة جمركية". والصين، على تثاقلها في التحرك، كثيرة المطامح ولو بدت في الظاهر قنوعة. وستبسط نفوذاً هادئاً متزايداً على محيطها، يكسبها ثقلا متزايدا في السياسة الدولية بحيث يجد المثلث الاميركي - الروسي - الاوروبي نفسه مضطراً الى رسم قواعد جديدة للتعامل معها بسلام وتكافؤ في المصالح المتبادلة.
ثانياً: افريقيا، وهي قارة الهموم المتراكمة العزلة، بنسبة ما تتناقص اهمية مواردها وتتعقد قضاياها الداخلية. حظها قليل لمئة سبب وسبب، وأهم هذه الاسباب انها لا تشكل خطرا على السلام العالمي.
ثالثاً: وهذا بالنسبة الينا نحن هو الاهم: "العالم الثالث" سابقا، اي الشرق الاوسط وعمقه الاسلامي. سيكون هذا العالم موضع "عناية" المثلث الاميركي - الروسي - الاوروبي لانه منبت الاخطار... بما فيها خطر عودة الارهاب، في ابسط الاحوال، وتفجّر الحروب، في اسوأها!
* * *
ولنتحدث قليلا عن عالمنا الثالث هذا، لانه عالمنا.
اولاً: تأكيد البيان الاميركي - الروسي على ضرورة قيام مسعى جديد لحل القضية الفلسطينية معناه تفاهم بين الجبارين على منع استمرار الحرب. والحرب هذه مستحيلة الاستمرار اذا حزمت اميركا امرها وحجبت عن اسرائيل وسائل الاستمرار فيها، من اسلحة وذخائر ومساعدات مالية.
ثانياً: اذا صحّ ما قيل من ان وزير الخارجية الاميركي قد عدل عن اعلان مشروع السلام الذي كان مرتقبا، فليس ما يمنع العرب من اعلان مشروع يتلاقى مع المبادرة الاوروبية، الاقدر من اميركا على التحرك عربيا بحرية، وقد بدأ تحركها بالرئيس شيراك ويستمر اليوم بجولة بعثة الاتحاد الاوروبي التي سبق ان قالت وتكرر ان موقفها، بل اهتمامها الحيوي، ينطلق من ان لا خطر حربٍ يهدد اوروبا اليوم سوى حربٍ تنطلق من الشرق الاوسط. فكيف لا تضع كل ثقلها - وثقلها مع اميركا وروسيا كذلك - في ميزان السلام؟
ثالثاً: كان احرى بالرئيس عرفات ان يعلن الدولة الفلسطينية قبل ان تعلن اميركا، وحتى "بعض" اسرائيل (شمعون بيريس) استعدادها لقبولها... اذذاك لما كان في وسع "الغير" ان يجعل الدولة هبة منه ومكسباً يتنازل لنا عنه. ولكان في وسع فلسطين ان تدخل المفاوضات كدولة، لا كمطالِبة بأن تكون دولة!
المهم ان يخلق العالم اطاراً ما، يضمن قيام الدولة، وشيئا من السلام، من غير انتظار الاتفاق على كل نقاط الخلاف... أو يدوم الخلاف، وتعود الحرب، و"يفرقع" الارهاب. ذلك هو التحدي!
رابعاً: المطلوب من المثلث الاميركي - الروسي - الاوروبي ان يتوصل الى ميثاق تعايش مع "شرقٍ عربي - اسلامي" من غير كوابيس: لا الكابوس الفلسطيني، ولا الكابوس العراقي، ولا خصوصاً القطيعة الايرانية - الغربية.
* * *
اذا رفع عالم "المثلث المتعولم" يده عن شرقنا الاوسط، وأقام حالا من "التطبيع" في العلاقات معنا، سقطت حاجتنا الى البحث الدائم عن صراع معه، تارة ارهابا، وطورا حربا، وفي كل حال وطور حقداً مترجماً الى تطرف ديني هو لنا بمثابة التحصين "الكياني" ضد اخطار الاستعمار... علماً بأنه، في النهاية، يبقى تحصيناً واهماً!
ذلك ان الاصوليات الدينية الاسلامية ما نشأت لولا اجتماع سببين أديا الى نشوئها: الاصولية الصهيونية، في قوميتها الدينية، والاستعمار الغربي الذي كانت لنا الاصولية الاسلامية بمثابة العقيدة الاستنفارية ضد اخطاره.
ولا ننسى - ويا ليتنا نتذكر أكثر فأكثر - ان العالم العربي والاسلامي كان في اواخر القرن التاسع عشـر واوائل العشرين قد انطلق في نهضة فكرية علمية عمرانية ودينية - احد اكبر أئمتها جلال الدين الافغاني بالذات - عندما اعتدى علينا الغرب بالصهيونية والاستعمار، فانكفأنا عن "النهضوية" الى السلفية والاصولية.
والظاهرة كانت تكرارا لما شهدناه في اوائل القرن التاسع عشر، مما يكثر ذكره هذه الايام: "الوهابية" التي بدأت حركة تحرر من الاستعمار العثماني، تحصنت بالدعوة الى الاصولية كمعارضة لابتعاد العثمانية عن قواعد الدين الحنيف وغرقها في الفسق والفساد!... فانساقت في ما بعد الى ما انساقت اليه، وليس هنا مجال المزيد!
- 4 -
أما بعد، وبعد...
في عودة الى منادمة الرئيسين بوش وبوتين، يحضرنا، من وحي هذه الجولة، اقتراح:
ثمة ثلاثة امور يجب ان يفعلها الرئيس بوتين عندما يرد له صديقه "جورج دبليو" الزيارة في مسقط رأسه بطرسبرج (التي "قيل لي انها من اجمل مدن العالم"!):
أولاً: يهديه ترجمة انكليزية (طباعة "لينينغراد" ايام زمان) لكتاب دوستويفسكي: "الاخوة كارامازوف"... علّه يدرك عمق التحليل النفسي الروسي، اللازمن يحدّه او يغيّر فيه!... ويدرك اذذاك كم اننا جميعنا اخوة ونتباعد، ثم نتصرَّف... هكذا. فهذه طبيعتنا !
ثانياً: يصطحبه لزيارة الكسندر سوليانيتسين، النبي الروسي المعاصر الذي نفي وتعذّب من اجل الحرية كما لم يتعذب له مثيل. ولم يعد من هجرته لروسيا الا عندما تفاءل بعودتها الى مثُلِها المقدسة، عقب سقوط الامبراطورية السوفياتية. فقام "العزيز فلاديمير" وزوجته اذذاك بزيارته في بيته المتواضع، ولم ينتظرا ان يزورهما هو في الكرملين!
ثالثاً: ينظم له جولة سياحية على شـاطئ البحور الشمالية: بلاد الصقيع اللامتناهي، ويدعوه لزيارة قصر "بترهوف"، احد قصور بطرس الاكبر الذي دمره الالمان واحرقوه عند غزوهم لروسيا. فلما حرر الجيش السوفياتي المنطقة، انفق ثروات طائلة (والشعب كان جائعا) لترميم القصر بكل ما كان عليه وما كان فيه حتى يظل رمز القيصر الذي شرَّع امام روسيا القديمة أبواب العصرنة وبنى لها قوتها، كضامن لسلامها، ووحّد أرضها المقدسة، وشعائر ثقافتها... فاصبح اسمه عنواناً لخلودها ولكونها وطنا لا يقهر. ولم يقهر يوما.
* * *
ترى، أيستحيل علينا، نحن العرب، ان نعطى، في بقاعنا الشاسعة، بطرساً للعظمة بدل "بن لادن"... وسوليانيتسين يكتب مزامير حريتنا بدل "رقباء" العقائديات البالية... ودستويفسكي واحدا، واحدا، يعود بنا الى العصور التي كنا خلالها نعلّم الدنيا؟(النهار اللبنانية)
&