كتب: نبيل شرف الدين
أجمل ما في الأساطير نهايتها..
ناسك قضى عمره فوق قمة أحد جبال ما بين أفغانستان وإيران يتعبد كثيرا إلي أن لقي ربه.. فلما عثروا علي قلبه وجدوا لفظ الجلالة منقوشا عليه.. فهو (نقش بندي).. أي (نقش إلهي) كلمة فارسية مركبة.. من هنا جاء اسم (النقشبندي)
أحرف أربع بها هام قلبي وتلاشت بها همومي وفكري
ألف قد تألف الخلق بالصنع ولام علي الملامة تجري
ثم لام زيادة في المعاني ثم هاء بهاء أهيم وأدري
***
ضوء "الكانون"، وهو الموقد الريفي، الخافت يكسر سكون الليلة الشتوية الباردة التي لفت قرية "دميرة" بمركز طلخا بالدقهلية، في دلتا مصر، وبعثت شيئا من السكون في قلب الصغير وهو يراقب بعينيه والده "الشيخ محمد" هو وأفراد طريقته وهم يواصلون ذكر الله بقلوبهم لا بألسنتهم.. تطير شرارة من نار "الكانون" وتسلع قدم الصغير الذي يصرخ في وهن.. فيلتفت إليه والده بنظرة سريعة تبعها بجملة واحدة..
خش نام جوه يا سيد
وقبل إتمامها كان الطفل قد قفز تحت الغطاء الثقيل.. يشده شدا من شدة البرد والخوف من نظرة والده..
***
ألف 'فتحة' أ
ألف 'كسرة' إً
ألف 'ضمة' أ
ألف 'سكون' أٍ
الصبيان والبنات يرددون ما يقوله "شيخ الكُتّاب" إلا "سيد" الذي مازال يسترجع تصرفات والده وضيوفه إلا أنه كان علي موعد مع الصراخ إذ تسقط علي رأسه عصاة الشيخ ويبكي.. هذه المرة لم يجد إلا أمه "أسماء".. بنت الشيخ محمد أبو يوسف ليشكو لها ما حدث له.. لكنها كانت مشغولة بجمع "الخلجات".. فالأب "الشيخ محمد النقشبندي.. شيخ الطريقة" انتقل عمله إلي الصعيد.. السعادة كانت تحدد ملامح الأم فالنقل كان إلي طما حيث أهلها.. ولم يصدق الطفل أنه سيترك "التوتة" و"الجرن" وزملاء الكتاب..
وفي الفجر كان يفرك عينيه بيده اليسرى بينما يده اليمني ممسكة بجلباب أمه التي سارت وراء زوجها ليلحقوا بالقطار.. وفي طهطا اكتشف الطفل أن شجر التوت والأجران بل وزملاء الكتاب كثيرون..!
***
هو الحي والقيوم جل جلاله
فعظم عظم الكبرياء رداه
أغني وأقني واستنار بنوره
كل الكيان فجوه فسماه
دائما كان يستيقظ "سيد" من نومه قبل أذان الفجر علي تواشيح الشيخ عبدالرحمن سعد.. شيخ الجامع المجاور لمنزل خاله التاجر بالعزبة البيضاء حيث استقر به وأمه المقام عقب سفر الأب للعمل في مكان آخر.. وبإصرار غريب كان يصحب خاله في صلاة الفجر ويجلس يتأمل ملامح ذلك الشيخ وصوته الذي لم يسمعه من قبل.. سلوك كان يراقبه الخال فأدرك أن تربية "سيد" يجب أن تكون صوفية دينية.. فأودعه أمانة في يد الشيخ أحمد خليل أحد الزهاد والمنطبع علي جبينهم حب الله من خلال حب الناس له.. فحفظ الطفل القرآن كاملا وفهم معاني فقه السنة
***
خايف أقول اللي في قلبي
كم كانت عذبة رائعة نغمة "سيد" وهو يغني أغاني محمد عبد الوهاب التي كان يسمعها علي جهاز الاسطوانات الخاص بخاله.. وقتها قالت إحدى السيدات لأمه:
بسم الله.. ما شاء الله.. يا أم سيد.. ده صوت الملائكة
ولم ترد الأم ولكنها قرأت في سرها "المعوذتين" لتحمي ابنها من الحسد.. لقد ألحقه خاله بمعهد "طهطا" الأزهري ليكمل تعليمه الديني ويصبح من علماء الأزهر الأجلاء شأنه شأن والده وجد والدته..
**
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
قصيدة أنشدها كعب بن زهير في مدح رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كانت أبياتها هي أول ما أنشدها "الشيخ سيد" في حياته وكان ذلك وسط زملائه في المعهد.. والغريب أنه كان إذا مدح الرسول صلي الله عليه وسلم أخذته الجلالة وغاب عن الوجود.. وبدأ الناس في الحديث عن ذلك الشاب الذي قرأ القرآن في إحدى المناسبات بقرية "كوم بدر" وأخذ يومها جنيها كاملا كأجر عن إحياء تلك الليلة ووصلت شهرته إلي بعض المسئولين في مديرية أسيوط قبل أن تصبح محافظة وكان ذلك في عام 1944 وطلبوه للمشاركة في حفل يقيمه مدير المديرية الشاعر عزيز باشا أباظة.. وظهر "الشيخ سيد" علي المسرح لأول مرة ومعه بطانته فرقته وبدأ بقصيدة "سلوا كؤوس الطلا" وغني "يا جارة الوادي".. وكم كان احتفاء الناس به رائعاً
ذات ليلة..
رأي في منامه أن هاتفا من السماء يدعوه إلي السفر إلي طنطا حيث سيدي أحمد البدوي.. ولم يكذب "الشيخ سيد" المنام حيث شد الرحال.. ووقتها كان قد بلغ من العمر 25 عاما ولم يحمل
معه المال أو الثياب.. وإنما حمل كتب أبو العلاء المعري ومصطفي صادق الرافعي والدكتور محمد حسين هيكل.. وهذا هو رأس ماله
وطال الطريق إلي البدوي.. قطب طنطا حيث استقر خلال الطريق في مدينة "قلين" بمحافظة كفر الشيخ ثم انتقل إلي مركز قطور بالغربية.. وفيها وخلال إحدى الليالي التي كان يحييها (في عام 1955) سقط من يده الميكروفون وصرخ قائلا:
آه.. يابا
وظل مستيقظا في منزله منتظرا ما يخشاه.. وعند منتصف الليل سمع طرقا مخيفا وقام ليفتح الباب للطارق الذي لم ينطق بشئ.. حيث قال الشيخ سيد:
"إنا لله وإنا إليه لراجعون"
فالوالد "الشيخ محمد النقشبندي" توفي.. وحان الوقت على "الشيخ سيد" أن يحمل الأمانة التي تركها له والده وهي أشقاؤه "خديجة، أحمد، سكينة، بهاء، حسين، إبراهيم، فاروق" يتولاهم بالرعاية والتربية.. ورغم ثقل الحمل إلا أنه لم يكن ليشكو أبدا وهون عليه الحمل اقترابه من "رحاب السيد أحمد البدوي".. صحيح أن لقمة العيش اقتضت أن يعمل مقرئا في أصغر مسجد أهلي في طنطا وهو مسجد "سيدي سالم العزبي"، لكنه أبدا لم يبعد عن مقام "البدوي"، حيث يجتمع العلماء والأحباء في الله.. يشاركهم في حلقات الذكر.. واستطاع أن يحتل القلوب بمدحه للرسول (صلي الله عليه وسلم) بصوت هبة من الله وأخلاقه وتفانيه في خدمة الآخرين..
***
ولهت بكم ذكرا وحقا لصبكم
يصيب بذكراكم ويفني بكم عشقا
فمن لم يجد شوقا إلي الحب غالبا
علي العقل من وجد لعمري لقد يشقى
ويشارك الشيخ سيد النقشبندي في الحضرات الصوفية التي كانت تعقد في منزل "أحمد القصبي.. محافظ الغربية" وذلك في أواخر الستينات.. وإذا بدأ في مدح الرسول(صلي الله عليه وسلم) توقفت الحركة حول منزل المحافظ.. الكل يريد الإنصات للصوت الرخيم حتى لو امتد بهم الأمر إلي الوقوف في البرد القارس حتى ما بعد منتصف الليل.. أما مكسبه من هذه الجلسات فهو خروجه بكنز ثمين هو صداقته لكل من الدكتور محمود جامع والدكتور إبراهيم عوارة.. والتي ظلت مستمرة حتى نهاية العمر..
في تلك الأثناء ارتبط بشريكة العمر وفرحة القلب "صديقة".. وقد كانت كذلك حيث شاركته في الفرج والكرب دون أن تشكو ولو بملامحها.. فأكرمهما الله بذرية صالحة هي "ليلى ومحمد وأحمد وفاطمة وسعاد" ورثت عنه كل طباعه وخلقه.
رأي في منامه أن هاتفا من السماء يدعوه إلي السفر إلي طنطا حيث سيدي أحمد البدوي.. ولم يكذب "الشيخ سيد" المنام حيث شد الرحال.. ووقتها كان قد بلغ من العمر 25 عاما ولم يحمل
معه المال أو الثياب.. وإنما حمل كتب أبو العلاء المعري ومصطفي صادق الرافعي والدكتور محمد حسين هيكل.. وهذا هو رأس ماله
وطال الطريق إلي البدوي.. قطب طنطا حيث استقر خلال الطريق في مدينة "قلين" بمحافظة كفر الشيخ ثم انتقل إلي مركز قطور بالغربية.. وفيها وخلال إحدى الليالي التي كان يحييها (في عام 1955) سقط من يده الميكروفون وصرخ قائلا:
آه.. يابا
وظل مستيقظا في منزله منتظرا ما يخشاه.. وعند منتصف الليل سمع طرقا مخيفا وقام ليفتح الباب للطارق الذي لم ينطق بشئ.. حيث قال الشيخ سيد:
"إنا لله وإنا إليه لراجعون"
فالوالد "الشيخ محمد النقشبندي" توفي.. وحان الوقت على "الشيخ سيد" أن يحمل الأمانة التي تركها له والده وهي أشقاؤه "خديجة، أحمد، سكينة، بهاء، حسين، إبراهيم، فاروق" يتولاهم بالرعاية والتربية.. ورغم ثقل الحمل إلا أنه لم يكن ليشكو أبدا وهون عليه الحمل اقترابه من "رحاب السيد أحمد البدوي".. صحيح أن لقمة العيش اقتضت أن يعمل مقرئا في أصغر مسجد أهلي في طنطا وهو مسجد "سيدي سالم العزبي"، لكنه أبدا لم يبعد عن مقام "البدوي"، حيث يجتمع العلماء والأحباء في الله.. يشاركهم في حلقات الذكر.. واستطاع أن يحتل القلوب بمدحه للرسول (صلي الله عليه وسلم) بصوت هبة من الله وأخلاقه وتفانيه في خدمة الآخرين..
***
ولهت بكم ذكرا وحقا لصبكم
يصيب بذكراكم ويفني بكم عشقا
فمن لم يجد شوقا إلي الحب غالبا
علي العقل من وجد لعمري لقد يشقى
ويشارك الشيخ سيد النقشبندي في الحضرات الصوفية التي كانت تعقد في منزل "أحمد القصبي.. محافظ الغربية" وذلك في أواخر الستينات.. وإذا بدأ في مدح الرسول(صلي الله عليه وسلم) توقفت الحركة حول منزل المحافظ.. الكل يريد الإنصات للصوت الرخيم حتى لو امتد بهم الأمر إلي الوقوف في البرد القارس حتى ما بعد منتصف الليل.. أما مكسبه من هذه الجلسات فهو خروجه بكنز ثمين هو صداقته لكل من الدكتور محمود جامع والدكتور إبراهيم عوارة.. والتي ظلت مستمرة حتى نهاية العمر..
في تلك الأثناء ارتبط بشريكة العمر وفرحة القلب "صديقة".. وقد كانت كذلك حيث شاركته في الفرج والكرب دون أن تشكو ولو بملامحها.. فأكرمهما الله بذرية صالحة هي "ليلى ومحمد وأحمد وفاطمة وسعاد" ورثت عنه كل طباعه وخلقه.
يا طالب السر في الأسماء مجتهدا
أطلب هديت إلى مقصودك الحسن
وابحث عليه تري في شكل أحرفه
معني عجيبا به من أوضح السنن
ولأن "الشيخ سيد" أعطى.. وأخلص.. وأكرم بدون من.. منحه الله نعمة زيارة بيته الحرام وكان ذلك عن طريق مجموعة من أهالي طنطا حيث قرروا الذهاب إلي العمرة في شهر رمضان في بداية الستينات وكانت أول رحلة عمرة تعرفها مصر بمعناها الحالي حيث استأجروا طائرة "اليوشا" ذات الحمولة التي لا تسع سوي 65 راكبا.. ودفع "الشيخ سيد" تكاليف الرحلة (السفر والإقامة) والتي كانت تبلغ وقتها (45) جنيها بالتمام والكمال.. وكان رفيقه في الرحلة الدكتور محمود جامع.. من شاءت ظروفه أن يشهد موقفا لا ينسى.. ففي أثناء قيام "الشيخ سيد" بالإنشاد في المعتمرين قامت مجموعة من المواطنين بمحاولة الاعتداء عليه ومنعه مما يقوم به إلا أن مجموعة من المعتمرين الجزائريين الذين تصادف مرورهم قاموا بالدفاع عنه.
الأغرب هو ما حدث في العمرة التي قاموا بها في عام 1964 وكانت في ذكري المولد النبوي حيث فوجئ الشيخ بالحرم فارغا ولم يكن به شخص واحد يطوف فهتف بصوته الجميل:
إن الملائكة والحمام يطوفون.. فلنشاركهم متعتهم
وما هي إلا دقائق معدودة حتى فاض الحرم بالحضور، ومازال هناك شهود علي هذه الواقعة، أما "الشيخ سيد" فأصبح ضيفا دائما علي بيت الله، ينشد الابتهالات والتواشيح الدينية في الدول العربية خاصة سوريا وأبو ظبي.. ولم يترك مكانا في مصر إلا ورواه بصوته العذب.
أطلب هديت إلى مقصودك الحسن
وابحث عليه تري في شكل أحرفه
معني عجيبا به من أوضح السنن
ولأن "الشيخ سيد" أعطى.. وأخلص.. وأكرم بدون من.. منحه الله نعمة زيارة بيته الحرام وكان ذلك عن طريق مجموعة من أهالي طنطا حيث قرروا الذهاب إلي العمرة في شهر رمضان في بداية الستينات وكانت أول رحلة عمرة تعرفها مصر بمعناها الحالي حيث استأجروا طائرة "اليوشا" ذات الحمولة التي لا تسع سوي 65 راكبا.. ودفع "الشيخ سيد" تكاليف الرحلة (السفر والإقامة) والتي كانت تبلغ وقتها (45) جنيها بالتمام والكمال.. وكان رفيقه في الرحلة الدكتور محمود جامع.. من شاءت ظروفه أن يشهد موقفا لا ينسى.. ففي أثناء قيام "الشيخ سيد" بالإنشاد في المعتمرين قامت مجموعة من المواطنين بمحاولة الاعتداء عليه ومنعه مما يقوم به إلا أن مجموعة من المعتمرين الجزائريين الذين تصادف مرورهم قاموا بالدفاع عنه.
الأغرب هو ما حدث في العمرة التي قاموا بها في عام 1964 وكانت في ذكري المولد النبوي حيث فوجئ الشيخ بالحرم فارغا ولم يكن به شخص واحد يطوف فهتف بصوته الجميل:
إن الملائكة والحمام يطوفون.. فلنشاركهم متعتهم
وما هي إلا دقائق معدودة حتى فاض الحرم بالحضور، ومازال هناك شهود علي هذه الواقعة، أما "الشيخ سيد" فأصبح ضيفا دائما علي بيت الله، ينشد الابتهالات والتواشيح الدينية في الدول العربية خاصة سوريا وأبو ظبي.. ولم يترك مكانا في مصر إلا ورواه بصوته العذب.
التعليقات