كتب إسماعيل زاير - حازم الأمين&: يدفع الكائن البشري أحياناً ثمناً باهظاً لعمل لم تقترفه يداه، او يجد نفسه أسير تشريعات متضاربة ووعي غير قابل للتحقق وحداثة متطورة تعكس تطلباتها عليه وعلي النظم الاجتماعية في آن واحد بما يعمق مأزقه الشخصي.
الأطفال المتبنون افضل الامثلة علي ذلك بل انهم ما يمكن ان نطلق عليه الضحية النموذجية لتلك التواطؤات النادرة ضد الشرط البشري. وتشير حالهم الي ان القوانين والشرائع حتي تلك التي اتسمت نصوصها بالفطنة والحكمة، قد تتحول الي عقبة امام تحقيق العدالة البشرية وتأمين الطمأنينة للنفوس التي تحتاج الي المساعدة ما لم تجر عملية مراجعة مستمرة لمتونها.
في هذا التحقيق نسلط اضواء علي تطورات حياة 330منهم ولدوا في لبنان وتبنتهم عائلات هولندية تفتقد الاطفال بين الاعوام&1976 و1986، ويشكل هؤلاء جزءاً من نحو اربعة آلاف طفل لبنــــاني موزعين علي بعض العواصم الاوروبية وعدد غير معروف انتـــقل الي اميركـــا اللاتينــية وآسيا.
الآن وبعد اكثر من عقدين ونيف علي عمليات التبني تعيش عائلات الاطفال مخاضاً جديداً، ولكنه مرير لاعادة هؤلاء الاطفال الي ارض الواقع ومنحهم الجزء المفتقد من هويتهم وشخصيتهم: الأم الحقيقية والعائلة الاولي الطبيعية. فمع الزمن تطورت شكاواهم وانتقلت من الشكوي المألوفة للطفل في اطوار تحوله ونموه الي اخري يتطلبها وعيه ومعرفته بأنه ليس من صلب العائلة الوحيدة التي يعرفها ويعيش معها، بل جري تبنيه ذات يوم في احد المستشفيات او دار ايتام او دير لبناني بعد تأمين جملة معروفة من الشروط والالتزامات من قبل العائلة الهولندية.
الجمعيات والاشخاص الذين نظموا عمليات التبني وساعدوا العائلات الهولندية في انجاز المتطلبات القانونية التي يشترطها القانون اللبناني قبل اقرار التبني والتي انقرض بعضها لوفاة القائمين عليها، او تفرقت الطرق بمؤسسيها، بدأت بالشعور بوطأة الأعباء التي تترتب عن الاسئلة الملحة لمئات منهم.
ومع ان الوقائع تشير الي ان الاوان قد يكون فات لمساعدتهم في العثور علي مبتغاهم، بسبب اوضاع المجتمع اللبناني وبسبب الظروف المعقدة التي احاطت بسلوك تلك المنظمات والاشخاص والشروط العسيرة التي رافقت العملية من جهة اخري، بما في ذلك اتلاف الوثائق التي تسجل معلومات عن امهاتهم، الا ان ظمأهم لم يرو بعد، وهم لا يزالون يتمسكون بالأمل في لقاء اهلهم الطبيعيين. وعكست تطلعاتهم نفسها علي البعض خصوصاً ذوي الحساسية المفرطة وولدت لهم مشكلات تأقلم متأخرة مع المجتمع الهولندي. وتطلب الأمر ان يخضع بعضهم لعلاج نفسي. ويبحث آخرون عن مستحيل أخير عبر صحيفة الحياة ، في ان تتعثر والدته بصورته وتتعرف عليه، ويعود ربط الاواصر.
البدايات
تشير تحقيقاتنا الي ان انطلاقة عمليات التبني جاءت علي يد سيدة بلجيكية حوالي العام&1976 او قبلها بقليل كانت تعمل راهبة في احدي الكنائس الانجيلية اللبنانية وهدفت الي تأمين مستقبل معقول للأطفال وتأمين ظروف انسانية افضل لهم في رعاية عائلات حرمت سعادة البنوة كما حرموا هم سعادة الامومة. وسعت تلك السيدة الي جمع كل ما يقع تحت ايديها من فاعلي الخير في مسعي لتخفيف الضغط عن دور الايتام والكنائس والمستشفيات التي تضيق بالأطفال الذين تخلت امهاتهم عن حضانتهم. ووفقاً للمعلومات التي تجمعت لدينا فإن محاولة السيدة البلجيكية في هولندا لم تكن المبادرة الوحيدة لمساعدة هؤلاء الاطفال، كما نشطت في هذا المجال مجموعات اخري بدوافع غير خيرية يطرح سلوكها ودوافعها اكثر من سؤال.
يقول السيد ويليمسون والد كريستيان وهانيكا، اثنين من الاطفال المتبنين: كنت اوائل الثمانينات في لبنان في ثالث زيارة عمل لي عندما اتصلت بي راهبة بلجيكية وسألتني المساعدة في عمل شيء لأطفال جري التخلي عنهم لأنهم لم يكونوا ثمرة زواج شرعي. قالت: لدينا عدد كبير منهم وظروف الحرب لا تبشر بخير عميم للأطفال وأريدك ان تسعي الي المساعدة في هولندا . عندها اقدم ويليمسون علي تبني ولده الاول الذي دعاه كريستيان علي يد الوسيط الاساسي في عمليات التبني ابراهيم الشميل احد العاملين في الكنيسة الانجيلية. ولكن ويليمسون مع تواصل علاقته بلبنان وسع دوره ليؤسس جمعية خيرية هي هولندا - لبنان عمل من خلالها مع محسنين هولنديين علي تأمين دعم مالي منتظم لمدرسة تربي الاطفال غير الشرعيين في منطقة الجديدة في بيروت، ومركز لتأهيل المعوقين في مسكا قرب برمانا. كما عاد ويليمسون لاحقاً الي تبني طفلة اخري دعاها هانيكا ولكنه قام بالعمل هذه المرة من دون وساطة الشميل ومن خلال الاتصال المباشر بالسلطات اللبنانية.
ويروي ويليمسون في حديث لـ الحياة بدايات العملية التي جاءت بأكثر من ثلاثمئة طفل الي هولندا بقوله: كانت عملية انسانية بحتة اول الأمر. ولم يكن ابراهيم الشميل يبحث عن مكسب مالي من العائلات الهولندية. وهذا ما اتضح لي عندما قمت لاحقاً بترتيب اجراءات تبني ابنتنا هانيكا بنفسي. وتأكد لي ان المبالغ التي كان الشميل يطلبها كانت تغطية لمستحقات المحامي المختص ومبالغ تذاكر الطائرة والفنادق والرسوم اللازمة للتسجيل الرسمي في السجلات اللبنانية والمستشفي . ولكنه يلاحظ ان الأمر تغير لاحقاً بعد انتهاء دور ابراهيم الشميل وانتقاله من لبنان الي المانيا إثر خلافات مع زوجته السيدة عدلا الشميل المقيمة في هولندا، وزواجه من سيدة المانية .
الذي تغير بحسب السيد ويليمسون هو انه لم يجر الاحتفاظ بسجلات عن الاطفال المتبنين بالطريقة التي كان يتبعها المرحوم ابراهيم الشميل . ويؤكد: كان يحتفظ بسجلات دقيقة للغاية عن العائلات اللبنانية والهولندية واسم الوالدة والروابط المتصلة بالأبناء. وكان هذا مهماً للغاية لحال الاطفال اللبنانيين في هولندا، لا سيما ان شروط التبني التي تفرضها المحاكم الروحية في لبنان تؤسس علي حجب المعلومات بصدد الوالدة من جهة وتمنع الوالدة من السؤال عن طفلها مستقبلاً او المطالبة باسترجاعه. وتضع ذلك ضمن اتفاق التخلي عن حضانة الطفل الي الطبيب او الدير للعائلة الجديدة . وعن مصير تلك الملفات يقول ويليمسون: علمنا ان الشميل نقل معه جميع تلك الملفات الي المانيا، ولكن قيل لنا انها اتلفت قبيل وفاته .
ويضيف السيد ويليمسون الذي لعب ادواراً مميزة في مجال متابعة الاطفال اللبنانيين ومساعدتهم: ان اشياء كثيرة طرأت منذ نهاية السبعينات علي قضية الاطفال ومتطلباتهم. وبرزت حاجات جديدة عندهم لم تكن العائلات الهولندية توليها اهمية كبيرة في البداية، وفي مقدمها هوية العائلة التي يتحدرون منها وأهمية الاحتفاظ بمعلومات او اتصالات مع الوالدة او العائلة الطبيعية للطفل . وأقر ان عائلته وعائلات كثيرة اخري بدأت تشعر بالندم لأنها اهملت هذا الجانب في السنوات الاولي واستمعت الي النصيحة التي تقول ان من الافضل الا يذكر شيء للطفل عن هذا الجانب .
ويستطرد: عائلات كثيرة غيرت موقفها لاحقاً بل حاولت تتبع الجذور التي تحدر منها الطفل عبر زيارات متكررة الي لبنان. ولكن وفاة الشميل اضرت بشدة بالمساعي التي بذلناها في هذا السياق . وقال: ان الشيء الوحيد الذي حصلنا عليه هو عنوان المستشفي الذي ولد فيه ابنانا اللذان اصطحبناهما الي لبنان لرؤية الاشياء الوحيدة المتبقية التي لها صلة بهما ولنعطيهما فكرة عن البلاد التي جاءا منها والمكان الذي ولدا فيه . ويشير الي انه يعتبر نفسه محظوظاً لأن واحداً من ثلاثين شخصية سياسية وكنسية ورسمية وصحافية رد علي رسائله وتجاوب معها ما مكنه من الحصول علي بعض المعلومات المتناثرة التي لم تشف غليل الاطفال، حتي ان ذلك الشخص لم يكن لبنانياً بل كان بلجيكياً عمل في الكنائس اللبنانية مدة&40 عاماً .
حلم مستحيل
وواقع متاح
الحياة تابعت في هولندا ملف الاطفال اللبنانيين واخبار الوسطاء الذي ساعدوا علي قدومهم. وأظهر التدقيق في ظروف مجيء الاطفال اللبنانيين الي هولندا وبقية العواصم الاوروبية ان هنالك اكثر من جمعية ومجموعة تعاطت شأنهم عبر بيروت او عبر عواصم اخري عربية وغربية. ولا يشكل الاطفال الذين قدموا بمساعدة الشميل الا جزءاً منهم. كما مكنت خبرة بعض العائلات الهولندية عائلات اخري من الحصول علي اطفال من لبنان في شكل مباشر ومن دون وسطاء كما هي حال السيد ويليمسون. علي العموم يمكننا القول ان علاقة السيدة الشميل مع الذين جاؤوا من طريقها وطريق زوجها الي هولندا كانت قوية الي الحد الذي يطلقون فيه عليها اسم الجدة ، بل ان المنظمة التي جمعتهم دعيت ابناء الأرز كانت تنظم لقاء سنوياً في يوم ميلادها حتي نهاية الثمانينات ولم يتوقف الاحتفال الا بعد تعرض علاقتها مع احد الاطفال المتبنين الي اشكالات عزاها بعض المتبنين الذين التقتهم الحياة في لاهاي الي القائه اللوم علي السيدة عدلا بسبب فشله في الحياة وتعرضه للمتاعب نتيجة ادمانه المخدرات، وتهديده لها ما دفعها الي الغاء اللقاء السنوي.
في العاصمة الهولندية تحدثت الحياة الي عدد من الاطفال اللبنانيين الذي اصبحوا في منتصف العشرينات من اعمارهم ينشطون كمواطنين هولنديين، تخرج بعضهم في الجامعات والمعاهد ويعمل الآخر في وظائف مختلفة. وكان هؤلاء الشباب بادروا في 51 ايار (مايو) الماضي الي ترتيب اجتماع للمجموعة حضره اكثر من ستين لبنانياً وشكلوا علي اثره منظمة خاصة بهم باسم لبنانيون متبنون تسعي الي دفع قضيتهم المشتركة: البحث عن هوية الوالدين، والعمل علي تشكيل قوة ضغط علي الحكومة اللبنانية من اجل الحصول علي المعلومات التي يرغبون فيها. وشجعهم النجاح في الاجتماع الاول علي الاتفاق علي عقد اجتماع آخر قبل نهاية العام يتوج بزيارة الي البلاد.
في اللقاء الاول مع الحياة وضم اثنين من نشطاء المجموعة هما ساندرز (فايز) مارتمان وانيميك ديهان وعدد من زملائهم، بدوا سعداء للغاية، وكأنهم يسبرون شيئاً فريداً ضمن ثنايا شخصيتهم يشير ويؤكد علي حقيقة تمايزهم عن اقرانهم الهولنديين. ولم يكن هناك ما يقلقهم، وبعد وقت قصير اتضح كم هو استعدادهم لامتصاص مناخ المناسبة وتمثلها كحدث خاص ومثير. فقبل ان تنتهي الساعة الاولي من اللقاء كان كل واحد منهم يتسابق للحديث عن نفسه وعن عمق لبنانيته التي بالكاد تزيد عن الدلالات التي تتيحها ورقة او ورقتان كشهادة الولادة وتصديق المحكمة علي عملية التبني.
ثلاثة من الخمسة زاروا لبنان في اوقات متفاوتة وبعضهم لأكثر من مرة. وبعضهم الآخر يخطط للزيارة القادمة التي يراد لها ان تكون زيارة جماعية قبل نهاية العام الجاري. وسرت حمي الحديث الي الذين لم يزوروا البلد، فأعلنوا انهم سيكونون سعداء بالانضمام الي الرحلة القادمة.
بدأ ساندرز، او (فايز) كما هو مسجل في شهادة ولادته اللبنانية، الصادرة عن مستشفي الجامعة الاميركية في 2 تشرين الاول (اكتوبر) 1976، حديثه عن معني اسمه ودلالته من الناحية الاجتماعية وما اذا كان الاسم يوحي بشيء عن سبب التسمية او ديانة العائلة التي تحدر منها. ومن سؤاله انطلقنا لنري كيف ينظر وأقرانه الي حقيقة انهم متبنون وليسوا من صلب هولندي. عن هذا قال فايز الذي يعمل مسؤولاً عن برمجة الكومبيوتر في اكبر شركة للهاتف في هولندا: مع انني اشعر في بعض الاحيان ان للتبني قيمة ايجابية بالنسبة لي واضافة لأبعاد شخصيتي، الا ان الأمر برمته لا يوصف بالمشكلة ولا يسبب لي القلق او الانفعال، لأن العائلة التي تربيت في كنفها اعدتني بعناية لتقبل هذا الجانب في شخصيتي .
نينكا نوتاه التي تعمل متخصصة في شؤون الاسكان الشعبي والمولودة علي يد الدكتور شفيق كرم، لها روايتها عن هذا البعد الاستثنائي. تقول نينكا: مع انني لا اعرف لبنان معرفة كافية الا ان وعيي بأنني متبناة من اصل لبناني له انعكاس مثير علي سلوكي، فمع الزمن تعمق احساسي في انني عندما اكون في هولندا ابدو مختلفة عن بقية الهولنديين، اما عندما اكون في لبنان فأبدو انسانة عادية .
ولكن نينكا ذاتها تعطينا صورة اخري عندما تتعمق في رسم تفاصيل البعد الشخصي لمعاناتها. ففي حالها ادركت انها متبناة عندما كان عمرها سنتين فقط، او هكذا تتخيل، ولكن المهم انها تعايشت مع سرها الخاص في وقت مبكر للغاية. وتضيف: غيرني الوعي بهذه الحقيقة وعمق طبيعتي الانطوائية. كانوا يدعونني، علي سبيلة التدليل (فأرنا الصغيرة) وهو اسم ينطبق علي شخصيتي الخجولة والمسالمة. ولكن وعيي الجديد عمق تلك الروحية حيث انها طبعت حياتي بها . تقول نينكا: كنت علي الدوام افكر في انني قد اكون مسؤولة لسبب ما عن تخلي والدي عني، لذا علي ان اكون منتبهة وحريصة حتي لا تتخلي عني عائلتي الجديدة .
علي صعيد سلوكها تقول نينكا انها تعلمت ان لا تنفتح علي الخارج وان تبقي في الدائرة الأمينة التي تحيط بها: البيت والعائلة . ولكنها تعترف: منذ ان تعمق وعيي بأنني من ام وأب لبنانيين لم استطع اغماض عيني عن المشكلة وان اتصرف كأن كل شيء علي ما يرام. وبدأت اتطلع الي معرفة جذوري والاحساس الحقيقي بالبيت والعائلة . وتشدد نينكا علي انها لم تعد تهتم بالأسلوب الذي دفع امها الي التخلي عن حضانتها ولكنني اريد ان اعرف والدي علي الاقل وأريد ان اعرف اين هو وكيف حاله . ومع ذلك فإن نينكا لا تخشي من خيبة الأمل ولا تري في عدم حصولها علي الاجوبة التي تنتظرها مشكلة كبيرة وتقول: استطيع الآن الاستمرار في حياتي وبناء عائلتي الخاصة .
ماذا تعلمين عن نفسك يا نينكا؟ تقول: اعلم انني ولدت علي يد الدكتور شفيق كرم باسم دوريتا في السادسة من بعد ظهر اليوم الثاني من تشرين الثاني عام&1972 في مستشفي في بيروت وعائلتي تسكن رأس بيروت. شهد علي ولادتي القس ابراهيم شميل وشاهين ميلان ومهنته حلاق. اعطتني عائلتي وثيقة ولادة بهذا المعني وقعها ايضاً المختار جرجي ربيز وختمتها وزارة الداخلية في 11/01/1978 كما اعطيت وثيقة هوية بالمعلومات .
اما انيميك دوهان فقصتها مختلفة. عائلتها الهولندية التي لم يكن في وسعها الحصول علي اطفال تعرفت علي فرصة لتبني طفل لبناني عندما كانت العائلة في المملكة العربية السعودية حيث عمل والدها في شركات النفط. وقام والداها الجديدان بالسفر الي بيروت لانجاز المهمة. وتقول انيميك: كنت طفلة عندما عرفت للمرة الاولي انني متبناة. عندها قفزت من الفرح وعدوت الي الشارع لأبلغ صديقاتي وأصدقائي بالخبر الغريب والمثير. لم اكن اعرف ماذا يعني ذلك. كل ما كنت افكر به انني مختلفة وامتلك شيئاً لا يحوزه الاطفال الآخرون .
وتضيف: ولكنني عندما ادركت معني ذلك بدأت اشعر ان ثمة عنصراً نفسياً اساسياً يفتقده بيتنا، ومع الاهتمام الكبير الذي اولتني اياه عائلتي تزايدت رغبتي في ملامسة عائلات اخري ومجاورتها لها اطفال من صلبها ألعب معهم وابقي نفسي بينهم لأنني كنت اظنها عائلات اكثر حقيقية من عائلتي الشخصية. لم يكن ذلك وعياً متكاملاً من قبلي، بل انني اراه الآن بالأحري علي هذه الصورة، وأفسره من خلال استعادة ما حصل . ما لا تذكره انيميك هو معاناتها اللاحقة بعد نضوجها وبلوغها السادسة عشرة والمشكلات التي بدأت تواجهها في التأقلم مع محيطها والتي اعاقتها في الدراسة والعمل والتحاقها ببرنامج تأهيل نفسي خاص.
معارك الآمال الاخيرة...
علي رغم الاخفاقات الكثيرة يبدي هؤلاء الرجال والنساء شجاعة فائقة، ويرتفع لديهم امل كبير، في ان تتكامل حياتهم بحصولهم علي معلومة عن امهاتهم وآبائهم. ونراهم في هذا الصدد يعتنون بأية بارقة امل ويهتمون بكل الاحتمالات مهما كانت ضئيلة ما يضفي علي حياة اي واحد منهم بعداً تراجيدياً وسط ظروف مستحيلة ومعوقات لا يمكن تجاوزها.
ويجمع هؤلاء علي ان العقبة الاكبر تتجسد في فقدان مفتاح الحلقة السحرية التي يحصلون بتجاوزها علي المعلومات الاساسية عن العائلات التي تحدروا منها. ومرد ذلك الي ان التشريع اللبناني لا يلزم المحاكم الروحية الاحتفاظ بسجلات تضم تلك المعلومات التي تعتبر في ظروفنا بمثابة الحاجات والحقوق الاساسية للطفل المتبني.
ولكن ذلك وحده لا يفسر ذلك القصور لا سيما ان العائلات الهولندية التي تبنتهم لم تنتبه الي هذه النقطة في البداية. فالتقدم الاجتماعي والحضاري الذي شهده العالم خلال العقدين الماضيين اعطي ثقلاً كبيراً للحقوق الاساسية للانسان وغدت القوانين والتشريعات اكثر تلبية وتفصيلاً في نصوصها. لذلك يمكن القول ان ثمة هوة تفصل بين الوعي الشخصي لهؤلاء الاطفال الذين تربوا في مجتمع متقدم التشريعات كهولندا، والوعي الشخصي والقانوني السائد في لبنان. من هنا فإن جمعية اللبنانيين المتبنين تري ان مهمتها الاولي بعد العمل علي مساعدة الاطفال المتروكين والترفيه عنـهم، هي محــاولة اقناع الحكومة اللبنانية بسن تشريعات تتناسب والحاجات المستجدة لابناء من امثالهم وبما ينسجم والوضع البشري المعاصر.
الدافع الاول وراء ذلك الهدف بالنسبة اليهم ليس بالضرورة العودة الي حضن الأم الطبيعية، فهذا اصبح متـأخـراً، بـل في اتاحة الفرصة للـطـرفين الأم والابن ان يلتقيا اذا تحسنت الظروف او تغيرت اوضاعهما كما يقول لبناني آخر هو البيرت هارينغ. ويضيف اليه فايز: من يدري لعل الأم هي التي تبحث الآن، وفي اللحظة ذاتها عن وليدها السيئ الحظ فلماذا نجهض هذا الأمل؟ .(الحياة اللندنية)