تعترض رؤيتي لبحيرة جنيف اشجار تلوّن ورقها كثيرا. الاشجار وحدها شاهدة لبقايا الخريف الراحل. وغداً انا مبحر الى بيروت لأتعزى. رفيق لي في الدراسة الثانوية يموت هنا. وزميل اسقف حاد الذكاء، كبير الثقافة عقد الفالج لسانه الا قليلا. ناشري في باريس يقول انه اعد لطباعة مجموعتين من مقالات لي ومحاضرات تصدر احداهما بعد سنتين والاخرى بعد اربع. قلت له اذا رجونا الى الله فقد ارى اصدار الكتاب الاول وقد لا ارى الكتاب الثاني. اذا كان الكتاب حياة فيشهد للذين ارتحلوا. ذهلت لما قال لي هذا الرجل انه يجمع لي الكثير مما قلته ويعمل لنقله الى الفرنسية. انه شماس ارثوذكسي.
من الاسباب الثانوية لرحلتي اني وقعت آخر كتاب لي بالفرنسية موضوع جزئيا بهذه اللغة ونقل جزء آخر من مقالات "النهار" و"لسان الحال". حفلة التوقيع جرت في مكتبة عربية تدعى "الزيتونة"، مليئة باشعار العرب القدامى والمعاصرين وبعض من الاسلاميات ومؤلفات فرنسية (زيتونة لا شرقية ولا غربية). القاعة التي اجتمعنا فيها، عرباً واجانب، مليئة بالخطوط. لفتني فيها لوحة استطعت ان اقرأها من اسفل الى فوق وعليها الآية: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". ربما تمكنت من القراءة لأني اورد الآية مرة في اليوم الواحد على الاقل عندما التقي غبياً. واراد الحفل مني ان اكلمه على الوضع القائم اليوم حرباً وتوقع حروب وقلت خشيتي على لبنان كائنة ما كانت صورة الضيق الذي قد يحل بنا. هذا الصباح رأيت على الشاشة الاطفال الافغان المبتورة سوقهم والشيوخ الذين اجريت لهم جراحة وصورا لفتيات اقبلن على الدراسة هناك سافرات.
اقمت في دير او شبه دير في ضاحية شمبيزي، للبطريركية المسكونية، انشئ لاعداد المجمع العالمي المزمع عقده للكنائس الارثوذكسية والمتباطئ سيره الان. ضم اليه اخيرا معهدا عاليا للاهوت يجمع طلابا من عندنا ومن اوروبا الشرقية وكان عليّ ان احاضر في الحضور المسيحي في الدنيا او في الثقافة والسياسة اذا شئتم. مائتا شخص أو اكثر كانوا هناك. المسألة هي كيف تجذر في الكلمة الالهية الفكر والنشاط السياسيين. كيف يبدو الله في المدينة؟ في الواقع المعيش كثير من الارثوذكسيين يلقون انفسهم على الله ويقيمون العبادة ويلهون عن السياسة وهي من اشرف الاعمال اصلا. ليس ان المسيحية لا كلمة لها في شأن العالم كما يظن في العالم العربي. وهذا ما حاولت دحضه. لكن الممالك الارثوذكسية المتعاقبة (بيزنطية، روسيا) هي التي حصرت الكنيسة في العبادات معتبرة ان الملك المؤمن يأخذ على عاتقه الشأن المدني والمجتمعي. ثم كان النظام الشيوعي الذي كان نظاما كليا واسكت كل كلمة خارجة عن عقائديته. ولما استقلت الشعوب البلقانية عن السلطنة العثمانية ارتضت الكنيسة ان يتعاطى السياسة فقط الحكم المدني ايضاً كأن الارثوذكسيين عاشوا بيزنطية بعد بيزنطية بلا امبراطور.
في الشرق الادنى في ظل الحكم العربي ثم المملوكي فالتركي كان اولو الامر المسلمون حتى منتصف القرن التاسع عشر لهم وحدهم الكلمة الفصل.
* * *
كان علي ان ابحث في مفردة "العالم" في الكتاب المقدس لاستدل على مجيء السياسة من الوحي. وبينت ان اللفظة تعني اولاً العالم المخلوق وحيز التاريخ ولو اتُخذ العالم قليلاً بمعنى نطاق الشر. وكشفت في العهد القديم، في الانبياء ان الله يتكلم على الشعوب: بابل واشور ومؤاب وآرام ومصر وصور وارز لبنان. الله يخاطب مَنْ عُدّ شعبه والشعوب الاخرى. الله يؤنبها جميعاً. وهذا يصح في العهد الجديد حيث الله يواجهنا. ثم يرجو يوحنا في الرؤيا سماء جديدة وارضاً جديدة ويتوقع ان تهبط من السماء المدينة المقدسة، اورشليم الجديدة. لسنا اذاً محصورين في الروحانيات.
سوف يبدو عالم يتجلى. ولفظة العالم "كوسموس" في اليونانية تتضمن الجمال والانسجام ووجود قواعد ومعنى لهذه الخليقة. ثم بينت، بناء على التراث، ان الكنيسة ليست جزءاً من العالم وانها هي العالم نفسه بمقدار ما يتطهر ويتقدس. هي تحويه كما المسيح يحويها.
وكان لا بد لي ان اعرج بسرعة على الاديان التي "ينام المسيح في ليلها" علمت ام لم تعلم (دون ان اسمي ديناً محدداً) واستخرجت من اوريجانيس قوله: "ما يحصل احياناً ان المطرود (اي المعتبر كذلك) هو في الداخل وان من كان في الداخل هو في الخارج". وركزت على قول السيد: "لي خراف ليست من هذه الحظيرة. يجب ان آتي بها". فهناك من هم للمسيح جهراً وهناك من كان له ضمناً. لا يمكن ان نحيا اذاً وكأن طائفة المسيحيين هي كل الكنيسة. فالكنيسة ليست حارة النصارى وليست العبادة الطقوسية كل شيء. فإذا كانت الكنيسة سفينة تشق عباب بحر العالم فهي ذاهبة في العالم. ويذهب المؤمن من المذبح الى مذبح الأخ او مذبح الفقير ليقضي على الفقر.
وهنا كان لا بد لي ان اخاطب المستمعين وهم جميعاً اوروبيون وان افحص مسألية السياسة عندهم. مستمعيّ ما كانوا كلهم من اصل روسي او يوناني او بلقاني. كان معظمهم من السويسريين الذين اعتنقوا الايمان الارثوذكسي. كانت دعوتي اليهم ان يعالجوا الغرب اي ان يواجهوا رفض نيتشه لله وما تبقى من الإلحاد الماركسي والدهرية Secularisme من حيث هي عدم الحس بالله.
تكلمت على الثقافة اولاً وعلى الفن وكونه غير ملتزم. هو ليس مكاناً للقيام بدعاية في سبيل الله. لكن الله يتنازل فيه للمبدع. يجعل الانسان خلاقاً حقاً. فالكاتب يعطي معنى جديداً للكلمات. الأديب يتناول قوة من فوق ويصير - على صعيده - حليف الله في الخلق. وأكدت ان الكنيسة في ذا لا تأتي بعلوم جديدة وفن جديد وتكنولوجيا جديدة. انها تبث الروح في كل ذلك.
* * *
اخيراً كان لا بد لي ان ارى الى السياسة فرأيت ان الايمان المشبع بالمحبة لا بد له ان يقودك الى فكر سياسي يجعلك اكثر حضوراً في المدينة، اكثر وعياً لتعقيدات العالم وانه لا بد لك ان تكافح آلام البشر في الوضع الذي انت فيه. وهذا سياسة.
أجل كثيراً ما تحمل السياسة الطاهرين الى الخيبات. ولكن كما ندى المسيح الفتية الثلاثة في الاتون في بابل قديماً يندينا الآن ونحن ملقون في حريق هذا العالم. اي عالم؟
هنا لا بد لي ان اواجه العولمة سريعاً وان ابين اخطاءها دون التنكر لظاهرة يبدو انها آتية. كان هاجس العدالة الحق في ظل سيطرة قطب واحد على العالم ورجوت ألا تقضي أية هيمنة على الصلاة والمحبة الأخوية. في كل هذا همنا هو الفقير اولاً. في هذا كان انبياء التوراة الافصح والابلغ. ولكن كيف لا نكتفي بالاحسان الفردي ونغير البنى؟ كيف نحقق ان "الفقراء سادتنا" حتى لا يظلوا فقراء؟ هذا كان حلم يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس في الشرق وأوغسطينوس في الغرب. القاعدة عندهم هي "ان الاثرياء عندهم ملك الفقراء ولو اقتني هذا الملك باستقامة وشرعية".
هذا يطرح سؤال لقاء العدل والسلام، سؤال القضاء على العالم الثالث حتى يزول ونترقى جميعاًِ وننعم بخيرات الارض بالمشاركة. كيف نطهر هيكل هذا العالم؟ الرؤية الاخيرة هي ان يصبح هذا العالم مسكن الله مع الناس فيصيروا شعبه ويصير هو، حقيقة، إلههم ويزول الموت. ما يجب ان يتحول الى النور ليس فقط هو المادة المؤلف منها الكون ولكن التاريخ نفسه. كيف نخلق تاريخاً الهياً؟
* * *
في اليوم التالي (الاحد الماضي) كان موعدي في القداس الالهي مع الكثيرين من هؤلاء وسواهم في هذا الدير. وارتفع الترتيل بالعربية واليونانية والسلافية القديمة والفرنسية. احسست ان المهتدين اكثر فهماً من المولودين على دين آبائهم وأن خشوعهم اخاذ، تكلمت على المعاني التي لنا ان نستخرجها من سيرة العظيمة في الشهيدات كاترينا شفيعة تلك الرعية، على معنى العذرية الروحية وعلى الشهادة.
بعد الظهر تحدث الينا احد المفكرين عن الخدمة الاجتماعية التي يقوم بها الارثوذكسي في اوروبا الشرقية وكان لنا، مجتمعين، ان نرى كيف يتماس الهاجس الخير والعمل السياسي. ثم في اليوم التالي ذهبت الى فريبور للصلاة وإلقاء محاضرتي ثانياً هناك. والرعية هناك مهتدية.
في طور المناقشة سئلت كثيراً عن افغانستان. سويسرا بلد الحياد. لعلّهم لهذا تقبلوا مواقفي.
عدت الى لبنان لعلي انا ايضاً ارى وجه الرب البهي.(النهار اللبنانية)
&