الصوَر التي تبثّها وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية، والتي بثّتها في الأشهر الثلاثة الماضية، استنفدت كل مخيلاتنا البصرية وسبقتها بأشواط، فأصبح المرء يعتقد بأن رتابة خيالية ومشهدية تنتظرنا في الأشهر المقبلة علي الأقل، ستقعد أبصارنا ريثما يجتمع علماء هوليوود ليقرروا ماذا سيفعلون.
الصورة أقوي من الحقيقة. لم تعد هذه فكرة مجردة وترميزاً بعيداً. فذاك الرجل الأفغاني الذي راح يرفس جثة مواطنه، ربما فعل ذلك بطلب من المصوّر، إذ قد يصعب تصديق مصادفة تجمع المصوّر في تلك البلاد الواسعة مع رافس الجثث في لحظة واحدة، فما بالك إذا تعلق الأمر بآلاف الصور من هذا النوع المرسلة يومياً من ذلك البلد الرمادي. ولكن ان يستجيب رجل لطلب مصوّر رفس جثة، فالأمر يضاعف الدلالة، إذ ان فعل الرفس هنا أضيفت إليه رغبة في إعلانه وفي جعله امارة من امارات الحياة هناك. الصورة، اضافة الي تأديتها وظيفتها في نقل المشهد، تحوّلت الي محرّض علي وقوعه. وهنا تقترب الصورة بالمعني الفعلي من الحقيقة، لكنها تتجاوز هذه الحقيقة وتصبح اقوي وأدل حين تصبح جزءاً من الحدث الذي تنقله. فماذا كان سيحصل لو لم يصوّر مراسل وكالة الصحافة الفرنسية ذلك الأفغاني الذي التقطت صورته وهو يقلع ضرساً من ذهب من فم جثة هامدة في محيط قندهار او قندوز؟ عدم التقاط الصورة هنا هو تقريباً بمثابة عدم حصول الواقعة، إذ ان تقويم الحدث يتم عبر وزنه بميزان تلقيه من جانب مشاهدين او قارئي صحف. هذا ليس مديحاً للصورة وإنما محاولة للتساؤل عن مصيرها، إذ كيف سنقبل من الآن وصاعداً بأقل من ذلك، وهل نحن سائرون في اتجاه دورة دائمة من الأحداث والوقائع تتيح هذا التناسل للصوَر والمشاهد؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فإن أيامنا ستضيق وستعجز مخيلاتنا، وسنصاب بهذيان الصورة والحقيقة، اما اذا كان الجواب بالنفي فإن رتابة مقيتة ستغلف شاشاتنا وصحفنا.
ولكن بمقدار ما للصورة من دور في جعل سكان الكوكب في قلب الحدث، او جزءاً منه، لها المقدرة أيضاً علي تحويله وإبعادهم عن وقائعه. ربما قال قائل ان افغانستان ارسلت من الصوَر عن نفسها ما لم ترسله أعتي الدول معرفة بقوة الصورة. فما ان تفتح انت الصحافي جهاز الكومبيوتر حتي تنهال تلك الصور التي يتخلل سلاسلها ذلك اللون الازرق الذي ألفته لشدة ما تكرر في الشهرين الماضيين، والذي اصبح بديهياً بالنسبة إليك قبل ان تظهر الصورة علي شاشة جهازك انه يغطي سيدة افغانية.
ولكنك في حاجة ايضاً، انت محرر صفحات الحرب، الي محاولة مطابقة الصورة مع التقارير الواردة، وهنا الحيرة الكبيرة. فخبر سقوط مزار الشريف، وهو الحدث الأول في سلسلة سقوط المدن، وربما كانت معركة مزار الشريف المعركة الوحيدة في هذه الحرب، هذا الخبر لن يجد لنفسه صورة. لا أحد يعرف ماذا حصل في مزار الشريف، لا صورة، لا خبر. سقطت المدينة فقط. سقطت كابول وحصلت تجاوزات كثيرة... أين الصورة؟ الصورة فقط هي لأفغاني غفل يرفس افغانياً غفلاً، لمن الجثة ومن الذي يرفسها؟ الصورة عاجزة عن الجواب، لقد وقعت في عجزها مجدداً. طاقة مطلقة وعجز مطلق. ثمة من يقف وراء ذلك.
معركة قلعة جانغي التقطت صورها من زاوية واحدة. شاهدنا رجالاً يصعدون الحصون ويصابون، وآخرين يعبرون مسرعين. وقال تحالف الشمال أن عدد القتلي من المتمردين بلغ نحو 600 قتيل. فيما ذكرت تقارير اخري ان الطائرات الاميركية شنّت نحو 30 غارة علي القلعة. لم نشاهد القتلي ولم نشاهد الغارات. الصوَر جاءت فقيرة مقارنة مع عدد القتلي وعدد الغارات. الكاميرا كانت هناك، بدليل التقاطها تلك الصور الفقيرة، ولكن ثمة من حال دون عملها.
ربما كانت هذه الهذيانات من قبيل الأسئلة التي ولّدها البحث عن ماذا بعد صورة افغانستان؟(الحياة اللندنية)