موسكو ـ من سلام مسافر: يعتقد ديبلوماسيون اجانب يرصدون الموقف الروسي من التهديدات الاميركية ازاء العراق، ان موسكو لا تبدي قدرا من الحزم الذي تطلبه بغداد، ويرون ان الشراكة الروسية ـ الاميركية الجديدة على خلفية الحرب في افغانستان، تجعل الكرملين يفكر مراراً قبل الدخول في مواجهة مع البيت الابيض، من اجل شريك مفيد تجاريا لكنه مثير للجدل,
ورغم اعتراف نائب وزير الخارجية الروسي الكسندر سلطانوف، بان ما يزيد على الـ 60 في المئة من حجم التعامل الروسي مع العالم العربي، تصديرا واستيرادا يخص العراق، وان حصة روسيا من عقود "النفط مقابل الغذاء"، بلغت اكثر من مليار ونصف المليار دولار خلال المرحلة العاشرة من البرنامج، الا ان هذه الشهادة الروسية بحق بغداد، لا تعني ان موسكو مستعدة للذهاب ابعد من الشجب والاستنكار، في حال نفذت واشنطن تهديداتها بضرب العراق وتطبيق السيناريو الافغاني على نظام حكم صدام حسين,
والى الان، فان التصريحات الروسية لم تتجاوز التعبير عن القلق والتنويه بان ضرب العراق سيجر المنطقة الى عواقب وخيمة من دون أي تحديد لطبيعة رد الفعل الروسي، قبل ان توشك الضربة على الوقوع او خلالها, ويعتقد المراقبون ان روسيا، التي تقف قلبا وقالبا مع الولايات المتحدة في حربها ضد افغانستان، تواجه خيارا صعبا، اذ على الكرملين ان يختار بين مصالحه المتنامية مع العراق وبين الشراكة السياسية التي تزداد حرارة مع الولايات المتحدة.
ويميل لفيف من الخبراء الى ان روسيا قد تفضل الشراكة مع الغرب والاندماج في النظام العالمي الجديد، وفق الترسيم الاميركي، على الوقوف بحزم الى جانب بغداد غير الابهة بالمتغيرات الدولية المتسارعة بعد احداث 11 سبتمبر، في حين يتعامل الكرملين مع المأساة الاميركية على انها بداية التاريخ ونهايته في آن معا,,, بداية تاريخ من الشراكة، تسمح فيه واشنطن لموسكو بهامش اوسع في تقاسم مناطق النفوذ، ونهاية تاريخ حافل بالصراع على تقاسم النفوذ امتد لاكثر من نصف قرن الى انهيار الاتحاد السوفياتي، تحت ثقل الاعباء المالية المرهقة للحرب الباردة.
وحتى الان، فان "العم سام" منح "الدب الروسي" حقائب مهمة في الحكومة الافغانية التي صار الطاجيك، اخلص حلفاء موسكو، سادتها, ولم يحصل عبد الرشيد دوستم الاوزبكي الذي ترتاب موسكو من شيوعيته المبطنة ـ فالروس ادرى من غيرهم بها ـ على حصة كبيرة من الكعكة، وصار للروس حضور ديبلوماسي شبه عسكري في كابول، عبر قوات وزارة الحالات الطارئة الروسية التي وصلت باعداد كبيرة تحت غطاء اسداء المعونات الانسانية وعمليات الانقاذ,
وكانت احداث افغانستان، من بين الاسباب الرئيسية للقطيعة بين موسكو وواشنطن قبل ربع قرن تقريبا, اما الان، فان افغانستان تجعل كلا من روسيا والولايات المتحدة تتحدان، واصبحت الساحة الافغانية وكأنها محك اختبار للنوايا, وتوصل الجانبان اخيرا الى اتفاق حول خفض ترسانات الاسلحة النووية، الامر الذي اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "تجسيدا حقيقيا لنهاية الحرب الباردة".
صحيح ان بوش لم يوقع على وثيقة تثبت تعهده خفض الرؤوس النووية الى 2700 رأس، كما تطلب موسكو، لكن اتفاق "الجنتلمان" الشفوي لايثير شكوك بوتين، مثلما كان عليه الحال اثناء الحقبة السوفياتية، حين كان الكرملين يشك في كل خطوة يقدم عليها الاميركيون ولا يثق بغير المدون, وحتى هذا المكتوب على الورق الزمته روسيا السوفياتية باجراءات دفاعية وهجومية معقدة ومتشابكة,
ويعتقد فريق بوتين، الواثق من اخلاص الادارة الاميركية للشراكة، بان اللقاءات المقبلة مع بوش ستفضي الى ابرام اتفاقية تضع اساسا للاستقرار الدولي وتنهي سباق التسلح, ومع ان الخلاف ما زال قائما حول معاهدة تقييد تطوير الاسلحة المضادة للصواريخ (ايه بي ام)، الا ان احاديث بوتين عن انشاء اطار استراتيجي جديد ينم عن ان موسكو وواشنطن تنويان التوصل الى تسوية مقبولة في شأن الدرع الصاروخية وان الجانبين يريان في الارهاب و"الاصولية الاسلامية" عدوا رئيسيا يتعين الاتحاد في وجهه, وبدأت واشنطن تغلق نوافذ النقد لانتهاكات القوات الروسية في الشيشان, وحصل الكرملين على اول الفوائد السياسية من الدعم اللوجستي والاستخباري للقوات الاميركية في افغانستان,
وثمة من يرى ان لدى الولايات المتحدة اغراء قوي بعد تدمير طالبان و"القاعدة" بالزحف نحو العراق والصومال والسودان واليمن وسورية ولبنان، تحت شتى الذرائع, وفي زحفها المدجج بالنصر السريع والمدوي في افغانستان، لا تلقي الولايات المتحدة بالا لروسيا، من واقع ان "اليانكي" رسخ مواقعه في العالم وصار القوة الاعظم بلا منازع، وبعدما ادت روسيا دورها في السيناريو الاميركي التكتيكي في حين لا يتضمن السيناريو الاميركي الاستراتيجي، اي دور لروسيا في تقاسم العالم, وفي احسن الاحوال، فان المارد الاميركي لن يمنح موسكو غير الفتات ويجعل دورها هامشيا بفعل تردي الاحوال الاقتصادية والعسكرية لبلد كان يرعب الاميركيين بثقله النووي,
وليس مصادفة ان يطالب جنرالات مسرحون، في مقدمهم وزير الدفاع السابق اللواء روديونوف، الرئيس بوتين باعادة نظر شاملة في سياسة الكرملين الخارجية التي يعتبرها "الحرس القديم" وبعض جنرالات وزارة الدفاع "تنازلا مهينا" امام الولايات المتحدة, وقد نشر هؤلاء رسالة مفتوحة في صحيفة المعارضة اليسارية "سوفيتسكيا راسيا" حذرت من خطر الوجود الاميركي في اسيا الوسطى وفرض الهيمنة الاميركية على ثروات بحر قزوين ونفط اسيا الوسطى وتحويل روسيا الى "رأس جسر لتحقيق غايات جيو سياسية للولايات المتحدة وجر بلادنا الى صدام مع الحضارة الاسلامية".ويلحظ المراقبون ان مرونة الكرملين ازاء الملف العراقي وما يحيطه من تهديدات اميركية، يتزامن مع وفاق روسي ـ اميركي لم يسبق له مثيل بصدد الوضع في افغانستان، والحديث المتواتر عن نية واشنطن اسقاط جزء من الديون المستحقة على روسيا وقبولها في منظمة التجارة الدولية من دون قيود.
معلوم ان روسيا بحاجة الى التأييد الغربي لحل مشكلة الديون التي ستصل اعباؤها خلال العام 2003 الى اكثر من 14 مليار دولار، فوائد واقساطا, ويتعذر على روسيا تدبير هذا المبلغ في ظل الانحسار الاقتصادي المحلي والعالمي، ولذلك تختار الحكومة الروسية طريق كسب الولايات المتحدة لحل مشكلاتها الاستراتيجية على الدخول في مواجهة معها بسبب العراق,
ويرى الخبير المالي لشركة "نيك اويل" النفطية الروسية غينادي كراسوفسكي، ان الترابط بين الاقتصادين الروسي والاميركي لا يسمح لموسكو بالدخول في مواجهة سياسية مع الولايات المتحدة, ويقول: "يفضل الكرملين التنسيق مع البيت الابيض على الجدل مع الاميركيين والخلاف معهم", ويلمح الاميركيون بانهم سيعملون على تحقيق مصالح روسيا عند انضمامها الى منظمة التجارة الدولية وسيؤيدون اعادة جدولة ديون روسيا، وفقا للخطة التي تقضي بمقايضة الديون بالاستثمارا ت.
وتميل غالبية المراقبين الى ان الجهد الروسي ينصب في المرحلة الراهنة على تأجيل توجيه الضربة الاميركية المتوقعة الى العراق، حتى انتهاء المرحلة الحادية عشر من برنامج "النفط للغذاء والدواء" والذي وافق العراق على تمديده ستة اشهر اخرى تنتهي في يوليو, وتوصل الروس والاميركيون الى حل وسط يقضي بتشديد الرقابة على برامج التسلح العراقية وتخفيف قائمة السلع المحظورة، وفق التصنيف الاميركي، على ان تضغط موسكو في اتجاه اذعان بغداد لمطلب عودة المفتشين واستئناف الرقابة على المنشآت العراقية,
ووفقا للمصادر المطلعة، فان سفير المهمات الخاصة نيكولاي كورتوزوف الذي قام بزيارة لبغداد ومنها الى عمان فالقاهرة، سعى بالدرجة الاولى الى اقناع القيادة العراقية بضرورة القبول بتمديد "النفط مقابل الغذاء" والكف عن الخطاب الاستفزازي, وبحث السفير الروسي المتجول في القاهرة وعمان، تعزيز دور البلدان العربية المستفيدة من التعاون الاقتصادي مع العراق في حشد الاجماع العربي ضد التهديدات الاميركية وخلق "لوبي" مساند لجهود التسوية السياسية للمعضلة العراقية عبر استخدام حظوة القاهرة وعمان لدى واشنطن,
يذكر ان وزير خارجية مصر بحث مع نظيره الاميركي الملف العراقي في لقائمها الاخير الاسبوع الماضي في واشنطن, وعكست تصريحات احمد ماهر الى حد بعيد القلق المصري من احتمالات ضرب العراق، وهو قلق تريده موسكو ان يتحول على لسان العرب الى مطالبة ملحة باستبعاد الضربة تصل الى حد الشجب والاستنكار الشديدين، الامر الذي لا تقدر عليه موسكو اليوم ولا تريده في ظل الوفاق الروسي ـ الاميركي وانتظار ما سينجم عن تقاسم جديد للعالم، يأمل بوتين في الحصول على نصيب مناسب فيه.(الرأي العام الكويتية)