أجري الحوار- محمد علي: بعد حصوله علي جائزة سلطان العويس عن مجمل أعماله إلا إن المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري لا يري في الجائزة نهاية عطائه بل ربما ستكون بداية لاستمرار ذلك العطاء.
والمفكر الذي تجاوز الستين من عمره إلا أنه نجح في ان يحقق طموحا كبيرا في نهجه ومنهجه الذي سار عليهما خلال تحقيقه لإنجازه الضخم وهو موسوعة الصهيونية، وأيضا الدراسات الأخري التي قام بها.
وفي الحوار التالي الذي أجري معه عقب فوزه بجائزة مؤسسة العويس تقديرا لمجمل أعماله ولمشروعه الفكري كأحد أبرز القامات الفكرية التي شكلت ملامح المشروع الحضاري العربي لهذا الوطن رد علي التساؤلات التالية:
في بداية حواره يقول د. المسيري هناك أكثر من سبب يجعلني سعيدا بجائزة العويس، ففضلا عن كونها تتمتع بالسمعة الطيبة والاحترام علي الصعيد العربي، فقد سلطت الضوء علي مجمل أعمالي، وطرحت بشكل مباشر أبعاد رؤيتي الشاملة التي تنتظم مشروعي الفكري كله، والأهم ان الجائزة أسهمت في حل مشكلة ظلت طويلا تلاحقني، وهي ان اسمي ارتبط بالدراسات اليهودية والصهيونية، بحيث حصر الكثيرون منجزي الفكري في أسر الدائرة الصهيونية، بينما كانت - في الحقيقة - مجرد جزء من رؤية أعم وأشمل، ودائما ما كنت أردد في مختلف المنتديات والمحافل بأن دراساتي اليهودية والصهيونية هي حالة وان هناك منهجا أهم من تلك الحالة، لكن هناك اتجاها عاما لدينا نحن المثقفين العرب، وبالتالي علي مستوي المتلقين أيضاً، هو البحث عن المعلومات السهلة الميسرة الصالحة للاستهلاك السريع، وليس عن الإطار الذي ينتظم هذه المعلومات والذي تم علي أساسه اختيارها، وهو عيب أراه مؤثرا، وأعترف بأنني كنت أقع فيه في الماضي، وأذكر في هذا السياق أنني قرأت كتيبا صغيرا عن اليهود للمفكر جمال حمدان، لكنني كنت دائما ما أهمله في قائمة مراجعي، لأن كمية المعلومات التي توجد فيه قليلة جداً، لكن حينما تأملت في مساري الفكري، وجدت ان هذا الكتاب أثر في وبعمق علي مستوي المنهج ، فالخيرة هي التي تستحق الاهتمام الأوفر وان تكون علي رأس الأولويات، لذلك اتجهت بعدها إلي التمييز بين (المرجع) و(المرجعية) لذلك يحسب لجائزة العويس أنها لفتت الأنظار إلي القيمة فيما كتبت علي مستوي الإطار والمنهج، بغض النظر عما يحتويه من معلومات التي هي الآن متاحة للجميع وبكثرة مرعبة علي شبكة الإنترنت فضلا عن تقديمها رؤيتي الشاملة التي تضم طرحي علي صعيد القضايا الاجتماعية والدراسات الأدبية والإنسانية، وصولا إلي أدب الأطفال والتي تشكل دراساتي الصهيونية جزءا منها، وبهذا وضعت (الجائزة) تلك الدراسات في سياقها الصحيح، وهو ما يمثل قيمة عظيمة بالنسبة لي.
وحول تقييمه للعلاقة بين رأس المال الوطني والثقافة والفكر يقول: أعتقد ان جائزة العويس تؤكد فكرة دور المجتمع المدني والمشاركة الإيجابية لرأس المال الوطني فصاحب الجائزة هو أحد الأثرياء الذي خصص جزءا من ماله لتقدير الفكر والمفكرين علي مستوي الوطن العربي بعيدا عن أي تدخل من جانبه في تحديد الفائزين بها.. وهي ظاهرة راقية وصحية تنتشر بكثرة في دول الخليج العربي.. وإن كنا نفتقدها بشدة في مصر..والمغرب الغربي.. ومن هنا فلابد من تسليط الأضواء علي مثل هذه الجوائز لتكون نموذجا يحتذي،~ حتي نشجع علي تعميمها.
أما في مصر فلا توجد علاقة سوية بين رأس المال والثقافة بوجه عام..وذلك يرجع إلي ان الرأسمالية الحديثة ليست متجذرة فكريا، وهدفها الأول هو تعظيم الربح بعيدا عن بناء الوطن وهي ما زالت عاجزة حتي الآن عن إنتاج شخصيات أو رجال أعمال قادرين علي إدراك ان رأس المال ليس مجرد تراكم للأموال في البنوك، أو إنفاقه علي مظاهر البذخ المستفزة، أو العمل بمنطق (الإسفنجة) التي تمتص أموال الوطن وتلقي بها في الخارج، ويجب ان يتعلم هؤلاء ان بناء الوطن لا يكون بشراء شاليهات الساحل الشمالي الفارهة أو بإقامة حفلات الزفاف التي تجاوزت كل حدود وتصورات السفاهة.. والإعلام لا بد ان يلعب دورا أكثر تأثيرا في توعية هؤلاء الرأسماليين الاستهلاكيين.. لا الترويج لقيمهم السلبية.. وعلي رأس المال الوطني ـ ان أراد ان يكون وطنيا ـ ان يعتبر نفسه جزءا من منظومة البناء في هذا الوطن سواء بحماية كنوزنا الأثرية أم إنشاء المراكز العلمية والبحثية أم تجميل المدن.. وصولا إلي تكريم النخب الفكرية والإبداعية.. وحول تقدير منجزه داخل وطنه الأم مصر.. ويقول د. عبدالوهاب المسيري أكبر تكريم لي الآن هو ان مختلف الأجيال - خاصة الشباب - يحرصون علي قراءة هذا المنجز الفكري بمختلف اتجاهاته ومجالاته،~ لقد عانيت الأمرين طوال العقود الثلاثة الماضية وحتي أوائل التسعينيات حيث كنت أجد صعوبات وعراقيل عديدة في نشر أعمالي.. أو حتي التواصل مع القطاع العريض من الناس.. وذلك بسبب العراقيل البيروقراطية التي تحكم مؤسساتنا فقد كانت الدوريات السياسية مثلا ترفض نشر إنتاجي بحجة انني (أستاذ أدب إنجليزي)!!، كما ان الجامعة رفضت ترقيتي أستاذا في الدراسات الاجتماعية رغم تقديرها للأبحاث التي تقدمت بها لذات السبب، لذلك قررت الاستقالة من الجامعة - فضلا عن أسباب أخري - لأتفرغ لدراساتي الفكرية التي أنفقت عليها أموالا كثيرة.. سعيا لتحقيق مشروعي الفكري بحرية. هناك أيضا الأسباب الشخصية وفي مقدمتها رفضي الانضمام إلي شلة ما أو حزب أو حتي اتجاه فكري واضح.. وهو ما يجعلني مستبعدا إلي حد ما من دوائر جوائز التكريم أو حتي الترشيح لها.
علي صعيد آخر فإن معظم الناشرين في مصر لا يقرأون وإن قرأوا لا يقدرون قيمة الطرح الفكري.. وينساقون فقط وراء الأسماء الرنانة والشهيرة، وأذكر في هذا الشأن أنني كتبت كتابا عن الجمعيات السرية وأرسلته إلي ناشر معروف..فألقاه في زوايا الإهمال.. لأكثر من عام.. مرددا من عبدالوهاب المسيري هذا؟ وحينما عرضته علي دار نشر كبري..رفضته أيضا.. حتي التقيت بعد فترة بالمثقف الحقيقي الكاتب (مصطفي نبيل) الذي نشره في دار الهلال. والغريب ان الطبعة الأولي وعددها خمسة آلاف نسخة نفدت كلها في ليلة واحدة، وطبع منه 4 طبعات في شهرين نفدت جميعها، بعدها اتصل بي الناشر الكبير معاتبا، واتهمني بأنني أبخل علي داره (الكبيرة) بدراساتي، فقلت له ابحث في ملفاتك ستجد ذات الكتاب بين أوراقك المهملة!! إنني لا أستطيع ـ بهذا المنطق ـ أن أرد علي سؤال (تكريمي في مصر) وأترك الحكم للأوساط والنخب الثقافية، وبصفة عامة كل ما يهمني هو الوصول إلي أكبر قطاع من القراء والمتلقين في مصر والوطن العربي بغض النظر عن أي شيءآخر. (عن "الراية" القطرية)
&