يخطئ من يظن أن نجاح الحملة العسكرية الأميركية في إزاحة حكم طالبان وتدمير تنظيم القاعدة يعني انتهاء مشكلة الإرهاب في العالم مثلما يخطئ أولئك الذين يتصورون أن تغيير مسرح العمليات العسكرية في مرحلة ما بعد أفغانستان إلي مناطق أخرى,‏ يعني أن هدف اقتلاع الإرهاب من جذوره بات حلما قريب المنال‏..‏ ربما فقط يمكن القول إن ما تحقق علي الأرض الأفغانية يشكل أرضية صالحة لعمل سياسي جاد تحت مظلة دولية مشروعة من أجل إزالة الأسباب الحقيقية لنمو الفكر المتشدد الذي هو في اعتقادي أهم وأخطر من كل البني التحتية لقواعد وتنظيمات الإرهاب‏.‏
‏***‏
أريد أن أقول بوضوح إن موازين العالم وأوضاعه المعقدة والمتشابكة قد لا توفر في المرحلة المقبلة نفس الأجواء الإيجابية التي واكبت الحملة العسكرية علي الأرض الأفغانية تحت وطأة الصدمة الهائلة لأحداث واشنطن ونيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر‏.‏
ثم إن الإرهاب الذي يعاني منه العالم منذ سنوات‏,‏ وسبق لمصر والرئيس مبارك التحذير منه‏,‏ والدعوة إلي سرعة مواجهته وإزالة الأسباب التي تساعد علي انتشاره هو في الأساس إرهاب دموي غير مشروع يحتمي بعضه خلف قضايا سياسية وتحريرية لها كل المشروعية‏.‏
وإذن فإن نقطة البداية تكمن في مدي قدرة المجتمع الدولي علي حل وحسم القضايا والأزمات المزمنة التي يشعر أصحابها بالعجز عن استخلاص حقوقهم فيلجأون للتحصن خلف أفكار التطرف والتشدد التي تجذب كل اليائسين والمحبطين ممن لديهم الاستعداد لإشعال الحرائق المدمرة هنا وهناك لكي يسمع العالم صوتهم‏.‏
باختصار أقول إن الحل العسكري والأمني لقضية الإرهاب قد يصلح في إطار الوقاية المرحلية وفي إطار الردع الضروري لكنه ليس حلا كافيا‏.‏
إن الحل المطلوب ينبغي أن يكون حلا سياسيا في المقام الأول‏,‏ لأن الحل السياسي هو الذي يمكن أن يؤدي إلي سد الثغرات التي ينفذ منها المتطرفون والمتشددون بغطاء الفكر الإرهابي الذي يتجه في أغلب الأحيان لستر عوراته باستخدام غطاء الدين كوجه مقابل للمبرر السياسي‏.‏
ولعل ما نرصده منذ سنوات علي صعيد المواجهات الفلسطينية ـ الإسرائيلية ـ وبالذات خلال فترة حكم شارون الحالية ـ يؤكد أن رهان الحلول العسكرية والأمنية الذي تبنته الحكومة الإسرائيلية ومؤسستها العسكرية لم يوفر ولا سلاما ولا استقرارا‏,‏ وإنما يؤدي إلي تزايد العمليات الاستشهادية التي يصنفها الإسرائيليون علي أنها عمليات إرهابية تهدد حياة المدنيين الأبرياء‏!‏
ومعني ذلك أننا حتي لو سلمنا بصحة هذا التصنيف الإسرائيلي للعمليات الاستشهادية ـ وهو تصنيف بات يحظي بتأييد أمريكي وأوروبي كامل ـ فإن ذلك لا يمثل سوي نصف الحقيقة لأن النصف الآخر يقول إنه لو لم يكن هناك احتلال واستيطان وإذلال إسرائيلي للشعب الفلسطيني لما كان بإمكان مثل هذه الجماعات المتطرفة ـ من وجهة نظر إسرائيل ـ أن تجد مبررا واحدا لعملياتها التي يتحفظ عليها كثير من العقلاء في الأمة العربية وتدينها السلطة الفلسطينية نفسها‏!‏
وربما في النصف الآخر من الحقيقة التي يجري تغييبها ـ عمدا ـ في وسائل الإعلام العالمية الموالية لإسرائيل تتوافر المشروعية النسبية لهذه الجماعات في عملياتها باسم الحق المشروع في مقاومة المحتل ولا يضعف من هذه المشروعية النسبية سوي أنها تتعرض للمدنيين‏,‏ في حين أنها لو اقتصرت علي العسكريين أو تجمعات المستوطنين في الأراضي المحتلة لكان لها شأن آخر لا يقل عن حجم الفهم والتعاطف الدولي مع انتفاضة الحجارة التي نجحت في حصر نطاق عملياتها داخل الأراضي المحتلة وضد الجنود والمستوطنين فقط‏!.‏
‏***‏
لقد قيل ـ وبعض القول صحيح ـ إنه كلما لاحت بادرة أمل في التحرك علي طريق الحل السياسي للقضية الفلسطينية‏,‏ انطلقت قوي التطرف والتشدد علي الجانبين لكي تجهض أي حل محتمل ولكي تبقي علي الوتر المشدود عند أقصي درجات الشد اللازمة لاستمرار سخونة الصراع‏.‏
والذين يقولون بذلك يستندون إلي فترة حكم اسحق رابين‏1992‏ ـ‏1995‏ التي شهدت أول تحرك حقيقي وإيجابي نحو بناء قدر مقبول من الفهم المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين‏,‏ والذي عبرت عنه اتفاقيات أوسلو وبدء التنفيذ الفعلي لها علي الأرض بانسحاب إسرائيل من بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة‏,‏ وإقامة أول سلطة وطنية فلسطينية في الأراضي المحررة طبقا لاستحقاقات المرحلة الأولي من أوسلو‏..‏ وكانت النتيجة أن قوي التطرف والتشدد ودعاة الخصام والاقتتال إلي ما لا نهاية علي الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي استشعروا سويا ـ وبغير اتفاق معلن ـ ضرورة تدمير هذا الانجاز فوقعت العمليات الاستشهادية الرهيبة التي هزت إسرائيل بأسرها بواسطة فصائل التطرف الفلسطينية‏,‏ أما علي الجانب الإسرائيلي فقد رأت قوي التطرف أن إصرار اسحق رابين علي المضي في عملية السلام رغم وقوع هذه العمليات التي كانت توفر لإسرائيل ـ من وجهة نظرهم ـ فرصة الإفلات من دفع استحقاقات أوسلو يعني أن الحلم الصهيوني التوسعي بات مهددا ومن ثم تقرر اغتيال رابين ونفذت الجريمة الكاملة بواسطة أحد الشباب الإسرائيليين المتطرفين إيجال عامير الذي لم يكشف بعد من الذين كانوا وراءه‏!‏
واليوم تتردد نفس الاجتهادات ولكن مع فارق جوهري ومخيف‏,‏ هو أن شارون لم ولن يرقي إلي مستوي الفهم السياسي عند رابين الذي كان رده الوحيد علي من هاجموه بشدة داخل إسرائيل ومن أحرجوه بعمليات استشهادية باسم الرفض الفلسطيني لاتفاقيات أوسلو أنه لن يتراجع عن طريق السلام‏,‏ وأن مثل هذه الصغائر التي يقوم بها المتطرفون داخل إسرائيل وعلي الجانب الفلسطيني لعرقلة الحل السياسي المنشود للصراع العربي ـ الإسرائيلي ينبغي مواجهتها بتأكيد الإصرار علي خيار السلام ليس فقط علي المسار الفلسطيني وإنما علي جميع المسارات‏.‏
وأظن أن قرار اغتيال إسرائيل قد جري اتخاذه ـ إسرائيليا ـ بعد هذه التأكيدات الصريحة التي تتصادم مع الأفكار التوراتية لقوي التطرف اليميني والديني في إسرائيل خصوصا وأن حكاية وديعة رابين بشأن هضبة الجولان السورية كان قد جري تسريبها عمدا إلي الشارع الإسرائيلي من أجل إثارة قوي التطرف الرافضة للانسحاب من الجولان‏.‏
‏***‏
وإذن ماذا؟
المسألة باتت واضحة في أنه لايمكن الحديث عن عودة الهدوء والاستقرار إلي منطقة الشرق الأوسط وضمان عدم انتشار شرارات اللهب منها إلي مناطق أخري من العالم‏,‏ إلا إذا تم التوصل لحل سياسي يرتكز إلي العدالة والمشروعية وتكافؤ الحقوق واحترام الآخر‏.‏
المسألة أنه إذا استمر الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي واستمرت معهما سياسات الإذلال والحصار والعقاب الجماعي للفلسطينيين‏,‏ فإنه لن يكون بمقدور عرفات أو من هم أقوي من عرفات أن يوقفوا العمليات الاستشهادية ـ التي يسمونها إرهابية ـ بأي إجراءات أمنية مهما بلغت ضراوتها‏.‏
أقول ذلك استنادا لحقيقتين أساسيتين مازالتا بكل أسف غائبتين أو مغيبتين ـ عمدا ـ لدي إسرائيل وأمريكا وهما‏:‏
‏(1)‏ أن الذين يقومون بهذه العمليات الاستشهادية هم أول من يدرك أنها لايمكن أن تؤدي إلي هزيمة إسرائيل أو حتي الإخلال بالتوازن العسكري بين الفلسطينيين والإسرائيليين‏,‏ وإنما هي تندرج ـ من وجهة نظر منفذيها ـ علي واجبهم في إجبار إسرائيل علي دفع ثمن باهظ وموجع بمثل ما يدفع الشعب الفلسطيني تحت نيران الاحتلال وحماقات المستوطنين‏!‏
‏(2)‏ أن من مصلحة التيارات الفلسطينية المتطرفة التي لم تعترف باتفاقيات أوسلو وترفض فكرة المساومة علي أرض فلسطين التاريخية‏,‏ أن تستهدف من وراء هذه العمليات أن توقظ اليمين المتطرف في إسرائيل لكي يعرقل ـ من جانبه ـ أي نوع من الحل السياسي للمشكلة باسم ضرورة التمسك بأرض إسرائيل التاريخية‏!‏
وهنا يكون السؤال الضروري والملح هو‏:‏ إذا كانت فصائل التطرف والتشدد الفلسطيني يشفع لها أنها تتحرك تحت وطأة مزاج سياسي مضطرب نتيجة عدم وفاء إسرائيل بأقل الاستحقاقات المطلوبة في اتفاقيات أوسلو‏,‏ فضلا عن وجود ضغوط نفسية مريعة ناجمة عن قسوة الممارسات التعسفية لقوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني‏..‏ فما الذي يمكن أن يشفع لحكومة رسمية يقولون إنها هي الحكومة الديمقراطية الوحيدة المنتخبة انتخابا ديمقراطيا في المنطقة؟
والجواب بالطبع هو‏:‏ إن شارون كان ينتظر ويتمني مثل هذه العمليات الفلسطينية الموجعة في داخل إسرائيل‏,‏ وإن هناك من يعتقد أن حكومة شارون ربما كانت ستفكر في تدبير عمليات من هذا النوع لو لم تقدم الفصائل الفلسطينية المتشددة عليها‏.‏
والسبب أن شارون قد أدرك بعد سقوط المائة يوم علي إخماد الانتفاضة الفلسطينية والتقليل من زخمها العالمي أن فرصته الوحيدة تتمثل في كيفية استثمار أجواء ما بعد‏11‏ سبتمبر والعمل علي إلباس تهمة الإرهاب بالعرب والفلسطينيين لكي يحصل علي ضوء أخضر من أمريكا بتأديب وعقاب الفلسطينيين والعمل علي تركيعهم تحت مظلة من سوء فهم دولي يؤدي لعدم الفصل بين الإرهاب المرفوض والمقاومة المشروعة‏.‏
ثمة سبب آخر لا يعيبنا أن نعترف به‏,‏ باعتباره أحد أخطاء الممارسة الفلسطينية ويتمثل في أن هذه العمليات وفرت لشارون تأييدا واسعا كان يفتقر إليه في الشارع الإسرائيلي علي طول عمر الانتفاضة عندما كانت حجارتها ورصاصاتها مركزة فقط علي قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين في الضفة وغزة‏.‏
وأصل إلي قرب الختام في حديث شائك ومعقد لأقول إن الرهان العربي والفلسطيني علي السلام وعلي الحل السياسي ينبغي أن يستمر وأن يتضاعف مهما بالغ شارون في صلفه وتشدده واستفزازاته‏.‏
وليست في أيدينا ـ في مثل هذه الظروف الدولية الراهنة ـ أي أوراق أفضل من ورقة الدعوة لاحتشاد دولي وراء فكرة الحل السياسي للمشكلة الفلسطينية‏,‏ كخطوة أساسية ورئيسية لإنجاح أهداف الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب‏.‏
إن علينا أن نسقط هجوم شارون العسكري والسياسي ضد الفلسطينيين بدعوي أنهم جزء من منظومة الإرهاب العالمي بتأكيد أن الاحتلال والاستيطان وغياب الحل السياسي العادل هو الذي يوفر البيئة الملائمة لنمو الإرهاب ليس فقط في الساحة الفلسطينية‏,‏ وإنما في داخل إسرائيل نفسها‏,‏ حيث تزداد قوي التطرف والتشدد طمعا وشراهة وإصرارا علي المضي في سياسات التوسع والهيمنة واستلاب حقوق الغير‏.‏
ولابد أن يصاحب هذا الجهد العربي في الساحة الدولية تكرار تذكير العالم بأن إرهاب الدولة في إسرائيل يعد أفظع أساليب الإرهاب في عصرنا الراهن‏..‏ ومن حسن الحظ أن لدينا ألف دليل ودليل علي صحة ما نقول‏...‏ وبالصوت والصورة معا‏..‏(الأهرام المصرية)