&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& حسونة المصباحي

مطلع العام 1988، قدمت بالاشتراك مع د. اردموته ميللر، المشرفة السابقة على مجلة "فكر وفن" الالمانية الى القناة التلفزيونية البافارية بميونيخ، مشروعا لانجاز فيلم وثائقي عن نجيب محفوظ. عقب مرور اسبوع على ذلك، ردت الادارة بالرفض قائلة إن الكاتب المعني بالأمر مجهول تماما في المانيا، وبالتالي فإن انجاز فيلم وثائقي عنه ليس مجديا. استشاطت د. اردموته ميللر غضبا، وفي الحين توجهت الى مكتب مدير قسم الافلام الوثائقية لتبلغه استنكارنا لذلك القرار المجحف والظالم. وبعد نقاش ساخن، استجابت الادارة لطلبنا، خصوصا بعد ان تمكنا من اقناعها من ان نجيب محفوظ هو افضل من كتب عن مدينة القاهرة التي يحبها الالمان كثيرا، وانه بالنسبة لهذه المدينة، شبيه بديكنز بالنسبة للندن، وببالزاك بالنسبة لباريس، وبجويس بالنسبة لدبلن.
اواسط شهر سبتمبر/ ايلول من نفس العام، سافرنا الى القاهرة لانجاز الفيلم المذكور الذي اخترنا له عنوان "نجيب محفوظ.. ذاكرة مدينة القاهرة".
خلال الرحلة التي استغرقت قرابة الاربع ساعات، كانت مشاعري تتلاطم مثل أمواج في العاصفة الهوجاء. فقد كان شوقي لرؤية القاهرة التي لم أزرها من قبل، شديدا. اما مقابلة نجيب محفوظ الذي عشقت اعماله منذ سن السادسة عشرة، فقد كانت حلما عزيزا لم اكن اتصور ان يتحقق ذات يوم. ولأن مشاعري تلك كانت اقوى من كل شيء، فاني التزمت الصمت طوال الرحلة تقريبا، موهما رفقاء الرحلة بأني غارق في النوم.
وصلنا الى القاهرة في الساعة الثامنة ليلا بالتوقيت المحلي. وفي الحين بدأت المتاعب بالنسبة لي. فقد سمح للفريق التلفزيوني بالدخول. اما انا فقد منعت من ذلك بحجة لا املك تأشيرة. اخبرت الضابط الشاب بأن السفارة المصرية في بون التي هاتفت لها خمس مرات، اكدت لي انه بامكاني الحصول على التأشيرة في مطار القاهرة. فأجابني بجفاء واضح: "هذا امر لا يهمنا!". فلما استنكرت جوابه ذاك، هدد باعادتي فورا الى ميونيخ في نفس الطائرة التي جاءت بي الى القاهرة. تضامن معي رفقاء الرحلة الالمان وظلوا واقفين ينتظرون. امرت انا بالمكوث في ركن من المطار يتكدس فيه مصريون متعبون قالوا انهم قادمون من العاصمة الليبية طرابلس. واحد منهم بجلابية رمادية باهتة كان يسعل عاليا طول الوقت، آخر نحيف، يابس الجسد، بعينين جاحظتين محمرتين كان يتقيأ ماء اصفر. اربع ساعات من الانتظار القاتل ودائما لا جواب. والالمان الاربعة هناك واقفون وعلى ملامحهم علامات الاندهاش والاستنكار اذ انهم ما كانوا يتصورون البتة ان يعامل العربيُّ العربيَّ بمثل تلك الخشونة وتلك القسوة. اخيرا، وفي الساعة الواحدة صباحا تقريبا، دفعت "بقشيشا" ودخلت. في فندق "هيلتون ـ النيل" وسط القاهرة، اعلمنا بأنه يتحتم علينا ان ندفع اقامتنا كاملة ولمدة اسابيع ثلاثة. كيف.. والبنوك مغلقة؟ مرة أخرى نفس الجواب: "هذا امر لا يهمنا!".. ماتت مشاعر الشوق لرؤية القاهرة ونجيب محفوظ ولم تعد هناك غير رغبة واحدة: العودة الى ميونيخ فورا! غير ان الالمان كانوا هادئين وصبورين. وهذا ما كبح قليلا مشاعر الغضب التي اجتاحتني. امضينا ما تبقى من الليل في فندق بائس بحي المهندسين. لم ننم.. ظللنا جالسين في الصالون الكئيب الى ان طلع الصباح على القاهرة. رحت أتأمل النيل في الضوء الصباحي وهو ينساب متكاسلا غير عابئ بشيء. وعندئذ هدأت.
قبل سفرنا، اعلمنا نجيب محفوظ عبر الهاتف انه سيكون في الاسكندرية خلال الاسبوعين الاخيرين من شهر سبتمبر/ ايلول. في اليوم التالي ركبنا القطار الى هناك. يوم جميل، والاسكندرية تجلتّ لنا متعبة، على ملامحها غضون الشيخوخة والاندحار. حتى البحر الراقص في ضوء الخريف بدا وكأنه عاجز عن مواساتها. في مقهى على الكورنيش وجدنا نجيب محفوظ بصحبة شابين انيقين في حوالي الثلاثين من عمرهما. كان يلبس جاكتة بيضاء خفيفة ويعتمر قبعة صيفية بيضاء هي ايضا، ويضع على عينيه نظارتين سوداوين. جميع ملامحه تدل على انه في صحة جيدة. استقبلنا بحرارة. تحدثنا معه حول الفيلم وحول اشياء أخرى كثيرة. طول الوقت الذي امضيناه معه كان بشوشا، منبسط الاسارير، رائق المزاج. في الساعة الواحدة غادرنا: "الى اللقاء في القاهرة!" قال. مكثنا مع الشابين اللذين كانا يتكلمان الانجليزية بطلاقة وكان واضحا انهما ينتميان الى الطبقة البورجوازية. قالا لنا ان نجيب محفوظ حريص على مجالستهما في نفس المقهى في النصف الاول من كل يوم خلال الاسابيع الاربعة التي يمضيها في الاسكندرية. حدست ان ذلك قد يكون عائدا الى انهما يذكرانه بفترة الفتوة والشباب، وايضا الى انهما يسمحان له بالاطلاع على طريقة تفكير الاجيال الجديدة، وعلى خفايا الحياة في الاسكندرية. فمثل جميع الكتاب الكبار والاصيلين، هو لم يكتب اعماله البديعة الا انطلاقا من تجارب عاشها او عايشها. اضاف الشابان ايضا بأنهما لا يعرفان مقر اقامة صاحب "ميرامار" وانه على ما يبدو لا يرغب في ذلك البتة. بعد الغداء، حوالي الساعة الرابعة تقريبا، خفت الحرارة، فتمشينا على الكورنيش. في الهواء المعطر برائحة البحر، خفقت مثل طيور النورس، ابيات لكفافيس: لأقف هنا، لانظر الى الطبيعة قليلا الى البحر الصباحي، والسماء الصافية الى زرقتها المتألقة، وشاطئها الاصفر..
والكل جميل.. جميل يغمره النور.
كان مقهى "علي بابا" بـ "ميدان التحرير" قرب فندق "هيلتون ـ النيل" المكان المفضل لنجيب محفوظ في ذلك الوقت، يأتيه راجلا من بيته الواقع على الجانب الآخر من النهر ليشرب قهوته، ويقرأ الجرائد، ويستقبل بعض الزوار من الاجانب تحديدا. جلسنا اليه هناك اكثر من مرة. وكان هو الذي يدفع دائما ثمن ما نشرب. ومرة قررنا دون اعلامه بالامر مرافقته في سيره الصباحي المبكر من بيته في شارع النيل حتى المقهى المذكور. قيل لنا انه منضبط انضباط ساعة "بيج بن" وانه يغادر عند الساعة السابعة صباحا. لا دقيقة اقل. ولا دقيقة اكثر. كنا هناك في الوقت المحدد.
برز هو عند عتبة الباب مرتديا سترة وبنطلونا رماديين. كانت القاهرة قد بدأت تغرق في حركة المرور الصباحية المجنونة، وابواق السيارات تمزق الهواء تمزيقا والضجيج كأنه دوي الارض وهي تنفجر. سار نجيب محفوظ بهدوء وبدا منصرفا انصرافا كليا الى عالمه الخاص، غير مبال كليا بما وبمن حوله. كنا نركض طول الوقت لكي نكون قبله، وعلى مسافة لا تسمح له باكتشافنا. عند وصولنا الى مقهى "علي بابا" كنا نلهث من شدة التعب، حين رآنا، قال لنا باسما "انتم هنا قبلي!" أعلمناه اننا صورنا مسيرته الصباحية الجميلة من عتبة بيته حتى المقهى فاتسعت ابتسامته وسمعناه يهمس وكأنه يخاطب نفسه: "والله ما انتبهت لهذا ابدا!".
ذات صباح فاجأنا: "اليوم نعمل الحوار" شحب وجه د. اردموته ميللر لأننا كنا نعتقد ان ذلك سيكون بعد يومين اما انا فقد سارعت بالموافقة على ذلك. نظرت لي د. اردموته ميللر مندهشة فقلت لها: "هذا الصباح اعددت الاسئلة" "اين هي"؟ سألتني ـ "في غرفتي في الفندق". بعدها ركضت الى هناك وخلال نصف ساعة فقط اعددت كامل الاسئلة وعدت سريعا الى مقهى "علي بابا". اقترح علينا نجيب محفوظ ان يتم الحوار في "كازينو النيل"، حيث كان يعقد جلساته مع اصحابه من "الحرافيش" كل يوم خميس. ذهبنا الى هناك، جلسنا على حافة النهر. امامنا كانت القاهرة تسبح في الغبار وفي ضوء الخريف الصحراوي. اجاب نجيب محفوظ على جميع اسئلتي بدقة، ولا مرة واحدة تلعثم او تردد في الاجابة، كان متماسكا، واثقا من نفسه ومن ثقافته العالية. وفي كل جواب كان يزداد عظمة امامي اذ لا اذكر انني حاورت كاتبا او شاعرا عربيا قبل ذلك له مثل ذلك التواضع، وذلك الحس الانساني العالي، وتلك القدرة على الحب، وذلك التسامح الذي قد يكون ورثه عن امه التي كانت لا ترى عيبا، وهي المسلمة التقية الورعة، في زيارة الكنائس القبطية قائلة: "كلها بركة". وخلال حواري معه، ادركت انه يكن تقديرا كبيرا للرواد الكبار من امثال طه حسين ومحمود عباس العقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وتحدث عنهم بكثير من الاهتمام والتقدير. كما لاحظت انه تحاشى طول الوقت الخوض في مواضيع قد تسبب له خصومات مع آخرين، او تثير حفيظة البعض سواء كانوا من اهل السياسة او من اهل الادب، انه الاديب الديبلوماسي بالمعنى الحقيقي للكلمة. في النهاية طرحت عليه السؤال التالي: "انت لم تسافر الا مرة او مرتين خارج مصر ولوقت قصير للغاية.. كيف تتراءى لك المدن التالية: روما، باريس، لندن؟". ظل صامتا لحين، ثم اجابني على ذلك. بعدها قال لي باسما: "هذا من اطرف الاسئلة التي طرحت علي في جميع الحوارات التي اجريت معي".
يوم استراحة. دلفنا في حارات القاهرة القديمة مسرح جل روايات نجيب محفوظ فلم نعثر إلا على القليل من اثار عوالمها. غبار وبؤس وقطط هائمة وروائح كريهة وعجائز سارحات الذهن ورجال متعبون وفتيان بوجوه شقية وشوارع فارغة لها كآبة المقابر المنسية وخريف يتمرغ كسلان. وبين الحين والحين يطل شبح من اشباح الماضي كما صوره نجيب محفوظ في "زقاق المدق" او في "الثلاثية" او غيرها من الاعمال، لكنه سرعان ما يتلاشى في النهار الخريفي الذاهل ذهول المحتضرين. بعد ان شربنا شايا في مقهى "الفيشاوي" توجهنا الى مدينة "الأموات". امضينا هناك ساعة كاملة بين احياء لهم ملامح الفانين منذ امد طويل حتى اصواتهم تبدو كما لو انها قادمة من عالم آخر. ابدا في حياتي كلها لم أر مشاهد شقاء وبؤس ابشع من تلك المشاهد التي رأيتها هناك. عدت الى الفندق مثقلا بالأسى، لكأني عائد من جنازة واحد من اقرب الناس الى قلبي. وكنت تحت الدش البارد، حين سمعت طرقات قوية على الباب وصوتا يناديني "ما الذي حدث؟" صحت بصوت عال. اجابني هانكس، مساعد المخرج: "لقد فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للاداب!" انزاح عني الهم الذي تكوم على جسدي وعلى قلبي في ذلك اليوم فركضت الى الباب لأجد فريق التلفزيون البافاري في انتظاري. ركبنا السيارة وتوجهنا الى كازينو النيل. وجدناه مليئا بالناس حد الفيض: صحافيون وكتاب وسياسيون. ووسط الجموع كان نجيب محفوظ جالسا وقد اشرق وجهه بالبشر والسعادة. حين رآنا قال: "لهؤلاء اعطي التصريح الاول لانهم هم الذين جاءوني بجائزة نوبل!" وكان الامر كذلك. حتى وسائل الاعلام المصرية لم تقترب منه الا بعد ان اكملنا التصوير وسجلنا التصريح. عند عودتنا الى الفندق، تهاوت علينا المكالمات الهاتفية من التلفزيون البافاري ومن قنوات تلفزيونية أخرى، ومن كبريات الصحف الالمانية. امضيت الليل في كتابة الحوار المسهب الذي اجريته مع نجيب محفوظ قبل ذلك بايام قليلة وكانت د. اردموته ميللر تترجم كل صفحة افرغ من كتابتها. طلع الفجر على النيل وانا واقف في الشرفة اتأمل ليل القاهرة وهو ينجلي بهدوء. وعندما كانت الشمس تطلع حمراء مثل جمرة، شعرت ان الحدث الذي عشته، اي فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، هو اروع حدث ثقافي عشته حتى تلك الساعة، وربما لن اعيش مثله في حياتي كلها. (عن "الشرق الاوسط" اللندنية)
&