بيروت ـ من جاكلين سعد: يُسيطر اللون الرمادي كثيراً في قاعة اللقاء، على الجدران، في المفروشات البسيطة، في الستائر، وحتى في العباءة التي يلبسها سماحته، لكنك بالكاد تعثر على منطقة رمادية واحده في ما يقول، فهو يفتح الحوار مع مُحاوريه على كل المحاور البيض والسود، بكثير من الصفاء والنقاء في الفكر والمنهج.
السيد الواصل الى اللقاء ـ الممتد على يومين ـ بعد ليلتين طويلتين من الادعية الباكية في ليالي القدر، جلس في المقعد اياه كل يوم، وادعَ المحيّا، ساكن النظرة، هادئ النبرة, واستراحت يده اليمنى على حافة المقعد، فيما راحت اليسرى تداعب من وقت الى آخر درعاً مخملياً احمر موضوعاً قرب المصحف على منضدة قربه، كأنها تتلمس ضوءا اضافياً يرشده في طريق الحوار، الذي لا يترك محطة الا ويتوقف فيها.
?& يروي القريبون من سماحتك انك كثيراً ما تستغرق في البكاء في أثناء إنشادك للأدعية في شهر رمضان المبارك, متى كانت المرّات التي بكيت فيها ولماذا؟
ـ في الواقع انا بدأت تجربة الدعاء منذ كنت في العاشرة عندما كنت أذهب إلى مرقد الإمام علي (ع) في النجف وأقرأ الأدعية بصوت مؤثر لا أزال املكه، مع الناس الذين يستمعون إليّ، ولم يكن الدعاء بالنسبة اليّ حالاً تقليدية بل تفاعلاً أعيش مضمونه وأنفتح على أجوائه باعتباره وسيلة من وسائل العروج الروحي إلى الله والصداقة مع الله ومناجاة الله, ولذلك كان تفاعلي مع الدعاء بالبكاء من خشية الله ومحبته أمراً طبيعياً، عشته في كل فترات حياتي ولا أزال، لأن الإنسان عندما يعيش مع الله مستشعراً بالحنان الالهي والرحمة الالهية، يغمره فيض من السعادة الروحية يتحول فيضاً من الدموع، انني أبكي أمام كل مظاهر المأساة في العالم، قد يبكي قلبي ويضغط على عيني ليستنزف منها الدموع في كثير من الحالات, أنا أعيش أيضاً البكاء عندما استذكر واقعة كربلاء، لأنها تمثل أكثر المآسي في البعد الإنساني الذي يشعر فيه الإنسان بجراح الطفولة وجراح المظلومين والمضطهدين.
?& رددّت دائماً انك وُلدت شاعراً في مدينة شاعِرة هي النجف، وكتبتَ أولى قصائدك في العاشرة من عمرك, كيف تصف تجربتك الشعرية؟
ـ عندما كنت أنظم اشعر، كنت أشعر بأن الشعر يقتحمني ولا أقتحمه، ولذلك كانت تجربتي الشعرية تستقي كل مشاعرها من وجداني الروحي والنفسي والعاطفي المتفجر في داخل نفسي.
?& وهل كان "الاقتحام" الأول في العاشرة على شكل قصيدة دينية؟
ـ لا بل كان أبياتاً وجدانية تُمثل تطلعاتي إلى المستقبل أذكر منها:
فَمن كان في نظم القريظ مُفاخراً
ففخريَ طُّراً بالعُلى والفضائلِ
ولستُ بآباء الأباةِ مفاخراً
ولستُ بمن يَبكي لأجل المنازلِ
فإن أكُ في نيل المعالي مقصّراً
فلا رَجعَّت باسمي حُداة القوافلِ
سأنهج نَهجَ الصالحين وأرتدي
رداءَ العُلى السامي بشتى الوسائل
وأُجهد نفسي أن اعيش مُعززّاً
وليس طلاب العزّ سهل التناولِ
وأذكر اني كتبتُ في الثانية عشرة عام 1947 قصيدة في فلسطين مطلعها: "دافعوا عن حقّنا المغتصب في فلسطين بحدّ القُضُبِ واذكروا عهد صلاحِ حينما هبَّ فيها طارداً للأجنبي", كنت أعيش قضايا الأمة حتى في تلك السن، ولم أكن في غيبوبة عن واقعها، رغم انني كنت أعيش في وسط ديني محافظ.
?& ما رأي سماحتك في الشعر الحديث الذي يقول البعض عنه انه شعر النخبة وليس شعر الناس؟
ـ لا أعتبر أن الأوزان مقدسة، فهي تُمثل الحسّ الموسيقي الذي يعيشه الشاعر في تجربته، ولذلك فإن من الممكن جداً أن نبتدع أوزاناً جديدة كما حصل في الموشحات الأندلسية، وفي التجربة "البند" في العراق, انا انفتحت على الشعر الحديث منذ انطلق ولم أتعقّد منه، خصوصاً مع انطلاقة تجربة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والفيتوري، وغيرهم من اولئك الذين مثلوّا البدايات في الشعر الحرّ انتهاءً بنزار قباني وغيره, وكتبتُ أكثر من قصيدة على طريقة الشعر الحر منشورة في دواويني الشعرية, أما الحديث ان الشعر الحديث هو شعر النخبة فهو يختلف بين شاعر وشاعر، فشعراء الحداثة الذين استغرقوا في الرمز يُمثل شعرهم ربما شعر النخبة باعتبار انهم يختزنون الفكرة التي لا يتحملّها اللفظ وأقول ان المسافة بين المعنى اللغوي للفظ، وما يُضمره الشاعر، قد تحتاج إلى أكثر من ألف كيلومتر ليصل إليها الإنسان.
لكن ليس كل الشعر الحديث رمزياً، فهناك شعر نازك الملائكة والفيتوري ومحمود درويش ونزار قباني الذي استطاع ان يجعل الشعر كالماء والهواء بالنسبة إلى الإنسان العادي.
?& قلت مرة إن الفَن المسيء إلى الحياة ترفضه الحياة, هل من فنون يجب ان تكون محرَّمة لأنها "مُسيئة" في شكل أم بآخر؟
ـ أنا لا أعتبر ان كل الموسيقى محرمة، فهي كأي فن إنساني آخر يخضع للمعايير الأخلاقية: فالموسيقى التي تُثير الغرائز والشهوات وتجعل الإنسان في حال طوارئ جنسية، وتلك التي تدمّر الأعصاب لشدة عنفها تضر بالإنسان, أما الموسيقى التي تسمو بالنفس وتُعبر عن آفاق إنسانية وروحية، يدخل معها الإنسان في تجربة تسمو به إلى أجواء أكثر إنسانية، فهي ليست محرمة وإذا كانت الموسيقى الكلاسيكية تأخذ هذا المنحى فاني أُفتي بأنها محللَّة.
?& ماذا عن الرقص الكلاسيكي، كالباليه مثلاً؟
ـ انني لا أُحرم الرقص من حيث المبدأ، لكني أحرّم رقص المرأة العارية أمام الرجال والرقص المختلط، أما رقصها في داخل مجتمع النساء، بما لا يصل إلى حدّ الخلاعة والميوعة فمحلل، وكذلك رقص الرجال للرجال، ورقص المرأة لزوجها, ولذلك، فاني وفاقاً لاستاذي السيد ابو القاسم الخوئي، لا أرى الرقص بطبيعته محرّماً وانما يَحرم بما يترتب عليه من آثار أخلاقية سلبية.
?& سَبَق لسماحتكَ ان تحفظت عن مسألة تحريم بعض العلماء المسلمين للتماثيل المجسمّة، ما رأيك في عملية تدمير "طالبان" التماثيل البوذية في أفغانستان؟
ـ كان موقفي بالنسبة إلى ما فعلته "طالبان" سلبياً، ربما كانت تلك التماثيل تجتذب العبادة لتكون بمثابة الأصنام، لكنها تحولّت شيئاً تاريخياً ليس له أي تأثير واقعي عملي في افغانستان على الأقل, لكن ما قامت به "طالبان" أدى إلى نوع من الاثارة العالمية ضدّ الاسلام لا ضرورة لها، وحرّك الكثير من الأقلام الحاقدة على الإسلام, وقد ذَهَبَ عدد من العلماء الذين نحترمهم إلى افغانستان لاقناع "طالبان" بعدم القيام بذلك من دون جدوى, أما الرأي الفقهي ـ الاجتهادي فيغلبُ عليه التحريم في صنع التماثيل، باعتبارها قد تكون وسيلة من وسائل الصَنَمية كما كانت في التاريخ، أو تكون نوعاً من التشبهه بالخالق حين يشعر الإنسان بأنه قام بنوع من أنواع الخلق عندما يستغرق النحات في التماثيل التي يضعها، لكني لست سلبياً مطلقاً في هذا الجانب, ولا نجد تحريماً شرعياً في ابقاء هذه التماثيل اذا لم تكن مظهراً صنمياً أو وثنياً، ولذلك لم تصدر أي فتاوى من العلماء المسلمين بتدمير التماثيل الموجودة في العالم الاسلامي، سواء في مصر أو ايران أو غيرها.
?& هناك من يقول انه يُساء كثيراً إلى الإسلام أحياناً بحجة الدفاع عنه منذ قضية سلمان رشدي وصولاً حتى "اسلام طالبان"، ويذهب هؤلاء الى القول ان الفكر الإسلامي كان اكثر رحابة في الماضي، فما رأيك في الخطاب الإسلامي اليوم؟
ـ اني اعتقد ان الخطاب الإسلامي ليس واحداً، فهناك خطاب اسلامي عقلاني موضوعي منفتح على الرأي الآخر، بحيث انه قد يشجب بعض التجارب التي فيها إساءة إلى المفاهيم الإسلامية، لكنه لا يُشجّع الأساليب الحادّة الضاغطة في الشجب، لجهتين: أولاً لأن ذلك لا ينفع، وثانياً لأن ذلك يُقوي هذه الأعمال ويجعل القيمين عليها في موقع "شهداء الفكر"، مما يُساهم في نشر هذه التجارب الأدبية أكثر من تحجيمها، ولذلك فاننا نرى ان اضطهاد أي تجربة ثقافية يؤدي إلى انتشارها، بينما يُمثل السكوت عنها وسيلة من وسائل تحجيمها إلى المستوى الذي قد لا يقرأها معه أحد.
?& ألم تكن في تاريخ الأدب العربي الإسلامي تجارب جريئة جداً على طريقة ابو نوّاس مثلاً؟
ـ انني اعتقد ان هناك الكثير من التجارب الأدبية والثقافية حتى من علماء الدين، بحيث اننا قد نقرأ بعض الكتب التي تشتمل على قصص وأحاديث جنسية فاضحة اكثر من ما يملك أحد الأن ان يكتبه من دون أن يتعرض للملاحقة القضائية من بعض الدول.
?& اذاً ما الذي تغيّر حتى صارت الصدور تضيق بما هو أقل جرأة؟
ـ اعتقد ان هناك حالاً من الفوض في المناخ الإسلامي الذي لا يُطيق الرأي الآخر أو يخاف من الرأي الآخر, واتصوّر أن العلماء المسلمين والمثقفين المسلمين عندما يمتلكون قوة الفكر وحركية النشر وامتداده، فان بامكانهم أن يُسقطوا الفكر الآخر بالطريقة العملية أكثر مما يسقطونه بمثل هذه الوسائل الحادة.
?& دعوت سماحتك كثيراً إلى الحوار مُسّمياً اياه أسلوب الأنبياء ورسالتهم الالهية إلى الناس، كيف يحدث ان "ثقافة التطرفّ" هي التي تُعلي صوتها فوق كل الثقافات؟
ـ اعتقد ان المرحلة التي مرَّت بها المنطقة منذ الإستعمار وتأسيس إسرائيل في فلسطين جعلت العنف الحال النفسية التي تسيطر على كل الفئات حتى الدينية منها، لكن الإسلام يقول: الرفقُ أولاً والعنف حال طارئة كمثل العملية الجراحية التي تريد أن تنقذ الإنسان من الخطر.
?& كيف تُوّفق سماحة السيد بين كونك عالماً وفقيهاً دينياً، وفي الوقت عينه رجلاً مدنياً في شكل أو بآخر يستقبل الناس كل يوم، ويغوص في تفاصيل حياتهم ومشاكلهم؟
ـ انا لا أفهم دور الشخصية الدينية مُعلّباً، تنظر إلى الناس من فوق أو تُحفظ نفسها في دائرة ضيقة، لأنني أتصور ان الدين للإنسان وليس الإنسان للدين، والله أنزل الاديان لكي تخدم الإنسان في حياته، ولم يُرد للإنسان ان يكون خادماً للدين، بمعنى انه ليس حالة يُدسّها الإنسان من دون ان تتحرك في حياته, وعندما درست الدين رأيت في ضوء ذلك ان الخلق كلهم عيال الله، وأحبَّهم إلى الله، أنفعهم لعياله، والأقدر على إدخال الفرح إلى حياة الناس, ورأيت ان الدين للحياة وجاء لأجل اقامة العدل بين الناس، ولذلك فان مهمة العالم الديني ان يعيش مع الناس, نحن نروي في السيرة النبوية الشريفة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان مع المسلمين كأحدهم ويعيش معهم، وقد حدثنا القرآن (الكريم) عن شخصيته في قوله تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عاندتم,,,"، أي يعزّ عليه ويؤلمه كما يزعجكم ويؤلمكم, وعليه رأيت من رسالتي أن اعيش مع الناس وآلامهم واحزانهم، فأجلس مع الطفل والفتاة والزوجة والأم والشاب والشيخ، لأدرسهم وأدرس كيف يمكنني ان أحلّ مشاكلهم, وكثيراً ما أتحدث في المشاكل العاطفية والزوجية والإنسانية، وأتابع معهم الواقع الذي يعيشون فيه السياسي والاقتصادي، وأشعر اني في رسالتي لا بدّ من أن أنفتح على الحياة كلها وعلى الناس كلهم، على مَن يختلف منهم معي أو يتفق معي، وعليه فإني لا أعتبر أن رجال الدين يُمثلون طبقة تجلس في برج عاجي، فهم خدّام للناس في الموقع الرسالي من حياتهم، ولا أوافق على ان يكون رجل الدين فوق النقد، بل لا بدّ له من ان يتقبل النقد من الناس لأنه بشر يخطئ ويُصيب، وإذا كان للدين قداسة، إن رجل الدين الذي يحمي فكر الدين وثقافته وحركته ليس له هذه القداسة.
?& لكن تميل غالبية رجال الدين إلى تقديم نفسها على أنها تملك الحقيقة الكاملة والمعرفة الكاملة؟
ـ أعتقد أن كل إنسان يعتبر انه يملك كل الحقيقة هو جاهل حتى وان كان عالماً, فالجاهل على قسمين: جاهل بسيط وهو الذي يعرف انه جاهل، وجاهلٌ مُركبّ يعتقد انه عالم, فمسألة العلم ليست بالمعلومات التي يختزنها الانسان بل في الذهنية التي تحرك هذه المعلومات, وكل انسان يصل إلى فكرة معينة في الدين والحياة، لا بدّ من ان يمتلك الذهنية التي توحي اليه أنه يصل إلى تلك الفكرة في خلال تجربته الثقافية، وإذا كانت تجربته محدودة فان فكرته لا بد من ان تكون محدودة بالظروف الموضوعية التي اصدرتها أو تحوط بها, وفي ضوء هذا فانه قد يقول لنفسه أنا املك الحقيقة من وجهة نظري، لا الحقيقة المطلقة، لأن انساناً آخر يملك الحقيقة من وجهة نظره بطريقة مغايرة, ولذلك فان الإنسان كلما ازداد علماً، كان حوارياً أكثر ومنفتحا على الفكر الآخر أكثر, والناس الذين ينغلقون عن الفكر الآخر لا يملكون الثقة بفكرهم، لان الإنسان إذا ما مَلَك الثقة بفكره كانت له شجاعة مواجهة الفكر الآخر بالحوار.
?& استطراداً، هل تعتبر سماحتك ان رجال الدين في هذا العصر، يُحسنون تقديم هذا الدين إلى الناس وتقريبه من حركية المجتمع؟
ـ مشكلة الكثيرين من رجال الدين أن الدين تحول عندهم مهنة ولم يتحول في وجدانهم الرسالي رسالة، ولذلك فانهم يُحركون دينهم مع مستوى مصالحهم، ومن هنا برز دور وُعَّاظ السلاطين الذين يعيشون على هامش الحكام، فيُقدمون للحاكم فتوى بالسلم عندما يُريد ان يأخذ بالسلم وفتوى بالحرب عندما يريد ان يأخذ بالحرب, لكن هناك علماء رساليون يعيشون لرسالتهم ولا تأخذهم في الله لَومة لائم, ومشكلة علماء الدين كمشكلة كل الناس الذين يتحركون في القضايا العامة، فهناك منهم من يعيش روحية المهنة في عمله العام وهناك من يعيش روحية الرسالة، ولذلك فإن الكثيرين من رجال الدين ربما امتهنوا الدين ولم يعيشوه رسالة، وآخرون من كل الأديان استطاعوا أن "يقدموّه بطريقة حضارية".
?& كيف تنظر سماحة السيد إلى تدِّين شباب اليوم؟
ـ أتصوّر ان هناك صحوة دينية تعيش في وجدان الشباب، سواء كان ذلك من خلال فشل الدعوات اللادينية أو لأن الشاب لم يجد في كل بحار اللذة التي يخوضها ما يمكن ان يملأ نفسه، بل بالعكس وجد انه يصطدم بالجدار.
وتساهم الكثير من العوامل النفسية والاجتماعية في هذه الصحوة، لكن هؤلاء الشباب في حاجة إلى تركيز الدين من الناحية الثقافية، اضافة إلى العامل الشعوري الذي يتحرك فيه, هناك صحوة دينية في الدائرة الإسلامية كما في الدائرة المسيحية، والقيمون على شؤون الدين في حاجة الى التدقيق في طبيعة هذه الصحوة وكل الظروف الواقعية المحيطة بها.
?& لكن في مقابل هذه الصحوة، هناك فئة أخرى من الشباب لا ترى في الدين الا محرماته والضوابط، تساعدها في ذلك طاقة كبيرة على الرفض والثوره والتمرد، فكيف السبيل إلى أن يلتقيا؟.
ـ عندما ندرس النصوص الدينية، نجد انها تعطي الإنسان حرية ان يفكر فنحن نقرأ مثلاً: "وقُلْ الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين لا إكراه في الدين".
?& لكن معظم التعاليم الدينية تعتمد التلقين أسلوباً كأنها تقول اقبلوا فأنتم مؤمنون أو ارفضوا فأنتم كفرة؟
ـ اعتبر أن هناك مرحلتين للتعليم الديني: مرحلة الطفولة التي تحتاج إلى نوع من التلقين الذي لا بد من ان تكون معه بعض الإضاءات التي تفتح عقل الطفل على المفاهيم التي يتعلمها, ومرحلة الفكر في عمر الشباب التي يُعطى فيها هؤلاء الفكر الديني كما هو ويُفسح لهم المجال لأن يناقشوا ويحاوروا حتى يتعمق هذا الفكر في أنفسهم، وبذلك يكون الفكر الديني اكثر ثباتاً من ما لو اعتمدنا معهم أجواء التلقين الساذج.
?& من أكثر مآخذ الشباب على الدين انه لا يتلاءم في بعض المواقع مع الحداثة هذا اذا لم يتعارض معها؟
ـ لا بد لنا اولاً ان نحدّد مفهوم الحداثة، التي هي في عمقها اعتبار العقل اساساً للفكر والوعي، لكن الفكر يتنوّع ويختلف, والوعي قد يكون مُزوّراً أو أصيلاً وكذلك فان الحداثة ليست معصومة، كما انها لا تنظر إلى نفسها نظرة العصمة, الحداثة تُمثّل اتجاهاً في المنهج ولا تمثل ثباتاً في المفرادت، والإسلام يعتبر ان المنهج العقلي هو الذي يبدأ الإنسان فيه فيدرك وجود الله، والكثير من الحقائق الدينية, نحن في الثقافة الاسلامية نرى ان لا تقليد في الحقائق بل لا بد للإنسان من ان يصل إلى العقائد بفكره وعقله، وفي ضوء ذلك فاننا نستقبل كل جديد ينطلق من فكر معين، ولا عقدة لنا ان يكون غربياً أم شرقياً، ولا عقدة لنا من حيث طبيعة الحركية الثقافية من حضارة غربية أوغير ذلك, اننا نقول ان أي فكر لا بد من ان ينطلق من عناصر شخصية معينة في شخصية المفكر ومن الظروف مساعدة فيه، ولذلك نحن نواجه كل فكر بالحوار، سواء أكان فكر الحداثة أم فكر الماضي, ولا ندعو الى الجمود في الماضي، بل نقول انه تجربة اناس عاشوا في الاطار الثقافي الذي تحرّكوا فيه, ويمكن للذين جاءوا من بعدهم ان يُفكروا بطريقة اخرى وقد رفض القرآن مسألة تقديس الماضي لمجرد العلاقة العاطفية به فهاجَمَ الذين قالوا:إنّا وجَدنا آباءنا على أمةٍ وأنا على آثارهم مقتدون, اذاً نحن مع الحداثة كمنهج مع بعض التحفظات حول مفرداتها ولسنا مع الحداثة كمفردات فكرية بما تنتجه، بل ان ما تنتجه هو فكر وخط قد يكون صحيحاً أو لا يكون.
?& من أبرز ما تنتجه الحداثة انجازات علمية تطرح خيارات شائكة وتثير الكثير من الجدل، والإسلام اعتبر دائماً العلم قيمة فوق كل القيم فكيف تنظرون إلى ذلك؟
ـ ان مسألة العلم في الإسلام لا تحفظ فيها، فهو القيمة الإنسانية التي اذا ما عاش الإنسان أصالة الأسس التي يرتكز عليها بحيث تبتعد عن الخرافة والوهم، فان العلم يُمثل القيمة الإنسانية التي لا قيمة مثلها, ونحن نقرأ في القرآن الكريم "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وقل ربيّ زدني علماً" ونقرأ في تراث الإمام علي عليه السلام: "قيمة كل امرىء ما يُحسنه", ولذلك فاننا نقف مع كل نتائج العلم في الجانب التكنولوجي وفي اكتشاف أسرار الكون والحياة، لكننا نلاحظ ان المسألة ليست في العلم وما يُنتج عنه بل في مسألة استخدام العلم في حركة الإنسان في الحياة, نحن نقول انه العلم جاء في خدمة الإنسان فلا يجوز ان نحركه لتدمير الإنسان.
وسبق ان قلنا ان علينا الإفادة من الذرة كاكتشاف رائد يمكن ان يحقق للانسان اعلى درجات التقدم في حاجاته، لكن الذرة عندما تستخدم في الجانب العسكري، فان الإسلام وكل القيم الحضارية ترفضها, إذا الدين لا يناقش العلم كقيمة معرفية بل يناقش طريقة استخدامه، كما يُناقشها غير الدين.
?& اذاً أين يجب أن يقف العلم؟ اذا كان علينا ان نقبل بأي شيء في "مصلحة الإنسان" فمن الذي يُحدّد فعلاً معنى هذه الكلمة الفضفاضة ووفقاً لأي اخلاقيات؟
ـ المسألة هي ان ندرس للإنسان حاجاته العامة في الحياة، وكيف يتطوّر فيها بما يجعله يعيش في توازن اكبر وسعادة نسبية اكبر، وفي إخاء انساني اكثر, ان ندرس ايجابيات كل استخدام علمي وسلبياته ونحن نعرف ان الاضرار والمنافع قضية وجدانية متحركة في حياة الإنسان ونسبية أيضاً، فإذا كان السلب اكثر من الإيجاب فهناك التحريم، وإذا كان العكس فهناك التحليل, مثلاً عندما طُرحت مسألة الاستنساخ كحدث علمي مهم جداً أكدّنا انه لا يتحول خالقاً بل هو يستهدي قانون الخلق بطريقة أخرى، والخلق إنما هو في صنع القانون, لكننا قلنا ان عمليه الاستنساخ البشري لا بد من ان تدرس في نتائجها على حياة الإنسان، لمعرفة تأثيرها على المجتمع الإنساني، هل يُسيء إلى تقدم الإنسان، ولذلك لا نستطيع ان نعطي رأياً حاسماً فيها الا بعد دراستها ميدانيا من حيث انعكاسها على مصلحة الإنسان,
?& لكن بدأت قبل أسابيع تجربة جديدة في مجال الاستنساخ الجيني لأهداف علاجية، وأثارت جدلاً جديداً؟
ـ نحن لم نرجم هذه التجربة بالحجارة، لكننا قلنا انه عندما يُنتج هذا الحدث العلمي جنيناً ويُصبح حيّاً، فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئاً من أعضائه، حتى لنزرعها في آخر، لأنه عندما يبدأ تجربة الحياة، يكون كبقية الأحياء, لا يجوز لنا ان نأخذ عضو جنين أو طفل لنستخدمه في طريقة علاجية، لأن حق الجنين المستنسخ كحق الجنين الطبيعي.
?& ميزَّت سماحتك دائماً بين امتلاك حسّ المعاصرة والسقوط في افكار العصر التي قد تختلف عن الإسلام، كيف السبيل العملي الى ذلك، والخيط هنا قد يبدو رفيعاً وغير مرئي أحياناً؟
ـ أقصد بحسّ المعاصرة أن نتفهم المنهج الذي يُعالج فيه العصر قضاياه، والتطلعات التي يعيشها انسان العصر في حاجاته وطموحاته، والأساليب التي يأخذ بها, قلتُ دائماً، لا بد لنا من أن نفهم ذهنية العصر في كل قضاياه لنجعل من وعينا لهذه الذهنية، الوسيلة للتفاهم مع العصر، حتى اننا عندما نريد ان نناقشه في ما يصل إليه من نتائج في الجوانب الإنسانية او القانونية او الطبية الخ، لا بد من ان نناقشه بأسلوبه, لذلك علينا ان نفهم ذهنية العصر، لكن ليس في الضروري ان نوافق على كل ما يُنتجه، لأن هذا خاضع للأشخاص الذين ينتجونه وللظروف التي تنتجه، وقد نختلف مع الأشخاص والظروف وقد ننسجم.
?& من مظاهر العصر أيضاً قضية تغيير جنس الإنسان، وموضة عمليات التجميل، والاثنتان تثيران الجدل في أكثر من موقع، فما رأيكم؟
ـ وقفنا موقفاً ايجابياً من عمليات التجميل التي أساسها تشوه خُلقي طبيعي أو طارئ، وقلنا انه لا يُمثل ما يتحدث الفقهاء فيه كعنوان للتحريم، تغييراً لخلق الله، لأن تغيير خلق الله يراد به معنى يتصل بالفطرة الدينية وليس بالجانب الجسدي لهذا المجال, كما ان تغيير جنس الانسان، اذا كان واقعياً كما عند صاحب الجنس المزدوج، هو غير محرّم، أما إذا كان مجرد تغيير في الشكل من دون تغيير في الجهاز الإنساني، فهو غير جائز لانه لا يحقق نتيجة.
?& يقدم العصر مظاهر كثيرة شائكة أو مثيرة للمحاكمات الأخلاقية كالمساكنة والجنس قبل الزواج، كيف تنظر سماحتك إلى هاتين النقطتين؟
ـ في المذهب الشيعي زواج المتعة، وهو كالزواج الدائم إلا أنه محدد بوقت معين، لذلك فإن حلّ الزواج الموقت هو حلّ واقعي لمسألة الجنس في الظروف التي لا مجال فيها للزواج الدائم، طبعاً بشرط ان يكون الشاب والشابة بالغين راشدين, يبقى ان هناك تحفظات فقهية لناحية ضرورة استئذان الولي أو عدم استئذانه، لضرورة وجود شهود بالنسبة إلى الفقه السني بخلاف الفقه الشيعي.
?& قبل بضعة أعوام استحدثتم موقعاً لكم على شبكة الانترنت، ما علاقتكم الشخصية بهذه التجربة وماذا قدمت اليكم فعلاً؟
ـ أتصور ان الانترنت استطاع ان يجعلني متصلاً بالعالم الذي يحّب ان يعرف افكاري، واعتقد انه نجح نجاحاً كبيراً, فقد قدمت اليّ احصاءات من خلال الشركة التي تدير الموقع، ان هناك اكثر من مليوني زائر في الشهر، وانا اتلقى من خلال الانترنت الكثير من الاسئلة من كل انحاء العالم, وعندي جهاز بشري يُلخص لي الأسئلة ويُشرف على تقديم الدراسات والخطب والأحاديث الخاصة بنا.
?& هناك مخاوف كثيرة من هذه الوسيلة باعتبارها تتجاوز الحدود السياسية والدينية والثقافية؟
ـ أنا اعتقد ان لكل حدث عملي سلبياته والايجابيات، فلا يجوز لنا أن نسقط الايجابيات لمجرد وجود بعض السلبيات بل الأجدى ان نُحاول التقليل من تلك السلبيات، لأن لا أحد يملك في هذا العصر ان يُغلق على الإنسان نوافذ المعرفة أو نوافذ الانفلات.
?& هل تعتقد أنه ساهم حتى الآن في نشر صورة حقيقية عن الاسلام؟
ـ أظن أنه ساهم في نشر صوره حقيقية عن الاسلام، كما ساهم أيضاً في اعطاء المتخلفين في فهم الإسلام، مجالاً في نشر تخلفهّم على العالم.
?& هل تمنيت في لحظة ما ان تكون في موقع آخر وتقوم بعمل آخر؟
ـ لم أتمنّ ذلك، لأني مقتنع بما انا فيه، ولأني اعتقد انني احقق ذاتي من خلال رسالتي، ولأني وجدت في ما أنا فيه الكثير مما يفتح العيون الحزينة على الفرح، واستطعت أن أقدم للإنسان شيئاً من ما أفاضَهُ الله عليّ، ولذلك أنا لا اجد موقعاً من خلال طاقاتي أفضل من موقعي وخصوصاً انني احب الناس كلهم.
?& ولماذا يبدو غالباً أن حضارة المحبة غير قادرة على اعلاء صوتها وان صوت العنف هو الأقوى في كل العالم, وأين يقع الخلل؟
ـ هناك خلفيتان لهذا الخلل: الأولى سوء فهم النصوص الدينية أو سوء فهم الخطوط السياسية، فهناك الكثيرون ممن لا يقفون في حدّ الوسط أي الاعتدال، ولذلك يميلون بفعل حالات الطوارىء النفسية إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار, والخلفية الثانية أن التطرف هو ردّ فعل للواقع العنيف الذي يفرض نفسه على الناس ليُلغي وجدانهم ووجودهم السياسي أو أمنياً ليُهدّد أمنهم، أو اقتصادياً ليُصادر اقتصادهم وما إلى ذلك, ان هذا العنف السياسي والاقتصادي والأمني وحتى العنف الثقافي والاجتماعي يواجه في الانسان ردّ فعل عنيفاً، لأن العنف يستجلب العنف، ولو درسنا الكثير من حالات التطرّف وخصوصاً التطرف الإسلامي، إننا نجد انه ردّ فعل ولم يكن فعلاً,,, اضافة إلى بعض المواقف التي تنطلق من التخلف في فهم الاسلام,
?& لكن هل المحبة في ماهيتها اصعب عيشاً من العدائية والعنف؟
ـ المحبة أصيلة في الإنسان، لكنها تحتاج إلى مناخ تتحرك فيه، وينابيع في الإنسان الآخر تمدّها كلما جفّت,,.(الرأي العام الكويتية)