لأن الطبع يغلب التطبّع عند جورج بوش فإن العالم يعيش وضعاً زئبقياً.
كان يمكن رصد الوجهة التي تتمناها واشنطن للعلاقات الدولية قبل تفجيرات 11 أيلول. غير أن هول الحدث أوحى أن لا بد من إدخال تعديلات على هذا المنحى. لا بل ظهرت إشارات تعزز الاعتقاد بأن بوش الإبن في امتحانه الجدي الأول كرئيس هو غير بوش المرشح.
وُضعت النزعة الانعزالية جانباً لصالح التشاور مع الحلفاء وإشراكهم والاستفادة من تغطية تقدمها الأمم المتحدة. وبُذلت جهود لاستمالة روسيا والصين والهند وباكستان وغيرها من الدول، وهي جهود تتراوح بين وعد بشراكة حقيقية وانضمام إلى منظمة التجارة الدولية ورفع للعقوبات وجدولة للديون. وتعالت أصوات تقول إن إدانة الإرهاب لا تكفي وحدها إذ يتوجب علاج المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تشكل بيئة صالحة لكل أنواع التطرف. وبالإضافة إلى ذلك بدا أن أميركا تعيش تحولاً داخلياً مهماً لجهة الاستفادة من الهبة الوطنية من أجل عقد اجتماعي جديد يؤكد على دور الدولة ويكسر من حدة السمة المحافظة لغلاة الحزب الجمهوري.
ولم يغب عن الذهن أن لهذه التعديلات آثارها التي تتيح الرهان على قيام نظام من العلاقات الدولية تلعب فيه الولايات المتحدة دوراً أرجحياً لا دوراً مهيمناً ومتسلطاً. فأميركا التي فوجئت أنها <<مكروهة>> ستلتقط المناسبة من أجل أن تخاطب الآخرين مانحة لموقعها القيادي مضموناً يشتمل على عناصر إيجابية.
فأوروبا، مثلاً، شرعت تستعد للمشاركة في إدارة الأزمات وحلها بحيث تعدّل حكمة <<القارة القديمة>> جموح <<القارة الجديدة>>. وتهيأ للأمم المتحدة أن المعاهدات والمواثيق الدولية لن تعود، منظوراً إليها من واشنطن، بمثابة قيود شبه استعمارية (!). ولاح أن الولايات المتحدة ستكافئ روسيا والصين في صياغتها للهندسة الأمنية العالمية وفي منظوراتها الدفاعية المستقبلية. ولم يتردد البعض في التبشير بتوازن أميركي في التعاطي مع الصراع العربي الإسرائيلي. وقيل إن اندفاعة العولمة في صيغتها الليبرالية القصوى ستخف وأن الإطلالة على مشكلات الدول الأكثر فقراً ستتغيّر. ووجدنا من يحسم في أن الدولة (الأميركية) ستستعيد دورها النبيل بما يتجاوز التشدد الأمني القضائي إلى الرعاية الاجتماعية خاصة وأن أزمات من نوع 11 أيلول تصيب، أول ما تصيب، الفئات الأكثر هشاشة.
لقد أرسلت واشنطن إشارات في هذه الاتجاهات كلها. وحصل ذلك في وقت كانت تعتبر أن الصراع مع العدو الجديد سيكون صعباً، ومديداً، ومفتوحاً وصولاً إلى استئصال هذه الآفة من العالم كله بدءاً ب<<الإرهاب ذي المستوى الدولي>>.
ان في الإمكان، اليوم، رسم خط بياني واضح لصعود هذه الإشارات الإيجابية ولتراجعها، فبمجرد أن بدأ يتحقق، ميدانياً، الانتصار السهل ويتداعى البناء الكرتوني الطالباني، ويتقلص <<فسطاط>> أسامة بن لادن إلى ما دون تورا بورا، بمجرد ذلك بدأ التحلل من هذه <<القيود>> التي ثبت أنها غير ملزمة إطلاقاً. لم نكن، إذاً، أمام وعود وإنما أمام حملة علاقات عامة أدت غرضها وبات البحث وارداً في ما يمكن رميه منها أو الاحتفاظ به.
لا شك أن الانسحاب من معاهدة 1972 مع روسيا هو أكبر قرار استعراضي في هذا المجال. لكنه لا يكفي وحده لرسم اللوحة الجديدة. فلقد تم تعطيل الاجتماع الخاص بالأسلحة البيولوجية، وجرى الاستهتار بحجم المشاركة الأوروبية في أفغانستان، والعمل جار للانسحاب من تبعات الانتصار، ونال البريطانيون نصيبا من الإهمال. ولم يبد أن لواشنطن رأياً في وظيفة منظمة التجارة الدولية غير الذي قالته في الدوحة. ويشهد الأميركيون، هذه الأيام، انتكاسة إلى سياسة الانحياز الاجتماعي السافر للأغنياء وهي سياسة تقوم على تدخل فظ للدولة باسم الليبرالية الداعية إلى ترك السوق تفعل فعلها.
ويمكن القول، بلا خشية المبالغة، إن للعالم العربي حصة كبرى في غلبة الطبع الأميركي على التطبّع. فالانحياز إلى أرييل شارون يكاد يزعج شمعون بيريز. والتهديدات ضد العراق تكاد تضع الإصبع على الزناد. والتلميحات إلى سوريا تقابلها تصريحات في ما يخص الصومال والسودان. أما اليمن فبادر قبل أن يضطر. وليست السعودية ولا مصر في منأى عن حملات يلوح وراءها الضغط السياسي.
إن هناك الكثير الكثير مما يقال حول الأوضاع العربية. ولكن بعض ما يجب قوله هو في اتجاه معاكس تماماً لما تريده الولايات المتحدة.
فهذه الأخيرة تعيش لحظة نشوة الانتصار السهل. ويغريها ذلك باستئناف أكثر عدوانية لما كانت تعتزم الإقدام عليه عشية 11 أيلول. وليس غريباً، والحالة هذه، أن يصعد، ضمن الخارطة الفكرية الأميركية، نجم التيار الداعي إلى أن تتحمل الولايات المتحدة مسؤوليات <<امبريالية>> (الوصف لأصحاب الفكرة) تليق بموقعها في العالم. غير أن هذا حديث آخر.(السفير اللبنانية)