حينما وصل ارييل شارون الي سدة الحكم في آذار (مارس) 2001 رحب به المتفائلون، وتوسموا انه سيكون ديغول الاسرائيلي المحتمل. كان الجميع يعلم أنه قاتل مسلسل (أي قاتل ارتكب سلسلة من الجرائم المتعاقبة)، أو مجرم حرب ، ولكن وجد الكثير ممن زعموا أنه تغير، وأنه أضحي لين العريكة مع تقدمه في السن، وانه بات حريصاً علي التخلي عن صورة المقاتل الملطخ بالدماء ، وانه عازم علي ان يدخل كتب التاريخ كرجل دولة. وتمادي البعض في تفاؤله، فذهب الي ان شارون الذي وافق علي انسحاب اسرائيل النهائي من سيناء عام 1982، سيوافق الآن علي الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وسيسمح بقيام الدولة الفلسطينية. و حيث كان الفشل حليف اليسار الاسرائيلي، فلماذا لا يكون النجاح حليف اليمين الاسرائيلي !
وبعد، ألم يعقد مناحيم بيغن الذي يمثل التطرف القومي الاسرائيلي السلام مع مصر؟ وعلي هذا النحو، ساد الاعتقاد بأن شارون هو الشخص المؤهل لعقد السلام مع الفلسطينيين، بل ان بعض الزعماء العرب البارزين زعم بأنه يتوجب ان يُمنح شارون فرصة لإظهار حسن نياته .
وقد ثبت الآن، بما لا يقبل الشك، ان هذا التفكير الحالم الطوبائي ليس أكثر من هراء ولغو لا طائل منه!
الواقع المرير هو ان شارون لم يتغير، ولن يتغير، سيبقي قاتلاً لا يقيم وزناً لحياة الناس - كما تؤكد الاخبار الواردة من الأراضي الفلسطينية يومياً - بل ان شارون اكثر من هذا كله ايضاً مُنظّر يمني متعصب، يعارض بشدة قيام الدولة الفلسطينية، ثم انه مصمم، وبكل الوسائل الممكنة، المشروعة وغير المشروعة معاً، علي ابتلاع الضفة الغربية وقطاع غزة استكمالاً لمشروع اسرائيل الكبري. يخوض الفلسطينيون حرب استقلالهم بضراوة، ويدفعون الثمن غالياً، ولكن شارون، هو الآخر، يعتقد بأنه يخوض حرب استقلال من نوع آخر، حرباً لاستكمال المكاسب التي حصلت عليها اسرائيل عام 1948 ولمنع تقسيم اسرائيل الكبري الغربية أي أرض اسرائيل بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط . وقد دخل الصراع بين حربي الاستقلال المتنافستين مرحلة عنيفة للغاية.
علي ان شارون ليس أكثر المتطرفين القوميين اليهود غلواً، فهناك بعض المتعصبين الذين لا يكتفون بالمطالبة بـ إسرائيل الكبري الغربية وانما بـ بسرائيل الكبري الشرقية ، أي بالملكة الأردنية الهاشمية حالياً. وهم يعتقدون بأن وعد بلفور البريطاني عام 1917 وعد اليهود بضفتي نهر الأردن كوطن قومي لليهود . ومن هذا المنطق لم يكن من حق تشرشل ان يقيم شرقي الأردن علي الضفة الشرقية من النهر عام 1922.
ويتحلي شارون بواقعية تجعله لا يشارك هؤلاء الغلاة رأيهم، انه لا يطالب بالأردن لتكون امتداداً للوطن اليهودي، ولكنه راغب في ان يستبدل الأردن بدولة فلسطينية، وبهذا سيتمكن من الاحتفاظ بالضفة الغربية بكاملها، بعد ان يفرغها، قدر الإمكان، من سكانها العرب. لقد أطلق شارون عام 1974، وللمرة الأولي، شعار الأردن هي فلسطين . ولكي نفهم الموقف الحالي علي حقيقته، علينا ان نتذكر ان كل تحركات شارون لها هدف واحد: هو الاحتفاظ بما يطلق عليه اسم يهودا والسامرة اي الضفة الغربية وقطاع غزة ايضاً، تحت السيادة والسيطرة الاسرائيليتين!
تناقضات صارخة
منذ تسارعت موجة العمليات الانتحارية داخل اسرائيل، والضغوط الدولية علي الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في تصاعد مستمر من اجل القضاء علي الجماعات الاسلامية المتطرفة التي تعلن عن مسؤوليتها عن هذه العمليات الارهابية . لقد دأبت الولايات المتحدة واسرائيل والدول الأوروبية والامم المتحدة علي دعوة عرفات الي التحرك ضد الارهابيين ، واتخذت هذه الدعوات طابعاً ملحاً وصاخباً. وهذا ما يفعله عرفات بالضبط! وليس بالأقوال فقط وانما بالأفعال، وان لم يكن بالقوة التي يطالبه العالم بها.
ولكن ما هو هدف هذا التحرك؟ هل سيؤدي القضاء علي حماس و الجهاد الاسلامي الي بدء المفاوضات بين الطرفين؟ هل سيفضي الي تحقيق تسوية سياسية؟ أو الي قيام دولة فلسطينية؟ الحقيقة، انه لن يتحقق شيء من هذا كله ما دام شارون في الحكم!
هناك تناقضان صارخان في الموقف الحالي:
1- يقول الرئيس جورج بوش ان قيام الدولة الفلسطينية هو جزء من رؤيته للقضية الفلسطينية، ولكن الرئيس بوش يؤيد شارون، وهو أكبر عدو لقيام هذه الدولة!
2- يطالب شارون بتصفية الارهابيين ، ولكنه يرسل دباباته وطائراته لتدمير سلطة عرفات الفلسطينية، مما يجعل مهمته المنتظرة شبه مستحيلة.
ما معني هذه التناقضات الصارخة؟
من السهل تفسير التناقض الأول: ان الجناح اليميني المتطرف الحاكم في واشنطن يميل الي الاعتقاد بأن حرب شارون ضد الفلسطينيين هي جزء من حرب الولايات المتحدة الشاملة ضد الارهاب. وقد أتي النصر الساحق الذي حققته الولايات المتحدة في افغانستان ليزيل الحاجة الي أرضاء الرأي العام العربي، كما ان هذا النصر ضاعف من قوة صقور وزارة الدفاع الاميركية الذين يؤكدون، علي الدوام، بأن القوة العسكرية، وحدها، قادرة علي حل القضايا السياسية المستعصية، والاتجاه السائد في الولايات المتحدة حالياً هو السماح لشارون بأن يتعامل مع ارهاب الفلسطينيين بالطريقة ذاتها التي تعاملت الولايات المتحدة بها مع القاعدة و طالبان .
علي ان التناقض الثاني يبدو محيراً بعض الشيء! وان كان يُلقي بعض الضوء علي استراتيجية شارون، التي لم يُجر عليها اي تعديل طوال مسيرته. انها مشابهة، الي حد كبير، لاستراتيجية زعماء الجناح اليميني المتطرف الذين يدعون الي اسرائيل الكبري، من أمثال مناحيم بيغن واسحق شامير وبنيامين نتانياهو.
استراتيجية اسرائيل الكبري اليمينية
يمكن تفكيك هذه الاستراتيجية وتفريعها الي سياسات مفتاحية متنوعة علي النحو الآتي:
- كان شارون، علي الدوام، من أنصار استخدام القوة العسكرية السافرة في تعامله مع العرب. كانت حملاته الانتقامية الوحشية لا تميز بين الجنود الاعداء والمدنيين العزل، وكان الهدف من غزوه للبنان عام 1984 سحق منظمة التحرير الفلسطينية، وتحطيم العمود الفقري للوطنية الفلسطينية، وتسهيل امتصاص الضفة الغربية داخل اسرائيل الكبري، وكان يؤمن دوماً بأنه يمكن تصفية التطلع الفلسطيني نحو الاستقلال بالقوة العسكرية.
- كانت الطريقة المثالية التي يستخدمها شارون للقضاء علي شرعية المؤسسات السياسية الفلسطينية ولتصفية أي مظهر من مظاهر الوحدة الوطنية الفلسطينية، سواء أكانت السلطة الوطنية الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية هي الاتهام بـ الارهاب ، والزعم بأنها تستحق العقوبة الرادعة بسبب نشاطها الارهابي. وحينما غزا لبنان أعلن بخيلاء ان السيف الاسرائيلي اليوم مسلط علي الرقاب الارهابية . ان شارون، شأنه شأن كل من سبقه من ممثلي اليمين الاسرائيلي المتطرف، لا يتعب من تكرار ان عرفات هو المسؤول عن كل عمل ارهابي، ويتجاهل عن عمد التمييز بين السلطة الوطنية والمعارضة المتمثلة في حماس .
وفي السياق ذاته، كان بيغن يسمي منظمة التحرير الفلسطينية منظمة القتلة ، وكان نتانياهو يصفها بأنها خلاصة التنظيم الارهابي وكان الزعماء الاسرائيليون يطرحون علي الدوام السؤال التقليدي المفعم بسوء النية: كيف يمكن ان نتفاوض مع من يريد قتلنا؟ .
- يشكل الفلسطينيون الراغبون في التفاوض مع اسرائيل - مثل عرفات اليوم وأمس - أكبر تهديد لأهداف حزب ليكود الايديولوجية المتمحورة حول الاحتفاظ نهائياً بالضفة الغربية وقطاع غزة. ومن هنا إصرار شارون علي تصفية السلطة الوطنية الفلسطينية وعلي وصم عرفات بأنه بن لادن الفلسطيني ، وعلي إرغام الفلسطينيين علي التطرف عن طريق استفزازهم بكل الوسائل الممكنة. لقد كان شارون علي الدوام من أشد معارضي محادثات السلام مع الفلسطينيين، لأن مثل هذه المحادثات لا بد ان تفضي الي التخلي عن بعض الأرض، ثم ان شارون يريد ان يتأكد من انه لا يوجد في الجانب الفلسطيني من يمكن التفاوض معه. لقد ناضل شارون، طوال حياته، وبكل ما أوتي من قوة، لإبطال قرار مجلس الأمن الرقم 242، ومبدأ الأرض في مقابل السلام ، واتفاقات اوسلو لعام 1992، التي كانت تعبد الطريق امام قيام الدولة الفلسطينية، ولم يتوقف عن مناهضة اي محاولة لتقسيم أرض اسرائيل الغربية .
وبعدما ترك شارون الجيش عام 1973، جعل همه الأول إعادة تكوين حزب ليكود ورص صفوف عدد من الاحزاب والتنظيمات اليمينية، ومنذ دخل المعترك السياسي كان شغله الشاغل انشاء المستوطنات الجديدة. كان يصرح: ينبغي ان تكون هناك جنين العليا، ونابلس العليا، ورام الله العليا، تماماً كما ان هناك الناصرة العليا .
وحينما كان وزيراً للزراعة عام 1977، ورئيساً للجنة الوزارية الخاصة بالمستوطنات، كان يخطط لاسكان مليوني يهودي في الأراضي المحتلة، علي امتداد عشرين عاماً. وفي عام 1987، اشتري هو شخصياً شقة في حي اسلامي من القدس الشرقية، وفي عام 1990 حينما كان وزيراً للاسكان، ساعد علي استيعاب مئات الألوف من المهاجرين السوفيات. وكانت زيارته المشؤومة للحرم الشريف في ايلول 2000 الشــرارة التي فجـــرت الانتفاضــة.
هذا هو القاتل، ومغتصب الأراضي الذي يسانده الرئيس بوش، وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا ضد الرئيس عرفات. انهما، علي الأرجح لا يفهمان هذا الرجل، ولا يعرفانه حق المعرفة ولا من أين أتي الي الحكم. ولعلهما ما عادا يكترثان بالموضوع بعدما أعمي بصيرتهما النصر الساحق الذي احرزاه.
إن شارون - وهو مقامر بالفطرة - يميل الي الذهاب بعيداً في مخططاته، وهو يبالغ في أدائه دوماً، كما فعل في غزوه للبنان. لقد فقدت اسرائيل، تحت قيادته الرعناء الكثير مما حصلت عليه من احترام في العالم، وولد الذبح المستمر للفلسطينيين موجات عارمة من الاستنكار والغضب.
تبقي الأسئلة الجوهرية المطروحة: كم سيدوم الاجماع علي تأييد سياسته في اسرائيل، وبين صفوف الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة؟ وإذا ما انفرط هذا الاجماع، فكم سيبقي شارون في الحكم؟ (الحياة اللندنية)

ہ كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.