&
حراكَـة
&
لأنني بلا حكاية مقنعة، فإنني أبتكر أمامكم حكايتي الخاصة.
حكاية مقنعة.فأنا لا أعرف من أنا كما يرددون.ثم يضيفون أنك لست بمغترب، ولا هارب، ولا حاد الأسنان، ولا منفعة لمسح أكتاف، ولا منفي ، فلا أنت أبيض ولا أنت أسود، فمن تكون بعد أكثر من باب وأكثر من بحر؟
&لذا فكرت أخيراً بحكاية مفادها أنني كنت في قارب وسط بحر، هكذا من لاشيء ـ بلا بداية ولا وسط ولا أعرف حتى اللحظة لها نهاية ـ وصاحب القارب يسمونه المنقذ، وزبائنه كلنا يسموننا حراكة، أعني تسميتنا نحن الجالسين الآن وسط القارب في حكايتي التي أبتكر،وهي ما تزال تتداول بسعر قدح شاي في كل مكان. وعندما سألت عن معناها،الكلمة، حراكة بجيم أعجمية، لم يلتفت أحد، وقالوا البحر من أمامنا، لأن لا شيء آخر سواه. دائماً ما أذكرهم بألواح الحياة، إلا أنهم يسهمون طويلاً ويتركونني أثرثر.
أخيراً وبعد صبر طويل، كمم أحدهم فمي بعصابة ابتكرها من حجاب زوجته الحامل معنا، وقال وهو يقبل يدي: إرحمنا يرحمك من في البحر والأرض،أنت لأنك بلا حكاية،أما نحن فمليئون بالحكايات.
& صمت الآخرون وأشاروا علي أن لا حراك، لأننا سننطلق، ثم رموني أسفل ألواح متقاطعة تحيطني كقضبان سجن، بينما سلوتي الوحيدة هدير ماطور القارب وهو ينث سخامه وثرثرته المائية على وجهي. ثرثرته الشبيهة بثرثرتي معهم،غير أنهم أسكتوني بعصابة وحبل متين شد قدمي ويدي،بينما لا أحد يحفل بثرثرته، ذلك أنها قيدت رفساتي وبعض ما يطفر من حروف حكايتي التي يحاولون تفاديها.
& صحيح أنني كنت مقيداً ومقلوباً، ولا مجال للحديث معهم عن حكاية أبتكرها لي ( كي تكون لي وحدي) إلا أنني وجدتها مناسبة للشروع بها.
& ذلك أنني ما حلمت بمغامرة في قارب وهروب من أرض إلى أرض، وخشية شرطة وملاحقات وموج يرتفع فيغطي أجساد المحشورين بعضهم ببعض أما تمايلاً مع القارب أو تشبثاً بشعرة الحياة مع زلة قارب متكررة.غافون كلنا على أمل أن نداعب تراب أرض، بعد تركنا لأرض. وبين حين وآخر يد رقيقة تقلبني وتتأكد من أنني ما زلت حياً، فتعيد قذالة شعري إلى مكانها الطبيعي، فترجع القذالة مع اهتزاز القارب لتقترب مني اليد الرقيقة فتعيدها وتبتسم لي، ليس لأنني أراها تبتسم بل ما خمنته، طالما لا أرى غير لون القار والخشب الملاصق لوجهي مقلوباً ولا ثرثرة غير هدير الماطور.
& تركوني مرمياً هناك لسنوات، ربما مع رحلة متكررة للقارب، رحلة متعاكسة لا تنتهي ما أن تبدا، وتبتدئ منتهية. بينما اليد الرقيقة تزورني في الليل أيضاً وهو ما فكرت أننا لابد وأن نقترن في نهاية الحكاية ونضحك فأقرأ عليها ملح النفزاوي وطرق مداعباته، فتحمر مثل البندورة وتقلب وجهها مثل وجهي وتشعر بمشاركتي هدير الماطور. الماطور يخفت، فتتلاحقه صور صبية مقلوبي الرؤوس على لوح القار مثلنا، هي التي لا أراها وهم بمثابة ملائكة تحيطنا. أحدهم يغض الطرف عن إنقلابه ويسرد لي فصول كتاب يقول أنه وجده هناك بين أقدام ركاب القارب، الحراكة أنفسهم. يقرأ علينا حكايات مموهة بعنوان " انتحالات عائلة"، سطور مربكة تعقد ابتكار الحكاية التي لا أملك. أحدهم الذي تسميه صاحبة اليد الرقيقة "إبني" يذكرني بهم، إذ كان له أعمام بأجنحة من خشب، وأخوال يُضّيعهم الناس من كثرة ما نحتوا رؤوساً آدمية، وأخوة يحلمون ببياض رفيق ـ وليس بعشبة خلود ـ مثل تلك التي بحث عنها من يسمونه كلكامش، ويتهجى لي حروف الاسم من جهتيه.
& تشجعت قليلاً مع إبتسامة صاحبة اليد الرقيقة وصحت بالولد: تعال يا بني وأكمل حكاياتك. فقلب رأسه وحكى: ... يصيح على الابن؛ ابنه؛ إلا أنه يجهله، ولكن الأم في رسالة أنين تسأله عنه، لذا لابد أن يكون هذا الشاخص أمامه برأس مقلوب مثل رأسه هو ابنه، فيجران الأنة سوية ويسران بعضهما، ويعيد عليه ما جرى له في طيرانه الصحيح ذاك، إذ لم يكن مثل طيران العم بجناحين من خشب.ذلك أنه بحث عن منفذ من بين شتلات الآس و الدفلى قرب مضمار سباقات الخيل، ولما عثر عليه أخفى نفسه حتى النهار التالي. في النهار ؛يقول؛ أكثر أمنا من الليل هناك قرب مضمار السباق الذي منه تدخل إسطبلات لا حصر لها،حتى مزرعة جت و برسيم خاصة بالخيول، ومن طرف أخر تشينكو يسيج المكان كنت قد رأيت شارعاً طويلاً بلا طائرات، ولكنه يكفي لطائرات لا حصر لها.
& عرفت ذلك اليوم أن رئيس الوزراء سيطير بطائرة خاصة حتى مكان بعيد. لم يعلموني عن أسم البلد، ولما ألححت، نبهوني إلى أن ابتكار حكاية مقنعة ليس بالضرورة أن تكون موثقة بالأماكن والأشخاص.ففهمت ما أرادوا. في النهار أيضاً طار رئيس الوزراء برفقة خمسة رجال بملابس متشابهة وأنا خلفهم دون أن يعيقني أحد، فالنهار كما قلت أيسر للتمويه. صادف أن كان مقعدي قرب رئيس الوزراء ولكنني ظللت ساهماً، أقطع تنهداتي دون أن أتكلم بكلمة واحدة خشية أن ينتبهوا لوجودي، فيقوم أكبرهم ويصيح بأسمائهم واحداً بعد الآخر، وحين يكتشفوني سيكون مصيري أحمراً مثل وجوههم طالما أن الطائرة قد طارت حقاً، ولم أعد أرى أثراً لمضمار خيل ولا لشوارع الطائرات بلا طائرات.
& بينما أنا محصور النفس والجسد في مقعدي ورأسي مقلوب لا أرى سوى قار الأرض المبسوطة على ارتفاع مليون جسد مثل جسدي، سمعت من يجلس بجانبي يسألني بكل رزانة:
ـ ما هو الشيء الذي يحيطنا ولا نحيطه، مثقوب بلا ثقب، أسود ولو كان بلا لون؟
& عدّلت رأسي وقلت بلا تمييز: أسود.. هذا القار الذي تحتنا.. أسود.. إنه الثقب الأسود الذي فوقنا؟
ابتسم رئيس الوزراء وبلل القلم بلعابه وضغط على الورقة و ملأ مربعات عمودية بالثقب الأسود. ثم ربت على كتفي وأستمر يفك شفرة كتيب كلماته المتقاطعة، بينما أوراق متناثرة وملفات وعلكة وقطن تنظيف الأذان أو سدها و علبة مناديل و واقيات كوندون ونقاشات أسنان تبدو متداخلة بعضها ببعض في سامسونايت حقيبته. سهم مع كلماته وتركني ساهماً دون كلمة.
&& ثم يقول؛ أننا نزلنا ما أن رتب رئيس الوزراء أغراض حقيبته وأخفى كتيب الكلمات المتقاطعة في جيب بنطلونه. هرول الخمسة المتشابهون، وهرولت أيضاً بلا حقيبة، وتسللت من أقرب منفذ وجدته بشتلات آس و دفلى، طالما أن المطارات نسخة متكررة عن أخرى.
& ركضت من لوح تشينكو حتى آخر، ولم يبق من مشهد الطائرة، سوى صورة صاحب كتيب الكلمات المتقاطعة يسلم بيد على مستقبليه ويد أخرى تتأكد من كتيبه المخفي في الجيب.
& أتدثر ليلاً بشتلات الدفلى، وفي النهار أخرج بحثاً عن وجه أعرفه، أو لسان أسأله في أية وجهة أكون. ولكنهم جميعاً يشيرون علي بالصمت، بعضهم يقبل يدي ألا أسرد شيئاً، آخرون يرمونني بحجارة، بينما أكثرهم رقة يربطني بحبال متينة ويطرحني في أرض مهجورة. فأخرج في النهار التالي. تعلمت ألا أسأل حتى فقدت قدرة الكلام، وفقدت حكايتي حتى ظننت أنني بلا حكاية.
أنا بلا حكاية. بلا حكاية مقنعة أجلس في أقرب زاوية أو مقهى أو دكان أستمع للجميع ولا أجد لدى أحد استعداداً لسماع ثرثرتي. ثرثرتي تلك التي يقصها الآن من تناديه بـ"ابني"، ويضيف أنني جلست سنوات بلا همسة، أراقب وأراقب ولا أمل بأن أحكي لهم عن أعمام وأخوال وأم وأب واخوة يطيرون بنفخة ريح مثل ورق جاف.
&& وهي زاوية ومقهى، دكان و مكان لا يشبه آخر، لا يسمعون فيه ولا يرون ولا يتجرعون هواء. الكل في إنتظار،مكان بني على عجل لزوار في انتظار مغادرة غير معروفة. مكان أنظار شاردة، منشورة على حبل في انتظار هبّة ريح لا تشبه تلك التي جرفت ورق عائلتي الجاف... الألم في الرأس.
رأسي تؤلمني من كثرة ما ترى ألواحاً و أراض بلون القار، بينما يشدد رجل أشيب ليس بنزيل المكان وليس لعينيه بريق انتظار غير معروف، يسمونه المنقذ قائلاً بما يشبه اللغز: يحيطنا ولا نحيطه،مثقوب بلا ثقب،أسود بلا لون؟ ضحكت للمرة الأولى بعد سنوات نعاس وتثاؤب وصرخت: القار...الثقب...الأسود! وحاولت أن أكمل الحكاية. ولكنهم أسكتوني حتى دون أن يربت على كتفي واحد منهم، وانتظروا ما يفصح عنه مَنْ يسمونه المنقذ الذي أخذته ضحكة متقطعة، ثم أجابهم وهو يراقبني: إنه البحر يا أذكياء، وليس لكم غيره، أنتم "حراكة" ولا مهنة لكم غيرها... وأنا المنقذ... منقذكم... موعدنا منتصف الليلة. ثم ترك المحل ولكنه أشار لي قرب الباب: أنت يا صاحب الثقب الأسود، ستأتي معنا أيضاً.
& لا أعرف لليل من فائدة غير النوم، ولكنني خرجت على نداء المنقذ.
& كما لا أتذكر كيف ولماذا قيدوني ورموني قرب الماطور الهادر ما أن وضعت قدمي في القارب. لأنني لم أقترف ذنباً غير ابتكار حكاية مقنعة لي، لي وحدي، كي تصبح بحوزتي وأسردها على من يسألني عنها. ولكنهم يكررون كيف ستعرف نفسك بعد أكثر من باب وأكثر من بحر، فدعنا نتوكل على هذا الثقب الأسود، هذا البحر، وتكلم للبحر إن شئت. أتكلم وأتكلم وهدير القارب يجرف كلماتي،فأتحسس يداً رقيقة وأبناءً مقلوبي الرؤوس، يثرثرون مثلي و يقرأون عليّ حكايات عن طيران وبياض وأنين ولا أرى من حركات أيديهم غير ما ينبئني به البحر، أو هدير الماطور فهما شبيهان ببعضهما، هدير الماطور يذكرني ببحر لا أرى من موجه غير الرعب في وجوه المتراصين ببعضهم. شباب وأرامل وشيوخ و ملتحون وبلا شارب وحبلى برفقة زوجها الذي يكمم فمي،وجوه و وجوه، لا يتحسسونني ولا أتحسسهم بينما صاحبة اليد الرقيقة التي تزورني و جوقة أولاد مليئون بالحكايات، يعيدون قذالة الشعر إلى مكانها. الحركة ذاتها على مدى أعوام إنطراحي على خشب القارب برأس مقلوب ينث عليه البحر زبده بمساعدة ماطور يهدر.
& أستمع للهدير، وألاعب الكلمات، وأضحك في سري أنني وجدت حكاية مقنعة، حكاية مليئة بموج بحر،وجوه ساهمة، هرب برفقة رئيس وزراء، إختفاءات ليل وتقاسم حياة برفقة امرأة تعيد القذالة إلى محلها كل ساعة يرافقها أولاد تسميهم أمي في رسالتها تلك بأولادي، وتشدد على أن أخبرها كل شيء عنهم في رسالة لاحقة. سنوات صوم عن كلام وبوح ولحظات غرق ورحلة أرض إلى أرض، بينما الذي أتناساه هديراً صاخباً، ووجهاً مقطباً حملني معه على قاربه ويسمي نفسه المنقذ ونحن " الحراكة ". أنسى كل شيء وأتذكر تفاصيل حكايتي المقنعة، وأحلم باللحظة التي يفكون عن فمي رباط الصمت.
&& الكل متشابه، فهو شبيه بلحظتي، منطرح على وجهي أشم رذاذ ما يهبه الماطور، وما يعبق عن القار وخشب القارب، ولا تتحسسني غير تلك اليد، أجبر الآن على تصور أن الصوت الهادر لا يهدر، واليد الرقيقة تنسحب، وأقدام تغادر " إلى أين والبحر بلا موطئ؟"، تخفت الأصوات كلها، واشعر بانحناءة على جسدي. يفك أحدهم رباط فمي، وحبل تقييد يديً وقدميّ ويساعدني على النهوض.
أقابل بوجه المنقذ وهو يدفعني قائلاً: أمض.
& أراقب أين أنا، فأجدني محاطاً بالوجوه نفسها التي تركتها منشورة كأجنحة قبعة عريضة تراقب أفقاً لا يتحرك. محطة الترانزيت نفسها.محطة انتظار مغادرة غير معروفة. أتشبث بالمنقذ: أين وصلنا؟ ألم نغادر منذ هدير الماطور؟ ضحك ضحكته المتقطعة وانتشلت أشلاء حروف من بين أسنانه، يخبرني بأننا لم نبحر بعد، كانت تجربة لا غير " بروفة!... ألا تفهم يا صاحب الثقب الأسود...بروفة. لم يحن موعد الرحيل... عد غداً سنقوم بتجربة أخرى، إذ لا يمكننا أن نتحرك ما لم نلمح الإشارة. وقفت بوجهه: إشارة مَنْ؟
&& انحنى أكثر وحدق في عيني حتى لامس شعر أنفه جلدة خدي، وكرر ضاغطاً على الحروف: إشارة، إشارة، هل الإشارة تحتاج إلى ترجمة هي الأخرى. ولم يتحرك كأن شعر أنفه التصق بوجهي بدل القار وخشب القارب وهو يرتب حروف كلمته ويطلقها ضاجة لتتفرقع متناثرة في لولب طبلة الإذن:
إشارة...إشارة...ألا تفهم... إ...شـ...ا...ر...ة.
&
مهداة إلى حارقي قواربهم.