خالد الحروب

نكتشف في هذا الكتاب الذي يصدر في توقيت ذكي أن الفرق الحقيقية المشاركة في بطولات كأس العالم هي أربعة فقط: الرياضة، السياسة، الإعلام، و"البزنس". ونكتشف أن خلف ملاعب كرة القدم الثنائية التصميم والتي تستقبل في كل لقاء فريقين يدوخان من أجل تسديد الأهداف في المرميين على طرفي الملعب، هناك ملاعب أخرى "رباعية" التصميم تدوخ فيها فرق أربعة في محاولات جاهدة لتسديد أهداف سياسية، واقتصادية، وإعلامية، ورياضية في أربعة "مرميات" موزعة على الأضلاع الأربعة للملعب، وليس فقط مرميين، انه العالم السفلي البشع لكرة القدم الجميلة. لكن لنبدأ من اللحظة الكورية اليابانية الراهنة حيث البطولة الحالية. لأول مرة تقام بطولة كأس العالم لكرة القدم في آسيا حيث يقطن ثلث سكان العالم، بعيداً عن مركز الضوء العالمي في دول المركز الغربي، أوروبا أو الولايات المتحدة. ولأول مرة تنظم هذه البطولة بشكل مشترك بين بلدين، وليس على أرض بلد واحد كما جرت العادة. ولأول مرة تقام مباريات هذه البطولة بحسب التوقيت غير الغربي، أي من دون مراعاة توقيت غرينتش، وتوقيتات العواصم الغربية، بل بحسب التوقيت المحلي الياباني والكوري الذي معناه أن الكثير من المباريات ستكون في ساعات الصباح الباكر، الخامسة أو السادسة صباحاً، بتوقيت أوروبا.
* لأول مرة تحظى الكرة الآسيوية بمثل هذا الاهتمام الدولي رغم تواضع مستوى كرة القدم في كل القارة، وعلى رأس ذلك في اليابان وكوريا. لكن ما المغزى من كل "أوائل المرات" هذه، وأين يقع "الرياضي" في قرار إقامة البطولة في كوريا واليابان إزاء "السياسي" و"الاقتصادي" و"الإعلامي"، وأي هذه الجوانب قاد ويقود حقاً قرارات اتحاد الكرة الدولي، الفيفا، الذي يسيطر على تنظيم وإقامة أهم حدث كوني كل أربع سنوات؟ وهل تستحق بطولة كأس العالم لكرة القدم كل هذه الزوبعة التي نشهدها في طول وعرض الكرة الأرضية بشكل أقرب إلى الجنون والشعبوية، ويفوق الاهتمام بأي حدث عالمي أو كوني آخر، خاصة في عصر الإعلام المعولم واللحظي والعابر للحدود؟
ليس هناك جواب مباشر على كل ذلك، لكن الشيء الأكيد هو أن بطولة كأس العالم هي أكثر حدث معولم بات يستقطب اهتماماً من قبل كل شعوب الأرض، غنيها وفقيرها، وأن هذا الحدث الضخم، والذي ينعته الكتاب الذي بين أيدينا بـmetaevent أي "الحدث العملاق"، صار مربوطاً بتمويلات مالية هائلة مرافقة له سواء في حقل الاقتصاد والتسويق، أم الإعلام وحقوق البث التلفزيوني، أم إقامة المنشآت الرياضية المهولة، وهي تمويلات تتعدى في مجموعها مئات البلايين من الدولارات. معنى ذلك أن ميزانية كأس العالم وما يرافقه من نفقات و"صناعات" إعلامية وتسويقية، تفوق ميزانية العشرات من دول العالم مجموعة إلى بعضها البعض، وهذا يتيح للحالمين منا أن يتخيلوا حال العالم في ما لو ألغيت بطولتان متتاليتان فقط من كأس العالم ورصدت كل الميزانيات المرتبطة بها لردم الفجوة بين العالم فاحش الثراء والعالم مدقع الفقر، ومن ناحية "الهوس" الكروي الذي يصيب العالم ليس علينا سوى النظر في بعض الأرقام التي يتيحها الكتاب الذي بين أيدينا: ففي عام 2000 أجرى الفيفا مسحاً عالمياً حول ممارسة لعبة كرة القدم في العالم وجد من خلاله أنه في البلدان الـ204 الأعضاء في الاتحاد فإن عدد المنخرطين في لعبة كرة القدم بشكل نشط يتجاوز 242 مليون إنسان، مقابل 127 مليونا ينشطون في الرياضات الأخرى. أي أن إنساناً من كل 24 من سكان العالم ينشط في ميدان كرة القدم.
في هذا الكتاب الذي حرره وكتب بعض فصوله وأشرف على بقية الفصول أكاديميان خبيران في "سوسيولوجيا الرياضة"، هما البروفسور جون هورن من جامعة أدنبرة في اسكوتلندا، والبروفسور ولفرام مانزينريتر من معهد الدراسات الآسيوية في جامعة فيينا، نقرأ وجوهاً غير معروفة لمتابعي كأس العالم لكرة القدم، ولكثير ممن يجهلون ما يجري خلف الكواليس السياسية والاقتصادية بل والفكرية لهذا الحدث العالمي الكبير. نقرأ في هذا الكتاب أن ما يحرك الاثنين وعشرين لاعباً على المسطح الأخضر أمامنا ليس عضلاتهم فحسب، بل مثلث معقد أضلاعه هي: اتحاد كرة القدم الدولي، والإعلام، والاقتصاد التسويقي المرافق. ونرى أن عمليات الشد والجذب بين هذه الأضلاع وصراعات المصالح المتناقضة بين المؤسسات والدول المنخرطة في كل بطولة من بطولات كأس العالم تحدد الكثير من المعالم والاتجاهات التي يخرج قليلها إلى السطح، فإن كثيرها يظل تحته. والسؤال الدائم هنا هو: أي من أضلاع المثلث يقود كل العملية الرياضية العولمية التي نراها في كأس العالم، أهو الرياضة، أم الإعلام، أم المال؟ أم أن هناك ضلعا رابعا يسيطر على هذه الأضلاع جميعاً، وينتظمها في فلكه، ألا وهو السياسة؟
* الخلاف على تسمية البطولة
* لكن قبل الإجابة المباشرة على هذا السؤال لا بأس من التقدم نحوه شيئاً فشيئاً وتصفح المعضلات والمشكلات العديدة التي واجهت قيام هذه البطولة من لحظة أن نشأت فكرة إقامتها في البلدين. وبداية المشكلات والخلافات كانت في التسمية نفسها، والتي عكسها عنوان الكتاب: "اليابان وكوريا وكأس العالم لعام 2002"، الذي يذكر المؤلفان أنهما عكسا فيه ترتيب الأسماء الواردة في التسمية الرسمية لكأس العالم والتي هي: "كأس العالم لعام 2002 في كوريا واليابان". فقد نشأ خلاف شديد بين البلدين على ترتيب الأسماء في التسمية، وهل تكون كوريا أم اليابان. وفي حين كان الرأي الأولي هو اتباع الترتيب الأبجدي كما في الإنجليزية حيث تأتي اليابان في الأول (بكونها أسمها بالانجليزية Japan يسبق أسم كوريا Korea، إلا أن كوريا رفضت ذلك وطالبت باعتماد الترتيب الأبجدي كما هو في الفرنسية والأسبانية حيث تكتب كوريا في هذه اللغات بحرف الـC وليس الـK الذي يأتي قبل حرف الـJ إضافة إلى أن هذا الترتيب الذي يضع كوريا في المقدمة يتوائم أيضاً مع الترتيب الأبجدي في اللغات الكورية واليابانية نفسها. وقد خضع الاتحاد الدولي لكرة القدم لهذا الرأي رغم تمسك اليابان بالتسمية الإنجليزية. ومن الطريف أن كلا من البلدين اعتمد تسمية مختلفة وإلى أمد قريب جداً حين وافقت اليابان على اعتماد التسمية التي تريدها كوريا.
لم تكن اليابان ولا كوريا راغبة بهذه الشراكة الإجبارية مع البلد الآخر لتنظيم البطولة. وقد قام كل منهما بجهود جبارة من أجل حشد الأصوات والمؤيدين، بالطرق القانونية وغير القانونية أيضاً، بالإقناع والحملات الإعلامية وبالرشوة والضغط السياسي أيضاً، لكن النتيجة النهائية كانت الوصول إلى هذه التسوية التي لم ترض غرور الطرفين. وتعود فكرة إقامة بطولة كأس العالم في آسيا الى عهد الرئيس السابق لاتحاد الكرة الدولي جو هافيلانج الذي سيطر على الاتحاد منذ أواسط السبعينات وحتى أواسط التسعينات. وقد أراد هافيلانج إقحام الممولين الإعلاميين والاقتصاديين الآسيويين في تمويل ودعم كأس العالم، بالاضافة الى توسيع رقعة تغطية واهتمام كأس العالم الى آفاق جديدة. ومنذ أواسط الثمانينات فهمت اليابان، مباشرة أم غير مباشرة، وعبر التلميح والعلاقات وراء الستار، أن التوجه الذي يحمله هافيلانج بإقامة البطولة في آسيا يعني اختيار اليابان. لكن كوريا لم تتباطئ في القفز الى مقدمة التنافس وطالبت منذ البداية أن تكون هي المحطة الآسيوية الأولى لانتقال بطولة كأس العالم الى خارج الفضاء الأوروبي. وهكذا تطورت "معركة وملحمة" التنافس الياباني ـ الكوري المرير ومرت بكل التفاصيل، وحامت حول كل جزئيات البطولة: من التسمية، الى المال، الى توزيع المباريات، الى حفل الافتتاح، الى مبارة الاختتام، والى حقوق البث التلفزيوني. وكانت معركة استحضرت تاريخ الاحتلال الياباني لكوريا وقرار ضمها سنة 1911 والذي أستمر طيلة النصف الأول من القرن العشرين. كوريا أرادت أن تتحرر معنوياً من الارتباط باليابان، لكن مفارقات القدر أرادت لها أن تكون ملحقة بالعملاق الياباني، حتى في مجال الرياضة وان كان على صيغة شراكة متساوية المظهر.
والغريب أن كرة القدم في كل من البلدين ليست هي الرياضة الأولى، ولا تحظى بالشعبية الكاسحة التي تحظى بها في أوروبا أو دول أميركا اللاتينية، بما يشير الى أن "جوهر" القرار لم يكن رياضياً بالمعنى الكلي للكلمة. وتواضع اهتمام الكوريين واليابانيين بكرة القدم تشرحه الارقام هناك، اذ في نصف مليون لاعب منهم خمسة آلاف لاعبة و410 محترفين، وفي اليابان هناك 3.3 مليون لاعب منهم 20 ألف لاعبة و1120 محترفا، وهذا كله لا يرتقي بالبلدين الى مصاف "البلدان الكروية" الأولى، والأبلى منه وجود مشكلة أعاقت "النمو الكروي" وكشفت هشاشة الحديث حول "روحية المساواة الرياضية" وتمثلت في وجود سياسات عنصرية تجاه غير المواطنين في هذه البلدان، وخاصة في اليابان. فهناك لا تسمح السلطات للطلاب الذين "من غير أصل ياباني" بالانخراط في فرق كرة القدم المحلية. وكما يقول جون هورن في الكتاب فان نظام التمييز ضد غير اليابانيين بالكاد بدأ بالتفكك مع عام .1991 اضافة الى التمييز الاثني، يقول جون هورن، ان كرة القدم عموماً، والآسيوية خصوصاً، تتصف بأنها من أكثر الرياضات تمييزاً ضد المرأة، وهو امر لا يحتاج الى أرقام أو شواهد لاثباته.
* كيفية اختيار كوريا واليابان لاقامة البطولة
* يقول الكتاب ان المرحلة الأولى لاختيار بلد آسيوي لاقامة البطولة فيه يمكن ارجاعها الى منتصف السبعينات عندما برز مثلث التسويق الاعلامي المرتبط بالبطولة: الرياضة، والاعلام، والشركات، وهو الذي أدخله على الساحة جو هافيلانج رئيس اتحاد الكرة العالمي، وبسببه أشار عن نيته نقل البطولة الى آسيا لتحقيق عدة أهداف. وأحد الأهداف الكبرى كان بالطبع جذب مزيد من الممولين وتغطية النفقات المالية وتعظيم العوائد الربحية للفيفا. وهذا الهدف هو الذي قاد المرحلة الثانية التي برزت في أوائل الثمانينات وفي أعقاب التجربة المريرة والخاسرة مالياً لمدينة مونتريال التي استضافت الألعاب الأولمبية سنة 1976. ففي اعقابها توجه الفيفا بكل قوة نحو "الشراكة الاقتصادية" مع شركات الاعلام والتسويق الكبرى في العالم. وهنا ظهر على المسرح الاعلامي ـ الكروي العالمي ما يسمى بـ"الامبراطور الأسود"، وهو الألماني هورست داسلر، رئيس شركة الملابس والأحذية الرياضية الشهيرة أديداس، الألمانية ـ الفرنسية. وقامت هذه الشركة بوضع استراتيجيات تسويق للبث عبر نظام الحزم والحقوق وحصرية البث واستقطاب التمويلات من المعلنين. ومن ذلك التاريخ دخلت بطولة كأس العالم في مرحلة "البزنس الحقيقي". فقد أنشأ داسلر ذراعاً اعلانية خاصة ببطولة كأس العالم أسمها "ادارة خدمات الرياضة والترفيه العالمي ISL" ولأن اليابان تمتلك معظم أسهم هذه الشركة ISL، فقد كانت عين هافيلانج أن تقام البطولة في اليابان لما يعنيه ذلك من مضاعفة الأرباح ودفع اليابانيين للانخراط أكثر في الجانب الاقتصادي والتسويقي من البطولة. هذا في ضوء أن الرأسمال الياباني كان يتقدم بثبات وخطوات واسعة على ساحة الرياضة العالمية، ففي البرنامج الأولمبي لأعوام 1989 و1992 على سبيل المثال كانت الشركات اليابانية ريكو، وبلازا، وماتسوشيتا، جزءاً من مجموعة الاثنتي عشرة شركة الرسمية المشاركة فيه. وفي بطولة كأس العالم في فرنسا عام 1998 دفعت كل من الشركات اليابانية فيجي، وجي أف سي، وكانون 30 مليون دولار كحقوق شراكة في البطولة يؤهلها استخدام شعارات البطولة واستثمارها.
* بطولة كأس العالم والسياسة
* ما من شك أن الرياضة استخدمت وما زالت تستخدم كأداة سياسية بيد الأنظمة والحكومات لتحقيق أهداف آنية محددة، أهمها نقل الصورة عن "عظمة" الدولة أو النظام المعني. والمثال الأكبر في هذا المجال كان موقع الرياضة في "مشروع الدولة" في دول الكتلة الاشتراكية السابقة، بدءاً من الاتحاد السوفياتي ومروراً بكل البلدان التي كانت تدور في فلكه. وقد بلغت سيطرت الدولة على الفضاء الرياضي، وادارتها له، وحرصها على "انتاج" رياضيين على مستوى أولمبي ولهزيمة "الرأسمالية" في البطولات الرياضية العالمية مستوى بالغ الوحشية من ناحية برامج التدريب الاجباري وشبه العسكري على الموهبين رياضياً، حتى صغار السن منهم. ولا يختلف هذا الأمر في الدول الغربية في الوقت الحاضر، اذ ذات الوحشية نجدها لكن في اطار من التنافس المحموم والقاتل أحياناً، لكن يتم هنا تسيس الرياضة "عن بعد" ومن دون الانزلاق الى سذاجة وفجاجة النظم الشيوعية المعهودة. وقد ينظر الى الرياضة كأداة امبريالية خاصة عندما تفرض الأحداث والمناسبات الرياضية الكبرى نفسها على بقية العالم، مثل: الألعاب الأولمبية، أو بطولات كأس العالم، وحيث تؤثر على الرياضات المحلية وأحياناً تقضي عليها مقابل تشجيع التوجه نحو الرياضات القادمة من الخارج. لكن في نفس الوقت يمكن أن ينظر الى الرياضة القادمة من الخارج والتي لم تكن لها شعبية كبيرة قبل ذلك كنوع من التواصل الثقافي واعطاء صبغة محلية على رياضة عالمية لها استقبال كبير حيثما حلت، وأن ينطر لها أيضاً بكونها جسر ينقل بلدان الهامش الى الضوء ويعطيها أهمية خاصة اذا نجحت في الوصول الى مستويات عالية في تلك الرياضات. ومن الأمثلة المهمة على السمة الامبريالية للرياضة، وفي ذات الوقت سمة تحقيق عوائد اقتصادية وعوائد مكانة رياضية للبلد المعني، هناك انتشار لعبة الكريكيت التي في الهند وباكستان بسبب الاستعمار البريطاني في البلدين. فبالتأكيد لولا شغف البريطانيين بتلك اللعبة لما عرفتها شعوب شبه القارة الهندية واهتمت بها، ووصلت بها الى مستوى ينافس بلدها الاصلي. فاللقاءات بين باكستان وبريطانيا في لعبة الكريكيت هي من أهم الأحداث في حقل هذه اللعبة، وربما من المفارقات الحقيقية أن يبلغ مستوى باكستان في هذه اللعبة درجة تهزم فيها بريطانيا وتتجاوزها مراراً.
ولنا أن نتأمل في ما يقوله أهن من سوك، السوسيولوجي الكوري، في مساهمته حول "الاقتصاد السياسي لكأس العالم في كوريا الجنوبية" من أنه لا يمكن فهم المجتمع الكوري الحالي من دون فهم التأثير الكبير للألعاب الأولمبية التي أقيمت هناك، في سيول، عام 1988 على المجتمع برمته. والأمر ذاته ينطبق، وسينطبق، على تأثير كأس العالم الحالي على المجتمعين الكوري والياباني في السنوات المقبلة. لكن "مشروع" تنظيم البطولة في كوريا واليابان امتاز بتسيس مركب ومعقد ومن نوع خاص. فأولاً قاد التنافس بين الدولتين على استضافة البطولة، والذي دام سنوات طويلة، الذي انتهى الى تسوية "الاستضافة المشتركة"، الى اعادة كل العداء السياسي والثقافي الياباني ـ الكوري الى واجة اهتمامات البلدين بعد أن مضى أكثر من نصف قرن على انتهاء الاستعمار الياباني لكوريا، وبداية لنسيان تلك الحقبة السوداء من التاريخ المتبادل للبلدين. أرادت كوريا من جهة أن تتمثل جانب مقاومة الاستعمار الياباني من جديد وتهزم الامبراطورية ولو على ساحة الرياضة، وكذا أرادت الأجيال الكورية الجديدة التي لا تقل عداء لكل ما هو ياباني عن جيل الآباء والأمهات اللواتي لم ينسين سنوات الظلام المؤلمة التي رحل فيها عشرات الآلاف منهن الى المدن اليابانية لاجبارهن على ممارسة الدعارة والترفيه لجنود الامبراطور الياباني. وهكذا، وبعيداً عن الرطانة السياسية التي ملأت الجو بعد الوصول الى "تسوية الاستضافة المشتركة" من أن بطولة كأس العالم لعام 2002 سوف تعمل على دفن الماضي بين البلدين في خضم التعاون "الرياضي" بينهما لانجاح البطولة، فان ما حدث حقاً هو نبش الماضي بكل آلامه ورموزه ومعانيه، خاصة أن اليابان ما زالت ترفض تقديم الاعتذارات التي تطالب بها كوريا، أو التعويضات التي تطالب بها عشرات آلاف النساء المغتصبات. من ناحية ثانية، يبرز تسيس بطولة كأس العالم الراهنة من خلال الأجندة الخاصة بكل حكومة ودولة ازاء هذه البطولة. فلكل منهما برنامجها الخاص، المسيس، وراء استضافة البطولة. ففضلاً عن "الآمال" الاقتصادية العريضة التي تعلقها حكومات البلدين على البطولة لناحية تنشيط الاستثمار، وضخ دماء جديدة في شرايين قطاعات اقتصادية أصابها الروتين والكسل، وكذا خلق عشرات الألوف من فرص العمل فان هناك ما هو أبعد من ذلك. ففي كوريا تريد الحكومة أن تثبت داخلياً وخارجياً قدرتها على تقديم صورة أخاذة عن البلد من جهة التنظيم، والاستيعاب، والانفتاح على العالم، وخاصة العالم الغربي. وتريد تعزيز "الهوية القومية" التي ستبرز بجلاء في خضم المهرجان الكروي المعولم، بما يعني تثبيت أركان الدولة الكورية. وكما يقول من ـ سوك فان أحد الأهداف الرسمية من وراء البطولة تعزيز النظام الاجتماعي الذي تعمل الدولة لتكريسه، وذلك من خلال دمج الأفراد في مشروع توحيدي يشعر من خلاله الجميع بأنهم منسجمون مع دولتهم ومع المجتمع. أما في اليابان، فان الأهداف ذاتها تكاد تتكرر، حيث الرغبة في اظهار يابان القرن الحادي والعشرين وقد تخلصت من ماضيها الامبراطوري الاستعماري، ومنفتحة على العالم، بل ومتعاونة مع أحد البلدان التي كانت قد استعمرتها في الماضي القريب وتحمل عداوة شديدة ضدها. من ناحية اقتصادية تأمل بعض الجهات الكورية "المتفائلة" أن تخلق البطولة 350 ألف فرصة عمل، وأن تعود على البلاد بما يقارب تسعة بلايين دولار. وتأمل الحكومة اليابانية بتحقيق ما هو أكبر من هذه الأرقام أيضاً.
* كأس العالم وزيادة المشاعر القومية
* ثمة حديث كثير يرافق الرياضة عموماً وكأس العالم على وجه التحديد يدور حول دور الرياضة في التقريب بين الشعوب، وفي التواصل العالمي، وفي تحييد السياسة وغير ذلك. لكن الواقع، وكما يقول الكتاب، يشير الى عكس ذلك تماماً، اذ أن المشاعر القومية والاحتكاكات بين المشجعين، وزيادة التوتر والحمية ترتكس بالشعوب أثناء تشجيعها لفرقها الوطنية الى مرتبة دنيا لا يمكن أن تنسب الى التواصل أو التقارب. بل بالامكان القول ان أشد مشاعر القومية والشوفينية أحياناً تجد تعبيراتها في المدرجات الرياضية، التي ربما تكون المكان الوحيد الذي تقبل فيه تلك المشاعر بشكل "رسمي" ومعترف به. فالكل يعرف، على سبيل المثال، شوفينية مشجعي الفريق الانجليزي لكرة القدم وتعصبهم واستعدادهم لضرب وإيذاء، ان لم نقل، قتل مشجعي الفرق الأوروبية الأخرى، ناهيك عن الفرق غير الأوروبية.
* "البزنس" والإعلام
* الأرقام التي تحوم حول ما يرتبط بكأس العالم وبكرة القدم عموماً فلكية حقاً. ففي مساهمته في الكتاب يقول أوليفر بتلر ان "صناعة" التسويق، والاعلام، والتجارة، المرتبطة بكرة القدم بلغت في أواسط عقد التسعينات 225 بليون دولار في كل عام. وهذا رقم يعكس معنى أن تنقل مباريات كأس العالم على الهواء مباشرة ويشاهدها حوالي ربع سكان الأرض مباشرة، ويعكس الفرق بين هذا الوضع وبين كأس العالم عام 1934 التي أقيمت في ايطاليا وتمكن الناس من رؤية المباريات في صالات السينما وعلى أشرطة سينمائية بعد 48 ساعة من انتهاء كل مباراة. فمثلاً بيعت حقوق بث مباريات كأس العالم الحالي وكأس العالم القادم عام 2006 على التلفزيونات بحوالي 2،2 بليون دولار (وهذا لا يشمل حقوق البث في الولايات المتحدة)، هذا غير سعر التذاكر والمردود الاعلاني الفلكي. ويغطي المباريات التي سوف تقام على مدار شهر كامل جيش من الاعلاميين يبلغ تعداده 16000 اعلامي. في كأس العالم الذي أقيم في الولايات المتحدة سنة 1994 شاهد المباريات في الملاعب هناك 3،5 مليون انسان، بينما شاهدها على شاشات التلفزيون أكثر من 30 بليون انسان، بينما كان حجم الدعاية والاعلان الذي دفعته الشركات الكبرى حتى تحصل على حصة دعاية في الملاعب أكثر من 400 مليون دولار. أما كأس العالم في فرنسا عام 1998 فقد شاهده 37 بليون انسان على شاشات التلفزيون، وأستقطبت المباراة الختامية بين فرنسا والبرازيل 1،7 بليون انسان أي ما يقارب من ربع البشرية والتي وصفت بأنها أكبر تجربة مشتركة في التاريخ.
أما الميزانيات التي خصصها كل من البلدين لاقامة منشآت رياضية ملائمة فهي ضخمة أيضاً، فاليابان رصد 2،9 بليون دولار لذلك الهدف، فيما رصدت كوريا الجنوبية 1،5 لذات الغرض. لكن السؤال الكبير الذي يطرحه النقاد في كلا البلدين هو عن جدوى الاستثمارات الكبيرة في انشاءات لن يتم استخدامها سوى مرة واحدة، برغم كل الحديث عن تحويل هذه المنشآت الى مراكز رياضية واجتماعية تخدم المجتمعات المحلية بعد انتهاء كأس العالم.
* الخلاصة
* لا يبدو أن المثلث الذي رسمه محرر هذا الكتاب: الرياضة، الاعلام، "البزنس" كاف وحده لشرح آليات وتعقيدات كأس العالم لكرة القدم. بل ربما احتاج لاضافة ضلع ثالث هو السياسة وتحويل المثلث الى مربع تتصارع أضلاعه حول الطول والنفوذ. ولا يحتاج المرء لأن يذهب أبعد من قراءة الشواهد والأدلة على ذلك مما يرد في الكتاب نفسه. فلا توزيع الفرق في كأس العالم بحسب الجغرافيا والقارات، ولا اختيار البلدان التي تستضيف البطولة ينسجم مع العدالة أو المساواة التامة بين الدول الاعضاء في الاتحاد الدولي لكرة القدم. وما يقوله جون سدجن وألان توملينسن في مساهمتهما بأن اختيار "مكان" كأس العالم من قبل الأفراد الأربعة والعشرين الذي هم أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا هو عملية معقدة، لكنها أبعد ما تكون عن المنطق والموضوعية والحياد، بل تتصارع فيها كل الحسابات السياسية والجيو ـ استراتيجية والاقتصادية والمحسوبيات. (عن "الشرق الاوسط" اللندنية)
&