الدكتور رياض الأمير


&
محاولات العراقيين الكثيرة في نقل صورة مأساتهم ومأساة بلدهم تحت حكم النظام الحالي إلى العالم، وخاصة العربي منه يلاقي الصدود بحجة من الحجج. وهذا ليس فقط لان النظام
أشترى أقلام العديد من الكتاب وضمائر أصحاب القرار في اكثر من مكان وأغرى الدول والتجار ولكن لوجود عملاء له يضعون السم في العسل في تقديم صورة غير واقعية عن العراق كما هو الحال في زيارات المغتربين والدعاية للنظام بأنه مستعد للانفتاح والتغير الديمقراطي وغيرها. وفي الجانب الآخر بدأ الغرب يقرأ ما ينقله الأحرار عن معاناة العراقيين وواقعهم الحالي في ظل السلطة البعثية الجائرة في بغداد. فالذين يعيشون في ظل الحرية يفهمون معنى القهر والعبودية المسلطة على رقاب الناس. فقبل عدة أيام قامت إيلاف، أول صحيفة رقمية عربية مشكورة باستفتاء بمناسبة مرور 1240 عاما على تأسيس مدينة بغداد، ساهم فيه عدد من الكتاب العراقيين. ومن اجل أن تكون الصورة اكثر وضوحا عن بغداد في عيدها الحالي،أنقل عبرها مختصرا لمقال نشرته مجلة "Profil" النمساوية وكتبته الصحفية "Liselotte Palme" تحت عنوان بابل عام 2002، وقد أهدت الصحفية السيدة بالمه عدة صورة نشرت مع مقالها إلى العراقيين في قارات العالم ليطلعوا على بغداد التي فارقوها بغض النظر متى، لأنها تنزف دما كل يوم وناسها ينحرون بسكاكين السلطة والجوع. ونشر المقال في عدد المجلة 47 ليوم الثامن عشر من شهر كانون الثاني الحالي على ست صفحات. وكانت الصحفية ليزالوته بالمه تأمل في أنها ستزور بغداد ألف ليلة وليلة في عامها الذي بلغته وهو اكثر من اثني عشرة قرنا كعاصمة للشرق. وهي التي تعرف القاهرة كعاصمة للثقافة في العالم العربي وبغداد عاصمته في مجال الفنون التطبيقية في ستينات القرن الماضي. ولسوء الحظ تبقى القاهرة ويسقط عن بغداد تاجها في هذا المجال وفي غيره للتحول إلى..!!، وهذه كلماتها عند زيارتها لبغداد في شهر كانون أول الماضي :" أن مدينة بغداد وضواحيها وما يمكن تسميته ببغداد الكبرى، يسكنها حوالي خمسة ملايين شخص يعيشون تحت مستوى الفقر. يمكن مقارنة حالتهم بحالة سكان كينشاسا في الكونغو، وليس هم مواطني دولة تعتبر ثاني اكبر الدول في أحتياطيها النفطي. أن سلطات النظام تحاول أن تبعد الأجانب الوصول مثلا إلى "مدينة صدام " لأنها اكثر بؤسا من أن توصف.
وعندما يدخلها المرء يرى انه دخل عالم النفايات ورائحة المجاري فيها تزكم الأنوف. يلعب في أزقتها أطفال ذوي وجوه شاحبة مريضة. يعيش الناس هناك تعيش مع الحيوانات
في قذارة لا يمكن وصفها ". هذه حال بغداد في عيدها كما وصفتها الصحفية التي وصلت إليها مع مجموعة من أطباء الأسنان الذين سافروا من اجل المشاركة في مؤتمر نظمه النظام العراقي وساهم به عدد من المتعاونين معه من العراقيين والعرب والنمساويين. وكانت دعوتها لكي تقدم صورة عن الاستفتاء المسرحية. وفي يوم وصولها كانت نتيجة الاستفتاء قد ظهرت وحصل بموجبه رئيس النظام العراقي على نسبة مائة بالمائة. مما كان له وقع غريب التصور عليها. وبعد صور قرار العفو عن السجناء، حاول النظام تسويقه على أساس انه انفتاح، وانه أطلق سراح السجناء السياسيين. أخذتها أجهزة وزارة الثقافة إلى سجن أبي غريب لترى مسرحية إطلاق سراح المحتجزين. وهمس عراقي في سمعها :" سنري العالم سجوننا" وأضاف :" أن صدام حسين أطلق سراح السجناء بقضايا السرقة والأعمال الإجرامية ". ووصفت الصحفية النمساوية سجن أبو غريب بأنه كبير يشبه " الكولاك" (السجون التي كانت منتشرة في الاتحاد السوفيتي السابق وكتب عنها الكاتب الروسي سولجينيتسين في العديد من كتبه، الكاتب). وكتبت :" ومنذ الصباح الباكر بعد صدور القرار كانت جموع أهالي السجناء تتجمع لتعرف مصير أبنائهم وأقاربهم المرتهنين في السجن الكبير ذلك. وان إطلاق سراح السجناء، في ظل النظام الدكتاتوري الذي يقوده صدام حسين، هو بالنسبة لهم الحرية بالمقارنة مع ظروف زنزانات سجن أبي غريب". وتسأل الصحفية أحد الدبلوماسيين العاملين في بغداد عن الدافع لذلك، فأجابها بأنها جاءت لتخفيف العبء عن النظام خلال المعركة "النهائية" مع الأمريكان، وانه يحتاج إلى قوات للدفاع عن نفسه وعن مدينة تكريت، وليس في حراسة السجون. وان إطلاق سراح السجناء جاء من اجل أمان نظامه ليس إلا. واستمرت الصحفية تقول :" أن العراقيين وخلال فترة حكم صدام حسين يعيشون في ظروف اقتصادية سيئة جدا. وقال لي أحد العراقيين أن حياتنا في حدود البقاء على الحياة ليس غير. وسأل، كيف ستكون الحياة بعد إطلاق سراح القتلة والسراق من السجن؟
إن ذلك من اجل جعل حياتنا اصعب من الحرب المنتظرة. بغداد في شهر كانون أول الماضي كانت مدينة تعيسة لم تستفيد من الإمكانيات الهائلة التي كان من الممكن أن تقدمها لها
ثروة البلاد النفطية وإمكانات سكانها وأعدادهم الوفيرة من العلماء والمهندسين". وتضيف الصحفية :" هناك نوعين من السيارات التي تتزاحم السير في شوارع بغداد اليوم لرخص البنزين، الأغلبية يمكن مقارنتها مع سيارات دول العالم الثالث الفقيرة وهي خردة لا تصلح إلا كمخلفات حديد، ولكن بمجازفة خاصة من المهنيين أصبحت قادرة على السير. أما النوع الثاني، سيارات فارهة من ماركات حديثة جدا من نوع مر سيدس، ب آم دبليو تعود إلى طبقة جديدة استفادت من الحصار وتجمع أموالها تحت إشراف ومشاركة عائلة صدام حسين الحاكمة. وبعد أن اصبح واضحا لدي النظام العراقي خطط الرئيس جورج بوش الابن الجدية من اجل إسقاطه، قام صدام حسين بتوزيع المكافئات على القوات الخاصة المسئولة عن حمايته. وان صورة شوارع بغداد تعكس واقع المجتمع العراقي الحقيقي تحت ظل النظام الحالي. أن مستوى أساتذة الجامعات والمهندسين العراقيين وكذلك موظفي الدولة انحدر إلى مستوى دول العالم الثالث الفقيرة جدا". ونقلت الصحفية همس أحد الأساتذة الجامعيين بان راتبه لا يصل إلى حدود عشرة دولارات في الشهر، ولهذا لم يستطع إعالة أهله. وتصف حالته بأنه قام ببيع بيته وعلق شهادته في سيارة مرسيدس قديمة استطاع شرائها بالثمن الذي باع به بيته واخذ يعمل كسائق سيارة أجرة. وتقول :" أن الطبقة الوسطى العراقية قد انتهت وتحولت إلى طبقة معدمة فان الأغلبية تقوم بأعمال إضافية لتغطي حاجياتهم الأسرية، والكثير منهم يعمل سواق سيارات أجرة كالمثال السابق. بدلت مائتي دولار بالعملة العراقية التي كان وزنها من الورق البالي حوالي 1،5كيلوغرام وضعت في كيس من الدائن(بلاستك) اسود اللون كالذي يستخدم في الأسواق. أن نسبة التضخم سحقت العملة العراقية كما وأنها قضت على أحلام الجيل الجديد من المجتمع العراقي. طلبة الجامعة كانوا اكثر جرأة في نقل احتجاجاتهم على الوضع المزري الذي يعيشه الشعب العراقي. انهم لا يستطيعون دراسة ما يحلو لهم، وإنما هناك لجنة تحدد نوع الدراسة التي في اغلب الأحيان لا تتفق ورغباتهم وان الطالب بدون واسطة لا يستطيع الالتحاق بالقسم الذي يرغب الدراسة فيه ". وحدثها أحد الأساتذة بان هذا النظام الذي يعادي البحث العلمي يستغل طلاب الجامعة لأغراضه السياسية في دفعهم للتظاهر تأيدا لرئيس النظام، ومن ثم يكافئهم على ذلك بوجبة غذاء. وفي الوقت الذي كانت فيه جامعة بغداد، كما قال لها الأستاذ الجامعي، معترفا بمستواها العلمي والبحثي، قبل وصول الزمرة الحالية إلى السلطة، أصبحت معزولة ومتخلفة عن الركب العالمي ( ولم تذكر الصحفية اسم محدثها خوفا على حياته وحياة أسرته). وكتبت الصحفية :" أن الجميع يسب النظام. فقالت لي طبيبة عراقية أننا نخجل من دعوة أقاربنا لأننا لا نملك المال لذلك وكذلك من شراء هدية عندما يدعونا أحدهم لزيارتهم. أن بغداد أصبحت مزرعة بائسة لصور صدام حسين، أنها مزروعة في كل شارع وزقاق وركن فيها،حتى المحلات الصغيرة مجبرة أن تعلق واحدة منها. وفي الوقت الذي يجوع فيه العراقيين وتتخم الطبقة الحاكمة يرفع النظام شعارا :" لا تأكل كثيرا فكر في لياقة القائد ". ويعرض التلفزيون العراقي رجلا غير ممتلئ على انه صدام وهو بديل له. وبما أني دخلت تحت خيمة أطباء الأسنان حضرت مؤتمرهم الذي ألقى فيه واحد من مساعدي صدام في بدلة عسكرية وكان يرافقه عدة وزراء في بدلات مشابه خطابا،كان في صوته وتعبيره يذكرني بخطب قادة الوطنية الاشتراكية (الحزب الفاشستي الألماني)". وأسهبت الصحفية بالمه في وصفها لمدينة "الثورة " التي أصبحت تسمى "مدينة صدام " فقالت عنها أنها عبارة عن علبة بارود. أن عدد سكان المدينة يصل إلى مليونين من الناس اغلبهم من الشيعة وهم معارضون للنظام. ويخاف النظام منهم بشكل خاص لأنه يعتقد عندما تبدأ العمليات الحربية الأمريكية لإسقاطه فان سكان المدينة سوف يقومون بالمساعدة في احتلال مرافق مدينة بغداد. وأضافت :" التحدث مع أحد سكنة المدينة صعب جدا لان الناس لا تثق بأحد ولكنهم عندما يطمئنون يعرف منهم إلى أي درجة يمقت الناس النظام وصدام حسين. وكذلك هم يكرهون أمريكا لأنها خذلتهم في عام 1991 بعد حرب الخليج الثانية (أثناء الانتفاضة الشعبانية المباركة، الكاتب)، عندما طلب بوش الأب من العراقيين الثورة على نظام صدام حسين، ولكنه لم يقدم لهم الدعم. وبنتيجته استطاع صدام حسين القضاء على الثورة في الجنوب وفي الشمال ونفذ أبشع الجرائم بالعراقيين. أن أحد تجار المدينة كان يبسق كلما كان يرد اسم صدام ". وتحدثت الصحفية بالمه عن الأجواء السياسية في العراق بشكل عاما قائلة :" أن المعارضة في داخل العراق مفقودة لشدة القمع والنظام البوليسي المحكم. أن التغير من الداخل في الاعتماد على معارضة الداخل شئ غير قابل للتصديق، وكذلك المعارضة الخارجية في صورتها الحالية غير فاعلة دون دعم جدي".
هذا جزء ما ذكرته الصحفية النمساوية في مقالها ولم أود التطرق لمشاهداتها في مناطق أخرى من العراق، ومنها مدينة كربلاء المقدسة التي اعتبرتها الصحفية قلعة للمعارضة ضد النظام ووصفت انتقاد سيدة عراقية في صحن الأمام الحسين بن علي عليهما السلام عندما اعتقد السيدة العراقية بان الصحفية أرادت تصوير لوحة مرسوم عليها صدام حسين، وقالت لها ألا تخجلين من تصوير هذا الوغد ؟ كما يكشف المقال تفشي الرشوة حتى لدي القطعات العسكرية التي تحرس أماكن مهمة.
برزت أسئلة بعد قراءة مقال الصحفية النمساوية ولربما ستكون مثلها لدي القارئ، والعراقي بالتحديد. منها، هل صورة بغداد الحقيقية هذه ستزيل الغشاوة التي تغطي عيون البعض من الذين يعتقدون بأن النظام الحالي له إمكانية الانفتاح على التغير الديمقراطي؟ ويأتي الجواب : أن من يرفع شعار كمثل هذا أما أن يكون بسيط لا يفقه نوع النظام وقيادته ورئيسه، أو انه يستميت لبقائه لغرض في نفسه. والثاني هل سيدفع أبناء الشتات العراقي لتوحيد جهودهم في اختيار ما يساعد على تحرير وطنهم من الطغمة الفاشستية بأسرع وقت، وان لا يرفضوا من يقدم لهم المساعدة من اجل ذلك ؟ والجواب: أن مؤتمر المعارضة الموسع القادم هو خطوة مهمة في هذا الاتجاه والثالث هل سيقف الرئيس بوش إلى جانب تطلعات العراقيين هذه المرة عكس ما فعلته إدارة والده السابقة خلال الانتفاضة القادمة التي تريد اقتلاع جذور النظام البعثي الصدامي إلى الأبد ؟ والجواب: إن الإدارة الأمريكية الحالية، وحسبما تظهر التصريحات والأفعال بأنها ستكون القوة المساعدة في تحقيق حلم الشعب العراقي في الانعتاق من شرور الحكم الصدامي.