&
حسن مكي
ليس ثمة شك بأن بريطانيا من اقوى دول العالم، وأنها تستمد قوتها من ذاكرتها التاريخية التي جعلتها يوما الامبراطورية التي لا تغرب فيها الشمس، ومن تراكمات الثروات التي جلبتها من وراء البحار. كما انها اكملت بناء قدراتها وبنياتها التحتية منذ القرن الماضي - ولكن بقدرة قوة بريطانيا تبرز كذلك قوة مشاكلها وعقدها واشكالاتها.
ومن مشاكل بريطانيا ان تفتقر اليوم للنقاء العرقي الذي مكنها من فرض سيادتها وثقافتها في العالم، واصبحت بريطانيا فواتح القرن الحادي والعشرين، مجتمعا متعدد الاعراق والثقافات وليس ببعيد اليوم الذي تنفصل فيه ايرلندا وتبتعد اسكتلندا ويصبح الانجليز أقلية في بلادهم بفعل الهجرة وبفعل تكاثر العناصر غير الانجلو. ساكسونية.
ولكن على اية حال، هذه قضية متروكة للزمن، لان امر الحركة السكانية والتغييرات الديمغرافية، تأخذ بأركان من المعمورة ابتداء بامريكا وانتهاء بالسودان، ومن سمات بريطانيا الجديدة انها دولة بلا رسالة، فما عادت المسيحية والكنيسة الانجيلكانية تطغى في الأجندة البريطانية بل إن المسالة الدينية تدحرجت كثيراً في الاجندة البريطانية مفسحة المجال للتبشير بما يسمى، ما بعد العلمانية من ديمقراطية وحقوق انسان وثورة على المفاهيم القديمة بما في ذلك مفهوم العائلة والتماسك الأسري، ومن اللافت للنظر انه بينما تفقد الكنيسة والثقافة الانجليزية التقليدية مكانتها تزداد وضعية الاقليات وتزداد اهمية المساجد والمعابد الأخرى بينما تتضاءل اهمية الكنائس التي اصبحت احياناً سلعة تباع مفسحة المجال لظهور مسجد او شيء آخر في مكانها.
وفي إطار اهمية ثورة المفاهيم التي تأخذ بريطانيا، كان جنوح الاميرة ديانا التي هجرت قصرها وابناءها لحياة بعيدة عن تقاليد القصر وانتهى ذلك بالنهاية المؤلمة المعروفة - والعجيب ان كل بريطانيا بايعت في الجنازة الاميرة على سلوكها وعلى جهدها في نقض التقاليد وعلى تدشينها لثورة المفاهيم والانقلاب على القيم السائدة ولكن لم تنته القصة عند هذا الحد.
إذ ماتزال الاميرة ديانا تحكم بريطانيا الجديدة من قبرها، وماتزال تحرض من قبرها الصحافة ووسائل الاعلام على الانتصار لسلوكها والثأر من العائلة المالكة حتي اصبحت ملفات العائلة المالكة في العراء - فالملكة تتستر على احد اعوان ديانا الذي تجرأ على وضع يده على بعض مقتنياتها، والامير جارلس ولي العهد يتستر على احد خدمه الذي قام باغتصاب خادم اخر من حاشية الامير، والامير الصغير ابنه يدخن الممنوعات من الحشيش والهيروين، معاون آخر للأمير جارلس يتاجر في الهدايا التي تقدم للأمير من الرؤساء والأثرياء - وان العائلة المالكة تبدد ممتلكات بريطانيا سفها وتبذيرا وترفا لدرجة أن حاشية الأمير جارلس من الخدم والحشم تبلغ 81 خادما ومعاونا - بينهم من مهمته فقط وضع المعجون على الفرشة وتقديمها للأمير.
وقد لا تخل هذه الصورة من مبالغات ولكنها البناء على تركة الأميرة ديانا وثورتها على المفاهيم والاخلاق، حتى ماتت في سيارة رجل غريب، وصحافة الاثارة وثورة المفاهيم الجديدة، تعصف بمجتمع بريطانيا القديم. حيث اصبحت القضايا حقوق الشواذ والحرية الجنسية وحركة ثورة الانثوية، وحتى رئيس الاساقفة الجديدة انضم الى قيادة النادي الكنسي المطالب بحق اللوطيين في متابعة ترقياتهم في سلك الكهنوت والكنيسة وفي نقاش مع مثقف انجليزي صميم، قال لي انا لا اطيق ما يحدث! قلت له لماذا؟ قال متعجاً اتظن اننا بدون نخوة وشهامة - هل يقبل المسلمون مثلاً ان يصبح ائمة مساجدهم وفقاؤهم من الشواذ اللوطيين الذين يتباهون ويتماهون بشذوذهم ولوطيتهم وينشطون في نشر ما هم عليه بمختلف الحجج.
ومع ذلك، فان الحياة في بريطانيا تسير، وصحافتهم اطعم الصحافة على وجه الارض واذاعتهم يسمعها القادة والرؤساء والنخب وعملتهم اقوى العملات، ومدينتهم لندن أم المدائن وقبلتها يقصدها كل صاحب خبرة وطالب طموح ويكفي ما فيها من صفوة سودانية تضم التجار ورجال الأعمال والأدب والفكر والسياسة والشباب بالاضافة الى الاطباء والمهنيين - ويطالعك الحجاب في كل ناحية من نواحي لندن، فهذا شارع العرب ادكوار وهذه ويمبلي منطقة الصوماليين وهذه بركستون حيث السود والزنج وهمستيد حيث اليهود ودواخل لندن حيث البنغال والهنود والباكستانيين - وحتى الاحياء التي كانت مقصورة على الانجليز مثل ريشموند واسلاو وردينج اصبحت احياء خليط يطالعك فيها الاسود والصيني وغيرهم من خلق الله - اصبحت لندن مدينة عالمية تعكس وجه الامبراطورية وان ظلت السيادة فيها للانجلو - ساكسون الذين يجتهدون في استقطاب ممثلي هذا التنوع في قوات شرطة لندن التي تضم فقط 5% ممن اصولهم غير انجليزية ويريدون رفع النسبة الى 25% ولكن هذه الاقليات لا ترغب في الانخراط في سلك مهنة البوليس لا أدري لماذا ؟ حتي اضطرت حكومة لندن لاعطاء جائزة لضباط الشرطة الذين ينجحون في استدراج شباب الاقليات للانخراط في سلك الشرطة اللندنية.
وعلى شدة الحملة على الملكة والملكية، ستبقى الملكية قابضة على لندن بقصورها واموالها وعلاقاتها وقدراتها وتبقى الثورة على الملكية مجرد طق حنك وتبقى الاسرة المالكة ربما لعقود قابضة على الامور من الباطن وقادرة على تسيير الأمور - وتبقى حقيقة اخري، أن لندن تكتسب طعمها من تنوعها والا فإن كثيرا من المدن الاخري تفوقها ثروة وجمالا ونظافة والله أعلم.
السودان وارتريا وقانون المعاملة بالمثل؟
سعى السودان لتجريب ذلك وتخلى عن التجربة لتكاليفها الباهظة لذا طرد السودان المعارضة المصرية بشتى صورها ولكن ظلت المعارضة السودانية تقيم في القاهرة. وطرد السودان المعارضة اليوغندية بتعقبها داخل الاراضي السودانية والمعارضة السودانية باقية وعاملة في يوغندا ولم يسمح السودان لمعارضة كينية بالعمل من اراضيه ولكن المعارضة السودانية ممثلة في حركة التمرد هي الاقوى والابرز في الساحة الكينية.
ولكن في الايام الاخيرة سمح السودان للمعارضة الاترية بشتى اشكالها للعمل منطلقة من السودان بحجة قانون المعاملة بالمثل وبحجة ان القوات الارترية ساندت قوات التمرد تماما في احتلال مدينة القرآن السودانية همشكوريب وكذلك المنطقة العسكرية الهامة راساي التي تستشرف الطريق القومي.
وقد سعى السودان لتمتين علاقاته مع ارتريا دون جدوى؟.
اذ ظلت ارتريا تدعم المعارضة معلنة انها تريد حل المشكل السوداني من خلال مبادرة ارترية صرفة وربما قوى هذا الزعم الوجود العسكري المعتبر للمعارضة السودانية في ارتريا وصلات الرئيس افورقي بجهات متنفذة في امريكا واسرائيل والعالم العربي.
ولكن ماذا جد وجعل السودان يعطي المعارضة الارترية رخصة عمل في السودان! من المؤكد ان ذلك مرتبط بالسياسة الاثيوبية وكذلك بمؤتمر صنعاء وكذلك لان امريكا والغرب تريد الضغط على الرئيس افورقي لتعديل سياساته الداخلية والخارجية ولكن هل استغنى الغرب عن الرئيس افورقي يبدو ان الاجابة لا، لان الغرب يريد ان تمتد حقبة افورقي حتى التوقيع على معاهدة السلام مع الحركة الشعبية المتمردة في جنوب السودان، وافورقي هو صمام امان الضغط على السودان لتوقيع الاتفاقية واذا نكص السودان عن التوقيع على الاتفاقية تحركت القوات الارترية وقوات المعارضة في اتجاه كسلا وربما الى العمق وقطع الطريق القومي وبالنسبة للغرب فان حربا كهذه تؤدي لاضعاف الفريقين باجبار السودان على تجرع مطلوبات اتفاق السلام وخلخلة نظام افورقي بقصد تعديله وكلاهما امر مطلوب. لذا فالغرب راض عن انبعاث المعارضة الارترية في السودان طالما ستؤدي الى مزيد من الاستقطاب يسهل مهمة نجاح اتفاقية السلام المفروضة والله اعلم.
&