غازي الذيبة
&
لم ينته عصر محاكم التفتيش على ما يبدو في عالمنا العربي الذي نسميه معاصرا، ولم تجعلنا العولمة الجديدة في مناطقنا المتردية، بكل ما فيها من جبر على اللحاق بركبها التكنولوجي والثقافي والاجتماعي، ندفع سوى أكلاف ولوجنا زمنا مثيرا لاستفزازنا وتناقضنا وإرباكنا، وباعثا لنا على اليقين الكامل بالتخلف بدل التقدم، والغباء بدل الذكاء والتفاهة بدل الجدية والجنون بدل العقل، فلم نتعرف على العولمة رغم إيلاج قضيبها فينا حتى العضل، إلا كما نتعرف على نجم في السماء التاسعة، ولم تستطع العولمة أن تحدثنا رغم ما قيل عن سطوتها وقوتها، فلبثنا جالسين في القرون الوسطى، نستمرئ الجهل والتخلف.
أجر هذا الكلام بمناسبة مظهر تخلفي عربي، ما لبثت تقدم على ارتكاب جريمته الغبية، مؤسسات الرقابة في دولنا ، وهو يهجم علينا يوميا، لكنه هذه المرة بدا غبيا بامتياز على عادته، وميزة غبائه الجديدة جاءت بعيد أن أقدمت رقابات عربية على قطع يد مجلة الآداب من دخول بلدانها.
لقد كان سبب منع الآداب في مصر على ما عرفنا ملف عن الرقابة المصرية نشرته المجلة، وسبب منعه في سوريا هو تعرض المجلة عينها في عدد سابق للرقابة السورية، كم امنع في الأردن والكويت وعدد آخر من البلدان للأسباب ذاتها، وكان يمكن لتاريخ الآداب على، أن يشفع لها عند الرقيب العبقري، ويمرر عددا منها لن يدفع بأحد على الإطلاق ليهاجم أي من البلدان التي منعتها بالصواريخ النووية، لكن تاريخ مجلة الآداب كله بما قدمه لنا من آداب مصر وبغداد ودمشق وبيروت وعنان والرباط وتونس ونواكشوط والخرطوم وغيرها من مدننا العربية التي ما زالت سجينة عقدها، لم يشفع لها بشيء، بل على العكس من ذلك شددت الرقابة عليها، ومنعت، وأظن أنه كان على الرقيب العبقري في تلك البلدان المانعة للآداب، قبل إصداره قرار منعها أن ينظر الى عدد النسخ القادمة الى بلاده لتوزع فيها، ولكان اكتشف أن حصة القاهرة مثلا من نسخها، لا تسير ربع مظاهرة صغيرة مهما بلغ هجاؤها أو نقدها أو تحريضها على الرقابة في مصر أو غيرها، وأظن مرة أخرى، أن النسخ التي تم إيصالها بالبريد المسجل وغيره من وسائل الاتصال المختلفة الى البلدان التي منعت عدد مجلة الآداب، بعيد ما أثير حولها يفوق أضعاف المرات عدد النسخ التي كانت ستوزعها فيها، ولن تثير أي ضجة كالتي أثارها المنع، تماما كما حدث مع رواية وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر العادية جدا في طرحها، بل إن هناك كتبا وروايات منتشرة في أسواقنا، محشوة بالجنس والدين وغيره من الممنوعات، التي تفوق ما ورد في وليمة حيدر، ولكن التظاهر ضدها من مجموعة لم تقرأها ولم تسمع بها وسط الأزهر الشريف، بسبب آراء أحد الوشاة الكيدية فيها، جعلها توزع خلال وقت قصير جدا عشرات الآلاف من النسخ، وخدمت كاتبها الذي كان عدد من يعرفونه ويعرفون روايته، لا يصل الى عشر عدد من تظاهروا ضده ممن لا يعرفونه أصلا.
هذه كلها تشير بإصبع الغباء الى الرقابة العربية، والى سطحية العاملين فيها، وعدم قدرتهم على معرفة نتائج الجرائم التي يرتكبونها، ولا يدركون أيضا أن كل ممنوع مرغوب، وأن حراسة العقول لم تعد ممكنة، وهي لم تكن ممكنة أصلا حتى قبل أن تثقبنا العولمة بثورة الاتصال الحديثة، فكيف بعد أن أصبح بمكنة أي طفل يتقن اللعب على الكمبيوتر أن يخترق أسوار البنتاغون الإليكترونية وليس جدران رواية أو نص إبداعي وفني ؟
ان منع دخول عدد من مجلة ما، تتحدث عن الرقابة في بلد ما، أيا كان هذا البلد عريقا في فنونه وآدابه، ينم عن وقع مهين للثقافة الإنسانية فيه، ولمفاهيم الحرية السامية التي يتشدق بها مسؤولوه، ولمعنى الاختلاف ورحابته وحريته هناك، وهو على المستوى العربي، يكدس معرفة جديدة لفهم رقاباتنا وهي تعيد إنتاج تخلفها وعدم قدرتها على تجاوز عقد الخوف والارتباك والاستفزاز والتردي والقمع والخمول والسكونية واليأس وباقي التفاهات الأخرى، وهي تمارس ( بفتح الراء ) علينا بعد ان تلبستنا مفردات قيمية عن منع هذا النص أو ذاك الكاتب، لأنهما يجدفان بحق قيمنا وديننا، لتربي كل ألوان القهر والإذلال والخضوع لمشيئة الصمت والأسونة فينا، وتنصب علينا آلهة يحللون ها النص ويحرمون ذاك، سواء من أبناء السلطات العربية المنخورة بالسي آي إيه أو من مرادفاتها من مؤسسات إسلاموية ما زالت تئن تحت وطأة تخلفها، وحتى من يقومون بممارسة الرقابة من أفراد، سواء قبعوا في أقبية السلطات أوفي أقبية مؤسسات دينية تتلبس ثوب مؤسسات المجتمع المدني ( هل لدينا مجتمع مدني حتى تكون له مؤسسات ؟)، لم تظهر على سيماههم أي ملامح، تشير من بعيد أو قريب الى أنهم يقومون بممارساتهم القبيحة تلك لوازع أخلاقي أو ديني كما يدعون، فكل ما عرف عمن سبب أفعال المنع والحجب للنصوص والأفلام والتسجيلات، يمتلكون تاريخا من التجاوزات التي كان على الرقابة (مع أننا ضدها ) أن تضع لهم حدا عليها.
ان ما يطلق عليه تجديفا بحق الدين أو القيم الاجتماعية وكل ما أبد واستتر عليه من هذه القضايا، هو انزواء في معطف مهترىء، يسعى الى منع ما قد يثير حفيظة قراء عابرين أو ليسوا قراء بل محترفي إصغاء للوشايات ومدبري المكائد ، واغلبهم على ما رأينا وسمعنا وشاهدنا، لا يعرف ما يقرأ أو ما يقرأ ( بضم الياء ) له، بدليل ان أحدا منهم لم يحتج أو يخرج في مظاهرة، رفضا لكلمات أغنية هابطة من تلك التي تذاع يوميا علينا عبر الفضائيات والإذاعات، أو الاحتجاج على ما تعرضه محطات تلفزيوناتنا من برامج تافهة، تسخف العقل وتربي الذهن على الخزعبلات والاتكالية والوهم والكذب، وتعلم أطفالنا الوهن والخمول وعد التفكير.
أجل لم نر أي من الذين احتجوا على رواية حيدر حيدر أو الذين منعوا مجلة الآداب أو احتجوا على ما كتبته ليلى العثمان وغيرها من مظاهر الرقابة المقيتة، من يقف في وجه سيل أغاني الفيديو كليب العربية الساقطة والتافهة، والمنقولة جميعها برداءة وحرفيا عن التلفزيونات الغربية، والتي يمكننا فيها أن نرى المطربة " س " تتعرى قطعة قطعة دون النبش في تاريخها الشخصي قبل أن تأتي من المواخير والملاهي الليلية، ويقدم فيها المطرب " خ " صدور وأفخاذ فتيات لا نعرف أسباب وجودهن عاريات بجانبه وهو يتلوى بشهوانية أفعى بينهن ودون سبب طبعا، وهن يتمايلن كما لو أنهن في أسرة أزواجهن، وكما لو أننا ماخور، بينما يجري الاحتجاج والتظاهر على كتب وكتاب ومفكرين وفنانين قالوا وقائع من هنا وهناك نعيشها يوميا، ويعمل قضاتنا ومحامونا في المحاكم لأسبابها، أو أنهم قرأوا ماضينا وحاضرنا قراءة لا ترضي أصحاب العقول البسيطة ولا أصحاب الكراسي والمناصب والمصالح، قراءة تمتلك من التحريض على التغيير ما لا تمتلكه مخدرات الفيديو كليب وتوابعها من برامج تلفزيونية سخيفة، تدار بأيدي مافيات وعصابات رقيق أبيض.
نعم..لم يحتج أي من ممارسي الرقابة الرسمية أو الرقابة التي تتمنطق باسم المجتمع والدين، على إخفاء صور الانتفاضة الفلسطينية في علب التلفزيونات العربية، وحجب بث أي أخبار نتلك الانتفاضة إلا ما تبثه قنوات غربية، مع أنهم يتبجحون يوميا بأن الانتفاضة شرفهم الرفيع، وأنهم معها قلبا وقالبا، ولكنهم معه افعلا بصمتهم ودأبهم على تمرير كل ما يحجبهاعن الجمهور، وممارسة ما تمارسه الأنظمة العربية من سكونية تجاهها، سكونية مدبرة ومفروضة عليها وقابلة هي بها برحابة صدر.
نعم.. منا لا يتذكر المدعو عبد الصبور شاهين الذي ما زال حيا يرزق بملاعق من ذهب الأنظمة التي سلطته على رقاب المفكرين والكتاب، والذي وضع سيف دعوته اللاهوتية، على رقبة استاذ جامعي ثبت أنه أقدر منه معرفيا وعلميا، بينما شاهين نفسه، لوحق فيما تلا حملته الشعواء على نصر حامد أبو زيد، بسبب كتاب له محشو بالخزعبلات، وقد رصدها له من عمل معهم للتحريض على أبو زيد، فكما تدين تدان، ولعل المقربين من مؤسسة التعليم الجامعي في مصر يعرفون تاريخ شاهين المعرفي والشخصي هو وزبانيته، والأسباب التي جعلته يلحق الأذى بمن رأى أنه يملك من المعرفة ما لا يملكه هو، وثبت بعد لأي أن الأمر برمته ما هو إلا ضرب من الكيد والبغضاء بحق مدرس جامعي متفوق، كان يجب أن ينال درجة علمية جديدة على منجزه الذي كان جزء كبير منه منشورا، ومعروفا لدى قراء عديدين متخصصين، قبل أن تبدأ حملة شعواء تكفره وتدينه، وتفرق بينه وبين زوجته، تماما كما حدث مع رواية وليمة لأعشاب البحر التي كانت منشورة، وتم تداولها قبل أ ن تثور ثائرة أحد الأغبياء على ما فيها من تجديف بحق الله، كما ادعى ذلك الغبي، بسنوات طوال، وهذا دليل دامغ على جهالة وتآمر أولئك الذين يثيرون هذه الارتكابات.
لم نسمع ان الرقباء في مؤسساتنا المجتمعية والرسمية من الذين وقفوا مع منع كتاب ما أو فيلم، خرجوا في احتجاجهم وصمتهم على ما تجريه عليهم سلطتهم من قمع وكبت وغلاء أسعار.. لا، كل ما جر إليه هؤلاء هو الخروج بأصابع الشمع الأحمر، لإغلاق أي مبادرة حرة لكاتب ما، يتطلع إلى نقل وقائع تسري في مجتمعاتنا، ونسمع ونرى حيثياتها يوميا، فأي رقابة هذه التي تحض على منع كتاب أو فيلم أو مجلة، وأي رقابة هذه التي لا تستطيع فعل شيء سوى أن تمارس عملا غبيا وتافها، تدعي فيه أنها تحرس العقول، وتحافظ عليها من الخراب، ومن أعطى الحق لأي كان،عبقريا أو مقدسا أن يمارس الرقابة على عقولنا، ويمنع عنها هذا النص أو ذاك العمل الإبداعي؟
وأي منطق يحكم عقل الرقيب العربي في مكتبه البائس وتحت وهن راتبه الضئيل مثل عقله، وفي خضم جهله وعدم اطلاعه وقلة سعة إدراكه، الى أن يتحكم بإنتاج عقول متنورة متفهمة، تقرأ الحياة بمنظور مختلف عما يتلبسه ذاك الرقيب وسيده في جدران رأسه البائس ؟ أم أن كل هذا الفقر الذي تحشى به حياة هذا الرقيب هو الذي يدفعه لأن يكون يدا طاغية لسلطات طاغية؟ أم ماذا؟
هذه هي الرقابة العربية في منطوقها المرتهن لمصالح شخصية أو سياسية، تحركها مجموعة جهلة وحاقدين على النجاح أحيانا، وأحيانا أخرى غير عارفين بأهمية ما يراقبونه، وفي كل الأحيان تكون مهمة الرقابة وهي فعل متقصد، يتم مع سبق الإصرار والترصد، محصورة في أمر واحد، هو : نشر العتمة والتعمية وعدم مرور المعرفة للمواطن العربي إلا بمقدار ما تسمح به النظم السياسية المستبدة، ذلك أن أغلب أنظمتنا تضع أيديها على مسدساتها حين تسمع بكلمة مثقف أو معرفة.
وأي رقابة تلك التي تحد من نشر رواية أو فيلم يصوران أحداثا ويقدمان حوارات ومواقف نمسكها بأيدينا يوميا، أو يبحثان في أمر يجري التستر على بحثه أو إعادة قراءته وإنتاجه بما يليق وعصرنا ويتواءم معه ؟
هل على الأديب والفنان والمفكر ان يقولوا ما يرضي الجمهور، ويعززوا من سكونيته وبلاهته، ويرددوا كالببغاوات أقوال حكامهم الصامتين في وجه أميركا، ويزينوا تفاهاتهم كما لو أنها كتب مقدسة من أجل إرضاء مجموعة من الموظفين البلاشفة، الذين يخطئون إملائيا في كتابة أسمائهم ، ومن اجل أنظمة رفعت نسبة البطالة في بلداننا، لتصل الى أقصى درجاتها منذ بدأ التاريخ البشري، وسيدت القمع والمحسوبية، وحولت الجمهوريات الى أنظمة وراثية، في سابقة لم تحدث في تاريخ الإنسان، وأسهمت بمنع الماء والهواء والدواء عن مواطنيها، وحدت من نسب التعليم المجاني، وهشمت رأس المشاركة الفعلية في بناء البلاد العربية سياسيا وثقافيا واقتصاديا من قبل مواطنيها، ودفعت أزلامها الى احتكار كل منابع الاقتصاد الوطني والسيطرة عليها، وحولت البلدان العربية الى مستنقعات أمنية، يد البوليس فيها هي العليا ؟
وهل الرقابة مسعى حضاري يرسخ مبادئ الحفاظ على القيم؟ ولماذا بعد كل ضحية عملية رقابة سخيفة، نتعرف إلى جهالتنا، فنسمع ان من صيروا أمر الرقابة حجة على رقاب الكتاب والفنانين، لم يقرأوا لهم شيئا، وإنما جذبتهم للاحتجاج على الفنانين والكتاب والشعراء وشايات مغرضة، تهدف إلى بناء جدران عزلة بيننا وبين العالم؟ وأن دوائر الرقابة في بلداننا لا يقوم العاملون فيها بأعمال الرقابة كما يهيأ لنا أو لهم، فأغلبهم من الجهلة، وأقصى ما يدركونه من عملهم هو تنفيذ لوائح تقدم لهم من قبل سلطاتهم، تدعوهم الى حذف كلمة كذا من كل نص يراجعونه، كم احدث ذات مرة مع ا لرقابة العراقية، حيث طلب إبان الحرب الإيرانية العراقية من الرقباء هناك، بألا يمرروا كتابا فيه كلمة موت أو حزن، وغيرها من الطرائف التي من شدة بلائها تجعلنا نبكي، فهم ـ أي الرقباء ـ لا يقومون بعمل فيه تفكير أو ممارسة إبداعية، لا إنهم مجموعة من الموظفين يطلب منهم تنفيذ أوامر تثير السخرية في منع هذا المشهد من الفيلم الفلاني، وشطب تلك الكلمة من الكتاب العلاني، وحجب دخول مجلة أو شريط كاسيت الى البلاد لأن مطربه صرح ذات مرة، بأن هذا البلد لا يحترم حرية الرأي، وهم أيضا موظفين محسوبين على مؤسسات نافذة في تلك الدول، لها مصالحها من وراء منع هذا الكتاب أو ذلك النص أو تقطيع هذا الفيلم، وتشذيب تلك المسرحية، وهكذا ن وهذا لا يجعلنا نفرق كثيرا بين رقباء السلطات العربية ورقباء المجتمعات العربية، الذين لا يعرف بعضهم من القراءة والكتابة إلا ما تعلمه في المراحل الابتدائية.
وحين نعود الى العهود العربية الماضية، هل كنا نجد مؤسسات للرقابة على غرار م انجده اليوم في بلداننا، وكأننا في الحقبة البلشفية أو النازية أو المكارثية ؟ مؤسسات تراقب كل كلمة تخرج من فيه مفكر أو فقيه أو شاعر أو كاتب ؟ هل حرم أبو نواس مثلا (على مجونه) من قول الشعر الماجن كما يحرم على بعض الشعراء والكتاب في وقتنا الحاضر من أن ينشروا كتبهم ونصوصهم لأنها تتهم بما لم يكن يخطر على بال أبو نواس يوم كان يلقي قصائده على سجيته، ودون رقابة أمام هارون الرشيد وغيره من سادة عصره ومشايخهم ؟ هل أدين الشيخ النفزاوي على ما وضعه من تصانيف في الجنس مثلا ؟ وهل منع الإمام السيوطي من التداول لأنه وضع عدة كتاب في النكاح..؟
ان قائمة النصوص التراثية الحرة، والطلقة، تطول لمن كتبوا وألفوا بحرية لم نعد نشهد لها مثيلا، والقائمة فيها أيضا من ساجل وجادل بالتي هي احسن كل خارج أو مارق إن وجد ؟
صحيح ان ثمة نقاطا في تاريخنا كانت تستند إلى المنع والحجب، سوداء كأيامنا الراهنة، لكنها لم تكن اللازمة التي تنتشي بها مؤسساتنا الرقابية الرسمية وغير الرسمية كما هي في أيامنا.
إن منع عدد الآداب من دخول بعض بلداننا، لا يشكل إضاءة في تاريخنا المعاصر، ولا يحمي تلك البلدان من ان تقرأ من زاوية تدينها لهذا المنع، فقد تبدل الزمان وتغير، صار بمكنة أي ممنوع ان يتسرب الى أي راغب في معرفته، فوسائل الحراسة المشددة على العقول، لم تعد صالحة للاستخدام البشري، ومواقع الانترنت يمكن لأي كان البحث فيها عن ضالته وضلالته، ووسائل الحجر القمعية للأفكار، لم تعد قادرة على منع أي كاتب أو أديب أو فنان من إيصال أفكاره الممنوعة لمن يريد، وأصبحت مفاهيم الرقابة البلشفية في بلاد العرب وبلاد العجم، هزيلة وسخيفة أمام قدرة انتشار الأفكار الممنوعة وغير الممنوعة بالوسائل الاتصالية الحديثة، الأمر الذي يحيل كل ألوان المنع والحجب والكبت والقمع الفكري إلى ان تصير هذيانا غير مجد البتة في عصر الاتصالات المدهش ببواباته المفتوحة دون أي وازع .
اجل.. تغير العالم كثيرا، والغريب ان سدنة غرف الرقابة العربية والعالمية، لا يدركون شيئا من هذا القبيل، مع انهم يمارسون مهنة، تجبرهم على معرفة كل شيء مما يمنع، وكيفية منعه وانتشاره، ويبدو ان مهنة حاملي أصابع الشمع الأحمر، والتي قيل إنها انتهت في عصر العولمة الذي لم نعرفه حتى الآن، مع أننا نعيش في أكتافه، قد عادت، ولكنها هذه المرة،عادت في زمن جعلها أضحوكة، فمن منا يستطيع منع ابنه من ان يبحث في الانترنت عما يريد هو، لا عما يراه مناسبا له ؟ بالطبع.. لا أحد، فإذا كنا غير قادرين على صنع رقابة على أبنائنا وهم تحت أعيننا، فكيف بأولئك الذين يصنعون رقابات سخيفة على شعوبهم؟
من هنا كان علينا ان نستشعر ان فكرة الرقابة لا تبدأ بمنع مجلة أو كتاب أو إيقاف كاتب أو مفكر عن الكتابة والتفكير، لتنتهي بجز رأس مخرج قال في فيلمه مشهدا يكشف وهننا وانحطاطنا وشبقنا، وإذا كنا ممتلئين بالحرص على وعينا وقيمنا وثقافتنا، فان الأجدر بنا ان نعيش في غابات مسورة لا تصلها الكهرباء ولا أجهزة الكمبيوتر ولا الهواتف، حتى لا نستطيع الاتصال بالعالم الخارجي، ونتعرف من خلاله على ما يعشش في بلداننا من تخلف وأمراض وأوساخ وجهالات وقمع.
&ان مفهوم الرقابة أيا كان شكله لم يعد قادرا على إنزال عقوبة بالفكر الإنساني، بقدر ما تقوم عملية الرقابة ذاتها بهذا العقوبة المهينة لمن يمارسها ولبلده ولتاريخه إن كان له تاريخ، يعتد به.
كان يجب علينا أن نسأل رقاباتنا : ألم يكن جديرا بها ان تمنع مطربين هابطين من تقديم أغانيهم السخيفة مثلا، مع أن مثل هذا المنع يعد رقابة ومن نوع رخيص أيضا، بدل أن تظل تطارد كتابا ومفكرين وفنانين جادين أو غير جادين لمجرد أنهم لم يفصلوا ما يبدعونه بحسب مقاساتهم ومقاسات من يحضونهم على إشهار سيف المنع والقمع في وجه كل حرية.
ألم تنتبه رقاباتنا الموقرة لأنماط الطرق الإعلانية المهينة للمرأة وللرجل وللقيم التي تبثها تلفزيوناتنا بإشراف الرقابة ذاتها، بدل ان تكرس شغلها الشاغل لصيد الكتب والأفكار وأصحابهما، أم أن الإعلانات هي لشركات تدفع أموالا للدولة التي تشغل مؤسسات الرقابة وموظفيها الأميون؟
وعن أي رقابة يمكننا ان نتحدث اليوم في وقت، يمكن فيه للرقيب نفسه، ان يجلس أمام جهاز التليفزيون وبيده ريموت كنترول ليشاهد ما قصه من ذاك الفيلم في بلده، معروضا في قناة تليفزيونية تبث من خارج جدران زنزانته؟ أو يجلس أما شاشة الكمبيوتر للوصول الى ما قام بمنعه عن الناس دون عوائق تذكر؟
في الفيلم الذي حمل عنوان "المصير" ويحكي سيرة حياة الفيلسوف الإسلامي ابن رشد، يكتب يوسف شاهين مخرج الفيلم عبارة في المقدمة تقول ان الأفكار لها أجنحة، متقصدا الإشارة إلى ان فلسفة ابن رشد على رغم ما تعرضت له من حرق ومنع، جعلت العالم كله يسمع أفكار هذا الفيلسوف، وهذه العبارة التي يمكن أن نجدها في مدونات أدبية وسياسية عديدة لمفكرين أجلاء وغير أجلاء، تضعنا في مواجهة حقيقة مع الرقابة والحرية.
&وليس بعيدا عن التذكير ان ابن رشد الذي عانى آنذاك ما عاناه من رقابة السلطة والمؤسسة الحاكمة، هو صاحب الحضور القوي الآن في محافل الفلسفة العالمية، من جامعات ومراكز أبحاث، وان دولا غربية أقامت له تماثيل، يندر ان نرى مثلها في المنطقة التي أنجبته. أي في المنطقة العربية والإسلامية،وأن كتبه التي منعت بتحريض من بعض الوشاة والمفسدين في الأندلس، والاعتداء الذي تعرض له آنذاك، لم تمنع نشر أفكاره وعلى مستوى عالمي، رغم أن زمن ابن رشد لم يكن الانترنت فيه قد دخل غرف النوم كما دخلها الآن.
&
&
ثقافة إيلاف