عزيز الحاج
&
يقدم لنا المثقفون العرب، ومع استثناءات محدودة،أمثلة جديدة على رفض معالجة القضية العراقية بحقيقتها المتشابكة الجوانب. وإذا كانت مصالح البعض ذات علاقة بهذا الموقف، فإن من الواضح لي أن شرائح كثيرة من المثقفين العرب وبعض المثقفين العراقيين أنفسهم لا يزالون يعانون من منطلقات فكرية وسياسية خاطئة. كما ان أقلية لا تزال تجهل تفاصيل المعاناة العراقية. وسبق لي في بحثي المعنون "مأزق الفكر العربي" الذي نشرته "إيلاف" ونقلته عنها بعض مواقع الانترنت&العراقية، أن تناولت دور الإيديولوجيات المنغلقة التي شاعت في العالم العربي على مدى عقود من السنين، وخصوصا منذ اشتعال الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية، وأقصد التيارات الفكرية القومية والماركسية والإسلامية السياسية. وقد شغلت الأخيرة مواقع مسيطرة في الشارع والساحة السياسية العربيين منذ أكثر من عقدين. ولعبت الولايات المتحدة وبعض الحكام العرب دورا كبيرا في تغذية وتشجيع "الإسلام السياسي" الذي بلغ ذروة تطرفه في ممارسات "القاعدة "وطالبان. وكنت شخصيا من المشبعين بروح العداء للسياسات الخارجية الأمريكية. وكنت ممن يرتاحون لكل صدمة تصيب الولايات المتحدة. كما كنت من دعاة "العنف الثوري" وممن ساهموا في نشر ثقافة العنف السياسي حتى تركي للعمل السياسية الحزبي عام 1969. ولكن التخلص من المعتقدات الإيديولوجية والسياسية القديمة لم يكن سهلا. فمثلا انتقدت النظام العراقي عام 1970 لأنه لم يتدخل لصالح الفلسطينيين في الأردن، غير ناظر إلى الأخطاء الفلسطينية الفادحة التي كرروها في لبنان وأعطت الذرائع لمحاربتهم بقسوة ووحشية. وبذلك كنت أردد المقولات الشيوعية والقومية عن "التآمر الاستعماري - الرجعي".
لقد عانى الشعب العراقي ما لم يعانه شعب أي بلد عربي آخر: من حروب داخلية وخارجية وحملات تهجير لمئات الآلاف، وموجات الاعتقال بالجملة والإعدام بالجملة. وقد كنت ممن هللوا لتدابير اقتصادية وسياسية واجتماعية اعتبرناها إيجابية وهامة. وجاءت الموجة البترولية بتحسن ملموس لبعض الشرائح الوسطى من السكان. ولكن سياسة الاعتقال الاعتباطي والتعذيب المنهجي والقتل ظلت في تلك الفترة [سبعينات القرن الماضي]. أما اليوم فلم يبق ما اعتبره بعضنا مكتسبات هامة وإنما تداعى العراق وأجيع الشعب، وقتل ما يتجاوز المليون عراقي ونصفا. أما النظام فقد ازدادت طبيعته الشمولية تعسفا، وتحول من سلطة حزب لسلطة فرد عائلة ومخابرات. ويحاول الكثيرون من المثقفين العرب تعليق مسؤولية الكوارث العراقية على أمريكا و"الحصار الدولي". صحيح أن حرب 1991 تجاوزت هدف تحرير الكويت إلى تدمير البنية التحتية العراقية. ولكن من المسؤول عن إشعال تلك الحرب وتقديم الذرائع لإشعالها؟! ألم ينذر وزير الخارجية الأمريكية السابق طارق عزيز في عشية الحرب بان عدم الانسحاب العراقي من الكويت سيشعل حربا ترجع العراق لعهود ما قبل نهضته الصناعية والتقنية ؟! ألم يوقع النظام بعد هزيمته على القرار 687 الذي جعل البلد تحت وصاية مجلس الأمن؟!
أما عن "الحصار" فإن ما بقي منه هو حظر جزئي على استيراد بعض المواد مع السماح بتصدير كميات كبيرة من النفط تكفي عوائدها لسد الحاجات الغذائية والصحية للعراقيين، وما وقع ويقع سبق أن تحدث عنه كثيرون من الكتاب العراقيين وبكل التفاصيل. وكان آخر ذلك الردين الهامين للدكتور عبد الخالق حسين والأستاذ الرميحي على المقال المتشنج لادورد سعيد عن المسألة العراقية، وهو المقال الذي يدفعني اليوم للكتابة وتكرار بعض ما سبق التأكيد عليه في مقالاتي الأخرى.
لقد صدمتني لغة التحامل غير اللائقة والجارحة على الأستاذ كنعان مكية. وقد كان من واجب&ادوارد سعيد،&المفترض به&جامعيا وكاتبا، أن يستعمل المحاججة العلمية والهادئة بدل الشتيمة وكيل الاتهامات وتصفية حسابات شخصية. ولا يبرر له استعمال هذه اللغة حتى لو كان كنعان مكية قد تناوله بنقد جارح في أحد كتبه. ولا أعتقد أن الكتاب المذكور خص ادوارد سعيد وحده، ولعلني من بين من تعرضوا للنقد الصارم جراء مسايرتي السياسية والإعلامية للنظام حوالي العشرين عاما.ولعل كثيرا من لوم الناقدين ونقدهم كان صحيحا. ولكن الرجل السياسي والمثقف يجب أن يعيد النظر في المواقف والاجتهادات، وأن يحاول تصحيح الخطأ مهما كانت فداحته. كما لابد من أخذ الأوضاع الجديدة بالحسبان التام. وخلال العقد الماضي وقعت أحداث جسام، لاسيما انهيار الكتلة الشيوعية والإيديولوجية الشمولية التي كانت تسيرها. ومن قبل ذلك فشلت التجارب القومانية الوحدوية، فلا رأينا الوحدة تتحقق ولا التنمية والتقدم. واستغل الحكام "التقدميون"قضية فلسطين حجة لتكريس المال العام للتسلح ولإهمال التنمية ولقمع الحريات باسم "فلسطين أولا"، وباسم الشعار الثاني "العدل الاجتماعي قبل الحرية والديمقراطية ". ولكن الذي حدث هو أن "ضاع الطاس يا عباس"! وأصبح العرب اليوم في مؤخرة موكب التقدم الحضاري والثقافي وفي منتهى الضعف السياسي.وتصدرت الساحة تيارات التخلف الظلامي وممارسات العنف والقتل والتدمير باسم الدين. ومع أن أحداث 11 سبتمبر قد غيرت العالم فإن الشارعين الثقافي والشعبي هما تحت هيمنة وسلطان السلفية المحافظة بأشكالها المختلفة، ومنها الطبعة "اللادنية" الدموية. وازداد انتشار ثقافة العنف تجاه المرأة وضد التنوير والتطلع الديمقراطي . أما كراهية أمريكا فصارت مودة اليوم!! وأعتقد أن مقالة أدوارد سعيد تعاني من عقدة كراهية أمريكا رغم أنه برز وهو يعمل فيها أستاذا ومؤلفا.ولعل هذه الكراهية تفسر جزءا كبيرا من رفضه لفهم معاناة شعبنا وهجومه الهائج على المعارضة العراقية التي تعمل من أجل أن يتحرر العراق من الظلم الدموي وان يستعيد العافية في ظل الديمقراطية والتآخي بين جميع مكونات الشعب. إن بقاء النظام الحالي في العراق يعني استمرار النزيف، واستمرار هدر الثروات، واستمرار القيود الدولية على السيادة الوطنية، و بقاء موقد الأزمات والحروب الخارجية والداخلية لان حكام العراق هم حكام لا "ينضبطون "للقانون الدولي وشريعة حقوق الإنسان وهم يواصلون القمع الدموي وتكديس وتطوير أسلحة الدمار الشامل. ولا أعتقد أن سياسيا عراقيا في المعارضة يتمنى الحرب لمجرد الحرب أو عشقا لأمريكا.وقد كتبت منذ سنوات بعيدة أن التغيير بالعنف، وحتى لو كان مشروعا ومبررا،،له عواقب سياسية سلبية. وإن العنف الشعبي المسنود بحملة عسكرية خارجية هو أسوأ حل ممكن للأزمة العراقية إلا إذا لم يكن هناك طريق آخر،وهذا هو واقع اليوم مع الأسف. إن دولا وأوساطا دولية وعربية والشرائح الواسعة من المثقفين العرب ينادون بالحلول "السياسية" "السلمية " للأزمة. ولكن هل ذلك ممكن مع انتفاء كل حرية وسيادة القمع والقتل وسيطرة أجهزة المخابرات، ومع سلبية العرب تجاه المعاناة العراقية وانتفاع الكثيرين من بقاء النظام؟ هل يمكن للأسرة الحاكمة العراقية أن تحل أجهزتها القمعية وتترك البلد للقوى الوطنية والأمم المتحدة ؟هل تضغط الدول العربية والإسلامية وروسيا والصين لتحقيق ذلك ؟هل اتخذ مجلس الأمن قرارا جديدا يجبر الطبقة العراقية الحاكمة على حل مجلس قيادة الثورة والأجهزة الأمنية وإجراء انتخابات حرة بإشراف مجلس الأمن، وبذلك تنتفي الحاجة العراقية للعمل العسكري؟ كلا وكلا. إذن فعن أي حل "سلمي" يتحدثون؟! ألم يبرهن النظام بالخطاب الأخير الموجه للكويتيين على إصراره على تبرير غزو الكويت مع تحريضه على الإرهاب والتخريب& ألم يتلاعب عشرات المرات بالقرارات الدولية عن تدمير الأسلحة مما كان يعطي أسبابا لمجلس الأمن لاتخاذ قرارات جديد بما فيها منع سفر المسؤولين العراقيين عن إخفاء الأسلحة وعرقلة المفتشين ثم طردهم ـ وهو قرار لم يطبق، مثلما لم يعد مجلس الأمن للتأكيد على قراره 688 وتفعيله وإدخاله ضمن الفصل السابع من الميثاق. ولماذا يحرمون على القوى الوطنية التعاطي مع السياسة الأمريكية الجديدة[منذ 11 سبتمبر]، أي هدف إسقاط النظام بدل سياسة "الاحتواء" ما دام الهدف يلتقي مع هدف الشعب العراقي؟ ويكرر الكاتب ادوارد&سعيد أسطورة "الطمع النفطي" الأمريكي لتبرير تحامله على السياسة الأمريكية والمعارضة العراقية، وكأن النسبة العالية من النفط العراقي المصدر لا يذهب للشركات الأمريكية، وكأن الولايات المتحدة بلد فقير نفطيا. وهذه الأسطوانة "النفطية" تشبه قصة "الطمع الغازي" في حالة الحرب الأفغانية، وهي الحرب التي التقت فيها مع أمريكا دول الجوار الأفغاني ذات الاهتمام الغازي المباشر. وكما قلت في مناسبة أخرى فلو كان الدافع الأمريكي نفطيا لقدمت القيادة العراقية كل احتياطنا النفطي للسيطرة الأمريكية ثمنا لبقائها، بعد أن فرطت بالكثير من مقومات سيادة الدولة وهيبتها. وقد يعرف&سعيد [أو لا يعرف] أنه لم تكن في العراق منذ مجيء السلطة الحالية ميزانية شفافة لعائدات النفط ضمن الميزانية الحكومية المعلنة. فكل العائدات مرتبطة بالرئاسة العراقية ومجلس الثورة والموضوع يعتبر "سرا أمنيا"، فلا حسيب ولا رقيب. وقد ثبت أن معظم تلك العائدات قد صرف على التسلح وعلى أجهزة القمع وعلى رشوة بعض الدول والمثقفين والإعلاميين من عرب وأجانب.ومنذ سنوات تجمع السلطة.مليارات الدولارات من بيع النفط المهرب دون أن يعرف أحد، غير حفنة أشخاص أين تذهب تلك الأموال الطائلة.
&ليس تشدد لغة&ادوارد سعيد وموقفه بالجديد. ففي كتابه "الاستشراق" مبالغة ملحوظة في تسفيه المستشرقين والتشكيك فيهم. وقرأت له مقالات عديدة خلال العقد المنصرم يشدد فيها من الحملة على ياسر عرفات لأنه عقد أوسلو. وتميزت تلك المقالات بروح المزايدة القومانية التي كلفت الشعوب العربية كوارث متعاقبة.ولكن ماذا قدمت المزايدة غير الواقعية الفلسطينية ـ العربية؟ فقط المزيد من الضربات للقضية الفلسطينية والمصالح العربية: ما بين رفض عرض الدولة المستقلة ذات الحكم الذاتي لليهود قبل الحرب العالمية الثانية، وإلى رفض التقسيم، ثم إشهار الحرب على قرار التقسيم وما نجم عنها من خسائر كبرى في الحصة الفلسطينية المقررة دوليا وما اتخذ ذريعة لانقلابات "قومانية "عسكرية أجهزت على ما كان قائما من حريات ومن مقومات المجتمع المدني العربي. ثم إلى حرب حزيران المدمرة، وإلى "اللاءات الثلاث". وها نحن أخيرا نصاب أخيرا بفضل [حماس] و[الجهاد] والمهادنة العرفاتية لهما بخسران شطر كبير جدا من العطف الدولي وبخسائر فادحة في الأرواح والبنى التحتية وفي سيادة السلطة الفلسطينية. وتذكروا محاور "الصمود والتصدي "ومشاريع الوحدة الارتجالية المتعددة وما آل إليه ذلك جميعا! ولكن ذهنية المكابرة وعقلية المزايدة و"الجهادية "المغشوشة والكارثية للإسلاميين المتطرفين هي التي تهيمن على عقول وعواطف الجماهير العربية والقطاعات الأوسع من المثقفين. وإن مقالات&ادوارد سعيد&تعكس ذلك.
إن مقالته المشار إليها عن القضية العراقية تعاني من تجاهل مؤسف للمعاناة العراقية وإن اتخذت المقالة من مهاجمة السيد كنعان مكية ذريعة. فالمقالة مكرسة لترديد وتجسيد المخاطر المزعومة على العراق والمنطقة في حالة ترحيل النظام المتعسف في العراق. وباستثناء بضع عبارات نقد عمومية للنظام في بعض مقالاته، فإنني لم أقرأ له في الصحافة العربية فضحا وتنديدا بأشكال القمع الوحشي في العراق ولا دفاعا عن الآلاف من المثقفين العراقيين الذين عانوا ويعانون من ظلم النظام. ولا أعرف هل كتب ولو أسطرا تنديدا بقائمة رسمية بأسماء حولي 300 مثقف عراقي في المهاجر صدرت في بغداد السنة الفائتة ، تصنّفهم ما بين "مرتدين خونة"، وما بين "متذبذبين" مدانين، علما بأنه ليس لمعظم هؤلاء نشاط سياسي يذكر.آمل أن يكون ادوارد سعيد&قد كتب شيئا في التضامن مع هؤلاء الضحايا، ولكن لم يتسن لي الاطلاع عليه! وقد نشرت خلال السنوات الماضية عشرات من التقارير الدولية عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان العراقي، وآخرها التقرير البريطاني الرسمي،الذي يهاجمه البعض لكونه جاء "متأخرا" [أن يصل القطار خير من أن لا يصل!]. أما منظمة العفو الدولية التي استند إليها التقرير البريطاني[من بين مصادر كثيرة أخرى] فإنها اليوم تحتج لنشر التقرير المذكور بحجة أن غرض النشر سياسي. فليكن! ولكن أليست تفاصيله صحيحة؟ وهل الموقف الصحيح هو الاعتراض والنقد والاتهام أم التزام جانب الشعب العراقي وقواه الوطنية ومثقفيه بإدانة النظام العراقي والمطالبة برحيله؟ وماذا ترى يقول ادورد سعيد وهو يعيد قراءة ما يعرفه جيدا عن الجحيم الذي يعيشه العراقيون تحت قبضة نظام شمولي دموي لا يرحم ولا يحترم ميثاقا دوليا؟! وهل ليس مطلوبا منا جميعا الاتعاظ بالتجارب الشخصية والوطنية والعربية والدولية، لإعادة النظر الجادة في المنطلقات الفكرية وبعض القناعات السياسية القديمة ؟ وهل لا يحق مطالبة أمثاله الدكتور ومن بـ"وزنه" بأن يكرسوا عقولهم وأقلامهم لفضح الاستبدادين السياسي والديني، المدرّعين بالإيديولوجيات الشمولية وواجب الدفاع المستمر عن المعنى الحقيقي للوطنية والوطن باعتبار المواطن هو عماد الوطن وإن حريته وكرامته أسمى من تدنيسهما تحت أي قناع كان، سواء الحلم بقيام جنة شيوعية أو وحدوية على الأرض، أو بخطف مقاعد مريحة في جنة السماء، والتمتع ما شاء "المجاهد "الأكرم بالجواري و"الغلمان المولدين" عن طريق القتل والذبح والتدمير؟! أليس خطر الظلامية الدموية على العالمين العربي والإسلامي هو الخطر الأكبر والحقيقي اليوم ـ بعيدا عن الحكايات العتيقة والأسطوانات المشروخة؟ فما دور&ادوارد سعيد&في جهد التنوير بهذا الخطر الأكبر، وسبل معالجة ما يتركه من أوبئة فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية ومن تخريب للمجتمع؟!