جاسم المطير
&
بدأ مؤتمر المعارضة العراقية بلندن وأنتهى بكثير من الكلام والنقد والعتاب بسبب قصور استخدام واستيعاب&الديمقراطية ومفرداتها :
الحرية ..
حرية الرأي والتعبير..
أحترام الرأي الآخر ..
التعددية السياسية ..
الثوابت الوطنية ..
وغيرها من المفردات التي فرضت نفسها على المؤتمر فأصبحت موضع الجدل وموضع أختلاف القوى المشاركة فيه .
كان عدد غير قليل من الخطباء والمتكلمين قد رفعوا "درجة حرارة " الخلاف خلال أيام المؤتمر، بينما سارع آخرون الى تخفيضها . كما لم يخلو المؤتمر من بعض السياقات "العصبية الحادة" التي وصل بعضها الى درجة التناقض والى حد أمتحان "وطنية" هذا او ذاك من المؤتمرين .
كان كل شيئ يبدو في عيانه "غريباً" على الوسط العراقي المعارض حيث أختلط الكثير من الأوراق والمفاهيم والمواقف ليس فقط بين المتناقشين داخل المؤتمر، إنما بين الكتاب العراقيين ، بعد انتهاء المؤتمر أيضاً .
في الحقيقة أننا إذا أستثنينا "بعض" الكتابات والتحليلات والاقوال "الغوغائية" وبعض آراء انطلقت من عواطف مجردة في تقييم النتائج، فأننا نرى أن المحور الأساسي في نقاشات المؤتمر كان هدفه البحث عن "المشتركات" في الرؤى المختلفة لتحقيق مواقف "مشتركة " إزاء بعضها . وليسمح لي القاريء الكريم باستخدام مصطلح "المشتركات" بدل مصطلح "الثوابت" لأنني أرى في "الثوابت" عنصراً من عناصر جمود ٍ معرقلة ٍ لتغيير الرؤى في عصر يتميز بتغيير كل شيء في حياة الإنسان ورؤاه في زمن يتسارع في كل وقت .
جميع الذين حضروا المؤتمر كانوا يمثلون، بهذا القدر أو ذاك، بهذه الصورة او تلك، جزءاً من الثقافة السياسية الوطنية العراقية، حتى وإن كان غالبية المشاركين في المؤتمر جاءوا من خارج المجتمع العراقي الحالي والقليل جاءوا من داخله .
من المعروف أن الثقافة العراقية ، المنتمية واللامنتمية ، الحزبية والمستقلة ، هي ثقافة لها جذور ممتدة الى رؤى ونظريات سياسية فعلت فعلها المباشر وغير المباشر في تكوين& وعي المجتمع وعقله طيلة عشرات السنين& .
مثلاً كان هناك أختلاف في مفهوم الحرية والديمقراطية في منطلقات ثقافة الأسلاميين ، وهناك أختلاف في منطلقات الثقافة القومية الكردية ،& وفي منطلقات الثقافة القومية العربية& ،وهناك اختلاف في منطلقات الثقافة الماركسية، وهناك أختلاف في منطلقات الثقافة الليبرالية . وغير ذلك من الانساق الفكرية والدينية والمذهبية والقومية، التي كان& كل واحد من ممثليها& يفهم الحرية من خلال وعيه الخاص لمكوناتها وطبيعة ممارساتها .
كل هذا هو ناتج طبيعي من نواتج النضال الفكري داخل المجتمع يحدده أساسا ، المنهج الفكري المعتمد لدى هذا الفريق أو ذاك بما يتعلق والجذر " الديني " أو الجذر "الوضع" لذلك المنهج، وهو بكل صراعاته& واختلافاته ، جزء من "الجدل" الذي ميز عقل الانسان منذ أول أختلاف أو خلاف بشأن "تفاحة آدم" وحتى هذه الساعة .
وفي مختلف العصور ترادف "الجدل" الفكري مع حركة التقدم الانساني، فلولا الأختلاف لما حصل التقدم، ولولا الخلاف لا يمكن للأنسان أن يعرف الخطأ من الصواب ولا الصالح من الطالح، ولا معرفة من هو الأصلح .
صحيح أن مؤتمر لندن ما استطاع أن يخلص نفسه من تخبط ٍ وبلبلة ٍ ما زالت بقاياها موجودة حتى الآن، ولربما تنتقل الى كردستان في اجتماعات لجنة التنسيق والمتابعة إذا لم يتم الاتجاه الفعلي نحو استخدام الوسائل الديمقراطية كافة في عمل هذه اللجنة أبتداء من نظام إدارة الجلسات الحرة وإطلاق حرية التعبير، واستخدام وسيلة الانتخابات في كل لجنة أو خطوة& في المتابعة والتنسيق.
الآن .. هناك مهام كثيرة يقع عبئها على هذه اللجنة، منها مهام تصحيحية لأخطاء جرت في مؤتمر لندن، ومنها مهام تجديدية تفرضها مهمات المرحلة المقبلة.
فأولاً: ضرورة تخلي هذه اللجنة عن سياسة "الأقصاء" التي مورست بحق العديد من الاحزاب والقوى الوطنية والشخصيات العراقية المناضلة. أول خطوة بهذا الصدد العودة الى تفعيل دور الحزبين المناضلين الكبيرين ، الحزب الشيوعي وحزب الدعوة& وضمهما فوراً بروح المسؤولية الوطنية الى الصف القيادي الأول، ومنح المثقفين الوطنيين من المستقلين ومن عناصر الأحزاب الصغيرة مكانتها وفرصتها في النضال.
ثانياً: تخلي بعض القوى المهيمنة، كالمجلس الاعلى والحزبين الكرديين ، عن سياسة "فرض"& المواقف والسياسات والأوامر بأسلوب لاديمقراطي ، كما حصل من بعض القادة الستة في فرض عناصر من "قيادات" النظام الدكتاتوري& ليتبوأوا مراكز في& "قيادات" المعارضة. وإذا كان صحيحاً وجهة نظر مسعود البارزاني في العفو عن تلك القيادات بقصد نشر وعي التسامح والصلح الوطني فلا يعني ذلك صواب وجودهم في الهيئات القيادية المعارضة خاصة وأنهم لا يتميزون بميزات سياسية أو ثقافية ولا حتى تنظيمية عن آلاف العراقيين في المنفى، مما يقتضي الجرأة في التخلص من هذه المظاهر .
ثالثاً: أن العالم كله يتغير بالانتخابات. الحكومات تتغير بالانتخابات. المنظمات تتغير بالانتخابات. القوانين تتغير بالانتخابات .. ألخ فلماذا تبتعد المعارضة العراقية عن ممارسة الأنتخابات للوصول الى حلول وسطية تصويتية لمختلف نقاط الصراع .. أسوة بأبسط تقاليد المجتمع المدني المتركزة في الثقافة الانسانية منذ قرنين من الزمان .
ولنا من مثال الانتخابات التركية ــ وهي ليست النموذج الأحسن ــ كيف تفوز القوى الاسلامية في مجتمع علماني ، مركز القوة فيه بيد مجلس الامن القومي الذي يسيطر عليه كبار القادة العسكريين .
رابعاً: أن الثقافة الأسلامية ، أبتداء من ثقافة المجلس الأعلى للثورة الاسلامية& وأنتهاء بثقافة الأحزاب الاسلامية الصغيرة بحاجة الى تركيزها على الديمقراطية. فلا تعارض بين الديمقراطية والاسلام، لأن الدين الأسلامي قائم، أولاً وأخيراً، على مباديء القران الكريم، الذي لا يحتوي على مباديء دينية فقط، بل يتضمن العديد من الأفكار السياسية الأساسية ، ويتضمن قوانين العدالة والمجتمع المسالم، والحقوق المدنية وحتى يتضمن نظريات علمية. وكل ذلك لا يتعارض مع المباديء الديمقراطية الأساسية ، إذا ما نظر الي "المشتركات" بروح العصر المتغير ووفقاً لحاجات الانسان وكرامته، وعدم غياب ثقافة الحوار والمعارضة بما فيها ثقافة معارضة التقاليد غير المتحضرة لممارسات أسلاميين غير متحضرين، يستندون في ممارساتها الى روح القمع والارهاب والاستبداد .
خامساً: لقد أثبتت تجارب شعبنا أن تغيير شخصية الحاكم ليس هدفاً نهائياً وهو في كل المراحل خلال المائة سنة الاخيرة لم يغير شيئاً في حياة الناس وكرامتهم وحريتهم، لذلك فالهدف الاول في المرحلة الحالية يحتاج الى بلورة طرائق تفكير الانسان العراقي وتغيير مؤسسات الحكم وقوانينه ونظامه بما يحقق الديمقراطية. ولا يمكن ان يتحقق ذلك بدون التخلي عن روح المذهبية والاساليب الطائفية والتشددية القومية وغيرها من نتاج الماضي المتخلف. الطريق الوحيد هو أنتقال السلطة الى "العراقيين" المنتخبين بروح الهوية العراقية ونبذ& الأعتماد على أساليب تفرقة الهوية الشيعية والسنية والعربية والكردية والآشورية والتركمانية وغيرها حتى صارت تسمية أعضاء المؤتمر بنسيان المواطنة العراقية واعتماد المواطنة الطائفية الخاطئة والمفرقة والتي تمثل سياسة "فرق تسد" لكنها، هنا، لا تحقق السيادة للمفرّق بل العزلة التامة في نهاية المطاف.
ولا بد من أشارتي الى أن هذه الروح بكونها لا تمثل الواقعية الاجتماعية كما يدعون ، بل تمثل&& "العراقيين" المتواطئين مع انفسهم& ومع مصالحهم أو مع آليات التعصب الحزبي والطائفي، مثلما ساد في مؤتمر لندن معرقلاً ولادة رأي عام عراقي ديمقراطي يعكس حقيقة الوجود الداخلي لمجمل الرأي العام العراقي المتميز بالوعي واللاطائفية .
سادساً: من الغريب حقاً أن يتجاهل قادة المعارضة الستة وجاهة الرأي العام العراقي المتبلورة في ما يكتب في الصحف وفي مواقع الانترنيت بخصوص الكثير من ممارساتها غير الديمقراطية في المؤتمر وما قبله وما بعده مما يفسح المجال لنشوء حالة يأس عام من هذه القوى مستقبلاً كما يفسح المجال لهجومات نقدية غوغائية وغير واعية تسيء بالنتيجة الى روحية العمل الوطني المعارض كله.
أختصر القول فأقول: لا تغيير بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون أحترام الرأي الآخر وبدون& ممارسة انتخابية في استصدار القرار ..
بصرة لاهاي في 30/12/3002
&