عزيز الحاج
&
لا يعرف مشاكل العراق المتراكمة أكثر من العراقيين أنفسهم، لاسيما الذين لعبوا ولا يزالون يلعبون أدوارا في الحياة السياسية، والباحثون الأكاديميون المتعمقون.
لقد مر البلد خلال النصف الثاني من القرن الماضي بهزات سياسية واجتماعية كبيرة. وكان للصراعات بعد ثورة 14 تموز 58، ثم انتهاكات الانقلاب البعثي الدموي في 8 شباط 63 وما سفكه من دم، والنهج الذي اخذ به في التعامل مع خصومه، قتلا وتعذيبا حتى الموت وإذلالا، أن مهد لتسلط البعث مجددا عام 68. ومنذ تسلط صدام بوجه أخص تتالت الحروب وحملات القمع والتهجير والتعذيب والإبادة. وبلغت الانتهاكات منتهى البشاعة والفظاعة بعد حرب الكويت بالقمع الوحشي للانتفاضة وتواصل الاعتقال والقمع وابتكار أساليب جديدة من التنكيل والإذلال والترهيب، وتحول النظام تماما وبشكل كامل لنظام فردي عائلي شمولي زاد من خطره امتلاك أسلحة الدمار الشامل التي استعملها ضد الشعب والجيران.
إن ما يرثه العراقيون بعد سقوط صدام هو ما لا يقدر على تحمل أعبائه به الشعب وحده، خاصة اعادة البناء والرقابة الخارجية الدولية على الانتخابات القادمة ومحاكمة كبار المجرمين، وألا استئصال المؤسسات القمعية الأخطبوطية. إنها معضلات كبرى تتطلب مساعدة الدولتين اللتين أرسلتا للعراق أبناءها وبناتها.ونحتاج للأمم المتحدة لا لتلعب دورا كبيرا في قضية إدارة البلد كما يطالب بوتين وشيراك وبعض قوى المعارضة، وإنما في نواحي العون الإنساني والمجال الفني.
&وفضلا عن التناقضات والخلافات السياسية حتى بين المعارضين أنفسهم، فإن هناك مشاكل اجتماعية وفكرية حادة، لاسيما انتشارا لتزمت الديني منذ سنوات لأسباب ليس هنا مجال تحليلها، ولكن ليس من أقلها تأثيرا دور النظام نفسه في ما سماها بالحملة الإيمانية، وتسلل الدعاية التعصبية المغلقة من دول في الجوار، وتسرب عناصر الإرهاب الإسلامي، في كردستان بالأخص. ومن يعرف تاريخ العراق الحديث فلابد من أن يشخص بروز ظاهرة الاحزاب الإسلامية في العقد الاخير بشقيها السني والشيعي. فالمجتمع العراقي والحياة السياسية العراقية لم يعرفا دورا سياسيا كبيرا للتيارات الإسلامية إلى عقود قريبة جدا. وحتى في كردستان، التي لم تعرف غير تكايا الصوفية ومدارسها ذات التأثير الديني فقط والاجتماعي، فإن الإقليم الكردستاني لم يعرف تنظيمات دينية سياسية تسعى للسلطة باسم الدين إلا منذ بداية التسعينات. وبينما كان التيارالشيوعي هو الثالث نفوذا شعبيا في كردستان، فقد اخذ مكانه التيار الإسلامي بمختلف تنويعاته وتنظيماته. وليس من الصدف أن نسمع الناس في مدينة الثورة يوم تحطيم تمثال صدام يعبرون عن ثورتهم بهتافات دينية مثل" لا إله إلا الله صدام عدو الله " .أما التجمع الصغير المضاد في يوم الجمعة الماضية، فقد رد بهتاف "بوش عدو الله " وبشعار "الجمهورية الإسلامية. وكان واضحا من شعارات ذلك التجمع الصغير عددا والصاخب المنفعل مرارته وغضبه لسقوط صدام بالقوة الأمريكية، والتعبير عن حنينه للنظام بشعار " بالدم بالروح نفديك يا عراق" وهو شعار متحايل مراوغ يريد التذكير بشعار "بالدم بالروح نفديك يا صدام."
إن الوضع العراقي لا يزال شديد الدقة أمنيا، لان مفاصل المخابرات ومنظمات البعث لم تذهب كله،ا ولا يزال بعض فلول الإرهابيين العرب وخطرهم الأمني الذي يطال المدنيين أيضا. والأخطر هو أن العقلية الصدامية لا تزال شديدة الرسوخ حتى في صفوف بعض قوى المعارضة ومثقفيها. فالصدامية هي الوباء الأكبر الذي تجب مكافحته فكريا واجتماعيا وسياسيا وقانونيا وليس بالعنف. ومما يحسن ذكره، انه برغم عمليات النهب التي اندفعت عفويا ضد القصور الرسمية والوزارات، ثم تطورت حين قادتها قطعان المجرمين الذين أطلق صدام سراحهم قبل شهور، فإننا لم نشهد عمليات تصفيات دموية وصراعات دينية أو مذهبية في الشارع، وهذه حقيقة هامة جدا وللغاية وتدعو لتفاؤل غير قليل. غير أن ما وقع في النجف من اغتيال الشخصية الدينية المتفتحة المرموقة، الفقيد عبد المجيد الخوئي، ثم ما وقع للعلامة السيساني من تهديد بالسلاح، يبعث على قلق شديد. والمسموع هو أن هذه المجموعة من المسلحين الدينيين هي التي حمت فدائيي صدام داخل الحرم الحيدري، كما أن للبعث تنظيماته القوية والمسلحة المدينة. ثم يأتي اليوم خبر اغتيال الخزرجي. إن هذه حوادث خطيرة تبعث على كثير من القلق. إن لغة الاغتيالات والرصاص هي ممارسة صدامية، فالصدامية هي التعامل مع الآخر بالمسدس والتيزاب، هي رفض الرأي الآخر، وشهوة التسلط والتحكم والاستفراد بالعنف.
&في مثل هذه الظروف ينعقد اجتماع الناصرية الذي لا أعرف من سيحضره. وكان إعلان الجلبي عن عدم مشاركته شخصيا مع مشاركة ممثل عنه يدعو للتساؤل: فهل هي خطوة ذكية لإفشال الحملة الظالمة على المعارضة عن طريق التركيز على شخصه، وتأكيده العلني مجددا على كونه ليس طالب رئاسة أو منصب قيادي في الحكومة العراقية الانتقالية ؟
وأرى أن من الضروري إيلاء المشكلة الأمنية مركزا بارزا في جدول أعمال المؤتمر إذ لا يمكن انتقال إلى حياة سياسية اعتيادية في غياب الأمن، ولا يمكن تطمين ضروريات الحياة اليومية لأبناء الشعب بلا سلامتهم وصيانة ممتلكاتهم الشخصية من النهب والعدوان. ومن السذاجة أو المزايدة السياسيتين أن نطلب من قوات التحاف الرحيل بسرعة كما يطالب بعض زعماء المعارضة، وخصوصا بين الإسلاميين. فأية قوة تملك المعارضة اليوم لرد أعمال التخريب والتفجير من الارهابيين العرب وبقايا الفدائيين والمستميتين من الحرس الجمهوري الذين لبسوا ثيابا مدنية؟ ناهيكم عن المختفين من كبار المجرمين؟ وأية قوة عراقية قادرة اليوم على أن تكون صمام أمان لاحتمالات انفجار الصراعات السياسية ؟
&ينبغي أن نرفض الاستعجال والارتجال وتسجيل المواقف، فضلا عن أن الوجود العسكري للتحالف أمر واقع لا بد من التعاطي معه بمرونة لخلق أفضل ظروف تشكيل حكومة عراقية مؤقتة تهئ للانتقال التدريجي والصبور نحو الديمقراطية البرلمانية. ومثل هذه الحكومة يمكن أن تتعايش مؤقتا مع الوجود العسكري للتحالف حتى تأمن مؤامرات عناصر النظام الذين لا تزال في حوزتهم إمكانات بشرية وفنية ومالية كبيرة. ولابد من الشروع الفوري بتأسيس قوات بوليس من المدربين العراقيين الذين هم اليوم في الناصرية ومن العناصر غير المجرمة في سلك الشرطة للنظام.
&إننا لا ينبغي أن نشعر بالحرج للإعلان عن تقديرنا للدور الفاصل لقوات التحالف في إزاحة نظام كانت قوى شعبنا عاجزة عن الخلاص منه لوحدها. ولا ينبغي أن نشكك في التعهدات الأمريكية والبريطانية الرسمية المتكررة من ان وجود قواتهم وقتي وليس للاحتلال الذي سيكون عبئا ثقيلا عليهم لا يتحمله لا جنودهم ولا مواطنوهم ولا ميزانيتهم، والذي لا حاجة لهم به أصلا. ولا ينبغي التشكيك في إعلانهم عن الحرص على مساعدة العراقيين على إدارة أنفسهم بأنفسهم وبحرية تامة. وعلى كل فلكل حادث حديث حيث أن الحريات التي سوف تطلق ستكون أدواتنا للاعتراض والاحتجاج والعمل عندما يخونون العهود، وهو ما لا أتوقعه شخصيا . ومن المهم والطريف أيضا كون الإسلاميين المتعصبين، الذين هتفوا ضد بوش أمام جنوده المسيطرة على بغداد صرخوا بملء الأفواه دون خشية من قطع الألسن أو
&الرقاب . كما أن تجمعات أخرى عفوية في بغداد تحتج على فلتان الأمن حتى أمس دليل على أن الشعب العراقي شرع يدرك انه اليوم يستطيع التعبير عن احتجاجاته وشكاواه في الشارع دون رعب من عقاب.
&ومما يقلقني ما قيل من أن الدعوة للمؤتمر جاءت أصلا باسم مجلس للعشائر. وأخشى ان يفهم الأمريكان والإنجليز من "التمثيل الواسع" إعطاء أدوار كبية في الإدارة السياسية لرؤساء العشائر. واعلم أن في قوى المعارضة تجمعا باسم مجلس العشائر، كما أقدر وجوب التعامل إيجابيا مع زعماء العشائر الذين لم يتعاونوا مع النظام تعاونا فعالا، لاسيما عشائر ساعدت على تحرير مدن كبيرة كالموصل. وكان النظام قد أعاد في العقد الأخير هيمنة زعماء العشائر بعد ان راح يتدخل في زعاماتهم لتقديم من ينصاعون للمشاركة في قمع الشعب. غير أن المسالة هنا هي كوننا نسعى لإدارة مدنية ديمقراطية وإن كانت مؤقتة، تستفيد طبعا من نفوذ بعض العشائر ولكن لا تعطى لزعمائها أدوارا رئيسة في الإدارة العراقية القادمة.
&إن الهدف الكبير الذي ننشده في نهاية المرحلة الانتقالية هو قيام نظام ديمقراطي، برلماني، علماني، مع الاعتراف بالفدرالية الكردستانية، الأخذ بأوسع لا مركزية على صعيد المحافظات والمناطق. وهنا يمكن للعشائر في بعض المنطلق لعب دور إيجابي هام.
&إن مهمة المؤتمر هي أكثر من صعبة، لكنه ينجح لو تم الاتفاق [على الأقل] على نقاط أساسية تمهد لعقد مؤتمر أوسع في بغداد وفي أقرب وقت د يشارك فيه، عدا الأحزاب والتجمعات السياسية المعارضة، إخصائيون مرموقون، وشخصيات سياسية وطنية مستقلة وعناصر نظيفة من خبراء كانوا داخل النظام، وشخصيات قديرة في الأطراف من التي لم تتلوث بالجريمة.
&إن الأنظار تتجه بأمل وفارغ صبر للمؤتمرين. فليكن حليفهم النجاح لخدمة شعبنا الذي ظل من نكبة إلى أخرى وهو يتطلع لعهد جديد من الحرية والكرامة والتقدم.













التعليقات