إيلاف - القاهرة من ياسر عبد الحافظ: لم يكن لأحد إطلاقا أن يتوقع ما حدث على المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية. كل شئ كان معدا لاحتفال، لعرس ثقافى إذا استخدمنا التعبير الذى يحلو للمسئولين بوزارة الثقافة المصرية استخدامه. غير أن صنع الله إبراهيم كان له رأى آخر فقد فضل أن يفجر قنبلة سياسية وثقافية فى وجه فاروق حسنى وزير الثقافة ، وجابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة.
ما أن أعلن الروائى السودانى الطيب صالح اسم صنع الله فائزا بجائزة الدورة الثانية لمؤتمر الرواية حتى تعالى التصفيق حادا فى القاعة مستمرا مع صعود الروائى الذى اشتهر برفضه الدائم للسلطة سواء فى أدبه أو مواقفه، لم يكن صنع الله فرحا..لم يهتم بأن يرتدى زيا يناسب صورته كفائز.. حركته فى الصعود والسير على المسرح كانت متثاقلة وكأنه يتجه إلى طريق حاول كثيرا تفاديه...وعندما وقف أمام الميكروفون ليلقى كلمته بعد أن التقط له المصورون بعض الكادرات المختلفة وهو وسط الوزير والأمين العام وأعضاء لجنة التحكيم، وضع صنع الله التمثال والشهادة بازدراء على المنصة وبدأ فى إلقاء كلمته. قال: الحقيقة إني لا أتمتع بقدرة على الارتجال مثل التى يملكها د. جابر عصفور ولهذا سطرت بضع كلمات. وهنا تصاعد هتاف من القاعة ( يعنى كنت عارف!) غير أنه مضى يقول: لم أتوقع هذا التكريم ولم أسع للحصول عليه وكان يستحقها أكثر منى أمثال الراحلين : غالب هلسا من الأردن، ومطيع دماج من اليمن، وعبد العزيز مشرى من السعودية، وهانى الراهب السورى. ومن الموجودين بيننا : الطاهر وطار، إبراهيم الكونى، أهداف سويف ، محمد البساطى، جمال الغيطانى، خيرى شلبى، ادوار الخراط، خير ى الذهبى ..وغيرهم كثيرون.
كان كلماته هادئة، كلمات رجل متواضع من اؤلئك الذين تحبهم وتفضلهم السلطة فى البلاد الموصومة بالتخلف. ومن المؤكد أن نصف من بالقاعة تقريبا كانوا فى حالة انتظار لبقية كلمته فصنع الله ليس إطلاقا هكذا، من يعرفونه جيدا يقولون أنه خير تجسيد لما افتتح به أمل دنقل قصيدته الشهيرة كلمات اسبارتكوس الأخيرة ( من قال لا لم يمت/ وظل روحا أبدية الألم)
شكر صنع الله اللجنة مختصا محمود أمين العالم الذى زامله فى السجن وتعلم منه ومن رفاقه قيم العدالة كما قال، وأضاف إن هذا الاختيار يثبت أن العمل الجيد يجد التقدير المناسب دون الحاجة للعلاقات أو مداهنة السلطة. ثم انتقل إلى الحديث عن الإبداع الذى لا يمكنه تجاهل ما يحدث حوله وما تتعرض له الأمة العربية من عربدة أمريكية والتواطؤ المزرى للحكومات العربية فى كل مكان.
بدأ صوت صنع الله يرتفع ويتهدج بينما التصفيق يعلو ويستمر مصاحبا لكلمته كلها تقريبا: فى هذه اللحظة تجتاح اسرائيل ما تبقى من الأراضى الفلسطينية، والحكومات العربية تستقبل المسئولين الإسرائيليين، وعلى بعد خطوات يقيم السفير الاسرائيلى فى طمأنينة ، ويحتل السفير الأمريكى حيا بأكمله ( منذ أحداث 11 سبتمبر تغلق قوات الأمن حى جاردن سيتى بالكامل حيث السفارة الأمريكية).
ربما كانت تلك هى أسوأ اللحظات التى عاشها فاروق حسنى فى حياته فلا يمكنه أن يعرف لأين سيمضى صنع الله إبراهيم وهو لا يستطيع أن يتدخل أمام كل هذا الجمهور وعدسات كاميرات الوكالات الأجنبية. الحائز على جائزة المؤتمر والملقاة أمامه بإهمال بدأ يدخل إلى مناطق بالغة الحساسية: حجم الكارثة المحيطة بنا رهيب، التهديد على حدودنا الشرقية.
قال أن سياسة الحكومة الخارجية عاجزة، ليس لدينا سينما أو مسرح أو بحث علمى، أو صحة ،أو عدل، ومن يعترض منا يتعرض للامتهان. انتزعت القلة المستغلة منا الروح، فهل يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه، لن أطالبكم بشئ كل ما أستطيعه أن اشكر مرة أخرى أساتذتي الاجلاء لاختيارى،و أعلن اعتذارى عن عدم قبولها لأنها صادرة من حكومة تفقد مصداقية منحها.
انتابت القاعة حالة هستيرية فلم يتوقف التصفيق والهتاف بكلمة " الله" وبصعوبة بالغة استطاع فاروق حسنى أن يسمع الجمهور عدة كلمات حاول بها تسجيل موقف سريع سيعيد ترديده فى الأيام القادمة بأشكال أخرى: فى الواقع كلمات الفائز وسام على صدر النظام الذى يسمح بهذا القدر من الحرية، واقدم اعتذارى للجنة الموقرة عن المجهود الذى بذلوه فى مشروع لا طائل منه.
كانت الاحتفال بإعلان اسم الفائز قد بدأ فى السابعة من مساء أمس الأربعاء بكلمة ألقاها جابر عصفور والتى لفتت انتباه البعض لإشارته إلى الحوار الراقى الذى تم بين المشاركين فى أعمال الملتقى على عكس ما يحدث فى الساحة الثقافية!
إشارة عصفور هذه& لم تكن تخلو من دلالة فالصراع بين وزارة الثقافة المصرية من جهة وبين بعض المثقفين من جهة أخرى كاد أن يحسم لصالح الوزارة ، ففاروق حسنى يحتفل بإنجازاته بعد 16 سنة هى عمر وزارته وقبول صنع الله لهذه الجائزة وهو من المعارضين الكبار يعنى إعلانا بانتصار كامل.
جابر عصفور دعا الوزير إلى الصعود لخشبة& المسرح، ثم تلا أسماء لجنة التحكيم وهم: د. سيزا قاسم( مصر)، د. عبدالله الغذامى( السعودية)،د.فريال غزول( العراق)، د.فيصل دراج( فلسطين)، د. محمد برادة( المغرب)، د. محمد شاهين( الأردن)، محمود أمين العالم( مصر) وأخيرا الطيب صالح( السودان) رئيس اللجنة.
الطيب صالح وهو الثورى القديم تحدث عن الإبداع الروائى العربى وتطوره للحد الذى اغرى الحكام وأصحاب السلطان بممارسته،ثم تحدث عن صعوبة اختيار اللجنة للفائز لتميز انتاج الروائيين العرب، غير أنه قال أن خفف العبء على اعضاء اللجنة هو أن الأول لن يكون الأول فى امتحان فيه الثانى والثالث وإنما هو واحد من العدول المتماثلين وأنها ليست المرة الأخيرة التى تمنح فيها وسوف ينالها فى الدورات القادمة الآخرون ( أصبح من المشكوك فيه الآن استمرار الجائزة)
الطيب قال أن اللجنة اختارت رائدا من رواد التجريب فى الرواية العربية ، له لغة خاصة يقتصد فيها إلى درجة التقشف تخدم كتابته التى كرسها لفضح القسوة والظلم وجفاف ينابيع الرحمة فى قلوب البشر، نذر نفسه للفن الروائى ولم يحجم عن دفع الثمن الباهظ الذى يتقاضاه حراس معبد الفن وهو كما تعلمون معبد مقدس لكنه أيضا معبد ملعون.
بعد نهاية الاحتفال الذى تحول ليوم لن ينساه أحد، بدأت حركة محمومة من المراسلين لبث تلك القنبلة، كان الطعام الفاخر بالخارج لا يجد من يقبل عليه، اختفى صنع الله برفقة زوجته وبعض أصدقائه، وزير الثقافة وقف مع عدد من الصحفيين يقول لهم : هو لم يحرجنا نحن بل أحرج اللجنة التى اختارته، شاكر عبد الحميد الذى اختاره فاروق حسنى منذ شهرين ليكون نائبا لأكاديمية الفنون يتدخل ليسأل ولماذا قبل جائزة العويس إذن؟
الاستعداد لامتصاص الصدمة بدأ مباشرة، إنما لا أحد يعرف ما الذى يمكنه أن يحدث فى الأيام القادمة.. فقد ألقى صنع الله إبراهيم حجرا ضخما فى مياه راكدة منذ سنين..
&