سعد صلاح خالص
&

&
لم يكن اكثر الحالمين بعودة صدام حسين الى السلطة في العراق تشاؤما يتوقع ما شهده العالم اجمع على شاشات التلفزيون يوم أمس.. فارس الأمة، و بطل التحرير القومي، و بطل أم المعارك، و المربي الأكبر، و حادي الأمة في طريقها الى المجد، عز العرب و باني مجد الأمة، و حفيد صلاح الدين و نبوخذ نصر، و فارس المقاومة، و بطل القادسية، ذو الحزام الناسف الذي لا يموت الا واقفا، ذو الوجه القدسي، ذو التسعة و تسعين إسما، معتقلا يقلب نائب عريف أمريكي شعره و أسنانه.
وجدوه في حفرة تربأ حتى ضواري الارض عن المقام بها.. لم يطلق رصاصة، بل و "كان متعاونا و مستسلما لقدره" وفق توصيف الجنرال الأميركي..
كل هذا الوهم الذي انفقت ملايين العراق في بنائه عبر عقود الموت الثلاثة، كل هذا الفكر الغيبي، كل هذا السراب، كل هذا العفن الذي جندت جيوش الاعلام العربي لتسويقه، تبخر في لحظات كما تبخر سابقا في كارثة حزيران 67 و كارثة بيروت 82 و كارثة الكويت 91 و كوارث عديدة قبلها و بعدها و بينها..
لم يكن رحيل الدكتاتور ما تكرس يوم أمس، و انما سقوط منظومة فكر و منظومة ثقافة قامت و تغذت و نشأت على احتقار الأنسان و على اساطير مدرسية قميئة عن التفوق و الانتخاب و القادة التاريخيين المصطفين الهيا و قدريا، تكرست بالحديد و النار و سطوة المخابرات.. ثقافة لم تخاطب عقل و وجدان الانسان، بل قامت على مخاطبه غرائزه العنصرية و الافتراسية. ثقافة لم تحقق انتصارا واحدا في تاريخ حكمها الا على مساكين شعوبها.
ستقوم هذه الثقافة لترفس رفسات النزع الاخير، و ستتكلم عن مقاومة بطولية ابداها بطل الأمة، و عن قنابل اشعائية تبعث الشلل اطلقها الاميركيون، و عن مؤامرة ما، و عن خيانة، لأن البطل المزعوم الذي لا يهزم لا يسقط الا بخيانة، كما لم يسقط النظام الا بخيانة، و الا اين ذهبت "الخرزة السحرية" التي تحميه، و ملوك الجان الذين في خدمته، و الملايين الثلاثة من الفدائيين، و الملايين السبعة من جيش القدس، و نبوءات المشعوذين، و قئ المحللين السياسيين على الفضائيات و الورقيات؟ و ستروج عبر تكياتها اساطير عن ان المعتقل "شبه لهم" لأن الاميركيين الاغبياء لا يمكنهم اعتقال اذكى و اشجع قائد عربي منذ الرسول(ص).
انها ثقافة الاساطير و الاوهام، ثقافة الملاحم و الفتن و الزار، ثقافة سعت منذ مولدها لوأد الفردية و الحرية، ثقافة "كلنا صدام حسين"، ثقافة "كل العراقيين بعثيين و ان لم ينتموا"، ثقافة بالروح بالدم، ثقافة من المحيط الهادر الى الخليج الثائر، ثقافة اذابة الذات في المجموع ليكون طقس القتل جماعيا و الانتحار جماعيا.. ثقافة لم تشارك شعوبها يوما حلمها بلقمة نظيفة و سكن ملائم و دواء رخيص، ثقافة ترى الرجال جنودا و النساء بقرات ترفد جيوش الهزائم بمزيد من القتلى، ثقافة نبؤات الانتصار بالسيف على الكومبيوتر، ثقافة "كلنا مشروع شهادة.."
و اخيرا تحاول هذه الثقافة التبرؤ من "البطل"، فتختلق بيانات وهمية عن مقاومة لا علاقة لها به، لانه "قد ارتكب بعض الأخطاء" (مثل ابادة الاكراد بالغازات السامة و قبر الالوف من ابناء الوطن جماعيا). و من يقرأ بيانات ما يسمى بالمقاومة التي توزع في العالم العربي عبر ما تبقى من دكاكين البعث، و هي بالمناسبة غير ما يوزع على الانترنت و في منافي الغرب بعد تشذيبها، يرى بلا جهد طبيعة هذه المقاومة و منفذيها.. فما يقرأه المرء في الغرب بأسم المقاومة العراقية، يقرأه في بلاد العرب باسم سرايا الفاروق و كتائب الامن القومي و جيش القدس و الحرس الجمهوري و الحرس الخاص و ما الى ذلك من تلك التسميات التي تثير الغثيان في نفس العراقي و تثير مزيد من الوهم في نفوس العرب المخدرين بثقافة الوهم.. و لا يكاد بيان يخلو من ذكر "القائد المجاهد" و هو ما يتم حذفه عند نشر تلك البيانات في الغرب لاعتبارات سياسية.. كما لا يخلو الأمر دائما من التبشير بالعودة المظفرة للقائد و الاقتصاص من الخونة.
كما ان طبيعة عمليات هذه المقاومة تكشف عمن خلفها، كتفجير الاحياء المدنية و الاسواق و قتل المدنيين الذي لا يحتلون في هذا الفكر اكثر من منزلة "مشاريع الشهادة"، فان "استشهدوا في حروب القائد" فبها، و ان نجوا فليستشهدوا فداء لعودته.
&سقطت اذن اسطورة اخرى من اساطير فرسان عصر الوهم، حلم الكثيرون بأن تقاتل و تقتل أو تنتحر على أقل تقدير، اذ ان القتال بفروسية و الموت استشهادا احدى مقومات ابطال الوهم.. و لكنها خذلتهم، لانها اسطورة قائمة على بطولات مزيفة و تواريخ مموهة و معارك خاسرة..
لم تنجح هذه الفاشية العرجاء حتى في انتاج نموذج يقترب من ادولف هتلر، الذي فضل ابتلاع رصاصة عن مهانة المثول في قفص امام شعبه بعد ان يعبث الاجانب بشعره وفمه..
فليتعلم جميع فرسان الوهم هذا الدرس، و ليشرع الجميع ببناء عراق جديد قائم على ثقافة الواقع و المصلحة و الحقوق الانسانية، و كفانا قيئا.
&