صلاح هاشم من باريس: من اهم المعارض المقامة حاليا في باريس معرض"قانون حمورابي" CODE DE HAMMURABI المقام في متحف اللوفر العريق وفي صالة جديدة أعدت لهذا الغرض، تابعة لقسم الآثار الشرقية، والمفتوح حتي الثاني من فبراير 2004، ويعرض قطعة "قانون حمورابي" التي تعتبر أهم قطعة أثرية في آثار الامبراطورية التي امتدت الي بلاد فارس"ايران" واتخذت "بابل" في العراق عاصمة لها، وهي عبارة عن مسلة ضخمة منحوتة الرأس، من حجر البازلت الاسود، تتخللها عروق بيضاء، حفرت عليها بالكتابة المسمارية282 مادة، تمثل بنود ذلك القانون..
وكانت هذه المسلة عادت الي مجموعة آثار حضارة العراق القديمة، حضارة مابين النهرين "دجلة والفرات"، وذلك في فترة الالفية الثانية قبل الميلاد، وتضم المجموعة نحو 500 قطعة بين منحوتة وتماثيل برونزية صغيرة وجداريات وفخاريات، واختام اسطوانية الشكل، والواح تحمل كتابات مسمارية، وتعرض مع القطعة المذكورة التي تنتصب في شموخ وسطها علي مساحة500 متر مربع في متحف اللوفر الكبير..
وكان وفد من العلماء برئاسة جاك دي مورجان،اكتشف مسلة الملك حمورابي (1792-1750 قبل الميلاد) في بلدة سوسة في ايران عام 1901، ونقلت الي باريس في العام التالي، وتتضمن نصا من نحو 3500 سطر، موزعة الي مربعات في 51 عامودا، وتقرأ من اليمين الي اليسار، وترجم النص الاب جان فانسان شيل، واستغرقت ترجمته 6 شهور، وخصصت نحو 300 مادة من القانون لتنظيم شؤؤن الاسرة من خطوبة وزواج وطلاق وخيانة وعلاقات جنسية محرمة واطفال وتبن، كما نصت علي قانون المعاملة بالمثل الذي يعاقب المذنب بالجرم الذي ارتكبه، اما قانون "العين بالعين والسن بالسن" الذي جاء في التوراة، فانه لاينطبق علي حقبة الملك حمورابي الذي عرف كمحارب باسل ودبلوماسي بارع وحاكم عادل واول مشرع عرفه التاريخ قديما..
الحق للقوة حيث كان المجتمع الانساني في عصور التاريخ الموغلة في القدم، وقبل ظهر "قانون" الملك حمورابي، مبنيا علي قاعدة "الحق للقوة"، ولم تكن الحرية الشخصية ولاغيرها من الحريات معروفة ولاثابتة، فالرق مثلا كان شيئا معروفا وطبيعياو وكانت شعوب كثيرة مستعبدة، وكان يتم الاسترقاق لمجرد وقوع شخص المدين تحت سلطة الدائن، وكانت المرأة مهينة وعرضة للوأد، والاعراف والتقاليد هي التي تحدد الحقوق والواجبات، ومع تطور البشرية وحاجة الناس الي معرفة الحقوق، وحين دونت الحقوق ووجدت سلطة لحمايتها، صارت تدعي قانونا او شريعة، وأقدم تشريع مدون ثابت عرفه البشر كان قانون حمورابي ذلك الملك الذي حكم امبراطورية " بابل" في القرن العشرين قبل الميلاد..
وكان العراقيون القدماء عرفوا العدل في شتي ميادين الحياة من خلال التطبيقات العملية اليومية والانظمة والتقنيات التي وضعها الملوك الاوائل في وادي الرافدين، ولكن لايعرف بالتحديد، وقبل اكتشاف "قانون حمورابي" وحقبته، التاريخ الذي تعود له بواكير ظهور الفكرة الاولي، ولعلها كانت مقتبسة كما يذكر الباحث العراقي د.جمال ذيبان في كتابه "تطور فكرة العدل في القوانين العراقية القديمة"- من المباديء العامة للقانون الطبيعي حيث لوحظ ظهورها في بعض الاساطير السومرية القديمةو ويعتبر الباحث ان "قانون حمورابي" مأثرة انسانية، وانجازا كبيرا ومصدرا مهما للتشريعات القانونية التي جاءت بعده، سواء كانت عراقية او غير عراقية.
&
مسئولية حاكم المدينة
حتي ان القوانين الحديثة، لم تصل في بعض جوانبها الي مبلغ التقدم، الذي امتازت به الاحكام الدقيقة والقيم الخلقية في ذلك القانون، مثل جزاء الابن الذي يعتدي علي ابيه، وحقوق الجار، ومسئولية حاكم المدينة عن كل جريمة سرقة تقع في مدينته، ما لم يتوصل الي الجناة الفاعلين، وكانت تلك الاحكام و القوانين بمثابة "مرآة "، تعكس صورة المجتمع العراقي آنذاك، الذي بلغ اعلي درجات المدنية، ووصلت فيه التجارة الي مرتبة متقدمة، فقد اعترفت تلك القوانين بالملكية الفردية، وحرية التعاقد، واقرت للمرأة أهلية كاملة، بالاضافة الي ان هذه القوانين،هدفت الي حماية الضعفاء والمستضعفين، من عبث وجور الاقوياء المتسلطين الظالمين وبطشهم، وضمنت حرية الافراد، وتكفلت بحماية امنهم..
وكان الملك حمورابي الحكيم(1792-1750 قبل الميلاد ) اتخذ من "بابل" عاصمة سياسية ودينية وثقافية لامبراطوريته ولم تكن من قبل سوي مدينة صغيرة، ووحد بين اجزاء الامبراطورية، بعد ان فتح مدن"الارسا" و"ماري" و"اشنونا و"آشور"، واشرف علي تنظيم ادارة مملكته في حضارة مابين النهرين، ووضع في اطار ذلك المشروع قانونه الشهير، الذي جعل منه اول مشرع في تاريخ الانسانية، وشخصية تاريخية خالدة فذة من اروع شخصيات الشرق القديم..

&رؤية تتواصل مع الحاضر
ان القيمة الاساسية التي تكمن في ذلك المعرض، حين تروح تتأمل القطع الاثرية لتلك الحضارة الشرقية العظيمة، حضارة مابين النهرين في العراق، وتتطلع الي صورة ذلك الملك العادل، الذي يقف في رأس المسلة خاشعا، وهو يتلقي من يد الاله" شاماش"SHAMASH اله العدل والقرص الشمسي بركاته، هي في كشف الغطاء عن حضارة، وضعت للبشرية قانونا يرسم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وكان أهل العراق هم أول من عرف القانون، وأول من قاموا بسنه وتدوينه، لكي يضمن للناس العدل، ويعيد اليهم حقوقهم المنهوبة، ولعله المعرض- ويالها من مفارقة- يشير بذلك من دون قصد الي، ويتواصل مع مايجري الآن في العراق، هذا العراق الذي شهد اكبر مهزلة لحقوق الانسان والاستهانة بها، خلال فترة حكم الديكتاتور صدام حسين الارهابي الدموي الذي قبض عليه حديثا وجعلت ذلك الملك حمورابي ربما، يتقلب طويلا من الغيظ والاستفار والالم والسخط في قبره، ولعله الآن يود ان يهب من رقدته، لكي يشارك العراقيين فرحتهم بالقبض علي صدام ومحاكمته، وممارسة حقوقهم المشروعة علي ارض وطنهم العراق، من اجل الحرية والاستقلال ومجتمع عراقي جديد، اكثر عدالة وانسانية وتسامحا..