&
كانت السنة 2003 سنة بداية التحولات الكبيرة في العالم العربي، تحولات ستغير هذا العالم كليا وستفوق في اهميتها، من ناحيتي العمق والاتساع، التغييرات التي شهدتها المنطقة بعد قيام دولة اسرائيل علي أرض فلسطين عام 1948.
للمرة الأولي في التاريخ العربي الحديث، يدخل جيش اجنبي عاصمة بلد عربي ويسقط النظام القائم في البلد ويعتقل رئيس النظام بعد اقامة نظام جديد ليس معروفا هل سيبقي العراق عربيا، أم انه سيتحول في المستقبل القريب الي بلد من نوع آخر ليس في استطاعة اي طرف التكهن بطبيعته، ذلك ان اسئلة كثيرة تدور حاليا في شأن الشكل الذي يتخذه البلد: هل تنجح الفيدرالية؟ هل تكون هناك سلطة مركزية قوية تقوم علي اساس ان البلد تتحكم به الأكثرية الشيعية التي شكل علي اساسها مجلس الحكم الانتقالي الذي انبثقت عنه الحكومة؟ هل يمكن حكم العراق بعد رحيل صدام وسقوط نظامه أم ان الرئيس العراقي المخلوع عمل طوال ثلاثة عقود علي ألا يكون هناك بلد قابل للحياة، وان عراق ما بعد صدام سيكون مفككا وسيبقي كذلك علي غرار ما حصل في الصومال؟ بكلام اوضح هل يتعرض العراق للتقسيم في غياب القدرة علي ابقائه تحت سلطة مركزية قوية، وفي ظل شكوك تحيط بفكرة الفيدرالية نظرا الي انه يصعب تحديد الاساس الذي ستقوم عليه؟ هل هي فيدرالية علي أساس مناطقي ام علي اساس مذهبي ام علي اساس فصل العرب عن الأكراد؟ وما هي المخاطر التي ستترتب علي اعتماد أحد الأسس الثلاثة للفيدرالية؟.
في كل الأحوال ان الحدث العراقي الذي سيتبين عاجلا ام اجلا انه في حجم ما شهدته المنطقة من تطورات بعد الحرب العالمية الثانية وتقسيم اراضي الامبراطورية العثمانية بما في ذلك قيام العراق الحديث في العام 1920. ان هذا الحدث يفرض علي دول المنطقة ان تأخذ في الاعتبار ان الكلام الأميركي عن اعادة رسم خريطة الشرق الأوسط كلام اكثر من جدي وان الوقت حان لتعيد كل دولة النظر في السياسات الخاطئة التي اعتمدتها في الماضي وتعد نفسها للمرحلة الجديدة. وليس سرا ان سياسة تأجيل الاصلاحات ليست واردة وان علي كل دولة تريد إعداد نفسها للمرحلة المقبلة القيام بالمتوجب عليها داخليا لتحصين اوضاعها في وجه العواصف التي ستهب علي الشرق الأوسط.
هناك دول فهمت معني الذي يدور في المنطقة حاليا وابعاده خصوصا ومعني ان الاميركيين اجتاحوا العراق وغيروا النظام والقوا القبض علي صدام حسين وعرضوه بطريقة مذلة للرجل من دون ان يكون لديهم تفويض قانوني من مجلس الأمن والأمم المتحدة. دخلوا العراق بحجة انهم متأكدون من امتلاكه اسلحة للدمار الشامل لكن البحث عن هذه الاسلحة التي بررت لهم شن حرب علي البلد ما زال مستمرا، وما زال مستمرا التأكيد ان هذه الأسلحة موجودة.
انه الظلم بعينه، وهو ظلم لا يبرر في أي شكل ما ارتكبه نظام صدام حسين في حق العراقيين اولا ثم في حق دول الجوار مثل الكويت وايران وسوريا. والخيار امام دول المنطقة هو بين الشكوي من الظلم الاميركي والتفرج علي ما يدور من جهة وبين التفاعل مع الاحداث والسعي الي التأثير فيها من جهة اخري، هناك دولة مثل اليمن مثلا ادركت ان ثمة حاجة الي اصلاح جامعة الدول العربية وطرحت مشروعا بديلا من الجامعة الحالية وسعت الي الترويج لعملية الاصلاح بكل الوسائل المتواضعة التي تمتلكها، لعل وعسي يباشر العرب عملية تستهدف ايجاد وسيلة للنظر الي المستقبل بصورة مشتركة من منطلق انهم جميعا في مركب واحد.
وهناك دول تدرك ان ثمة لغة جديدة في العالم هي لغة الدستور الذي يضمن للمواطن العيش في دولة ذات مؤسسات وليس تحت رحمة التصرفات العشوائية. وهذه اللغة الجديدة تشمل ايضا المواجهة الجدية للمسائل المتعلقة بحقوق المرأة والتنمية السياسية والبرامج التعليمية والتربية وليس ممارسة عملية هروب الي الأمام من هذه المسائل عن طريق الحديث عن انتخابات في يوم من الأيام.. كما لو ان الانتخابات هدف بحد ذاته او انها معزولة عن معالجة المشاكل التي يعاني منها البلد بدءا بالارهاب وانتهاء بغياب المؤسسات المدنية مرورا بالبرامج التربوية والتعليمية وحقوق المرأة.
وهناك دول ادركت جيدا معني ان اميركا في حال حرب منذ 11 سبتمبر ،2001 وانه لو لم تكن في حال حرب، ولو لم تتعرض لما تعرضت له في ذلك اليوم، لما استطاعت الذهاب بعيدا في التعاطي مع العراق والوصول الي شن حرب عليه لاسقاط النظام واستبداله. بين هذه الدول ليبيا التي عرفت ان لا بديل من التعاطي مع الظلم وهي قبلت تحمل مسؤولية كارثة لوكربي ودفع تعويضات إلي الضحايا علي الرغم من انه سيأتي يوم يتبين انها ليست الطرف المسؤول عن هذا العمل الارهابي وان آخرين يقفون وراءه وان مشاركتها فيه قد تكون ثانوية هذا اذا كانت هناك من مشاركة. ولكن كان لا بد من فرض عقوبات علي ليبيا لأسباب اميركية خلاصتها انه كان مطلوبا وضع النظام في قفص. ولما وجدت ليبيا ان حل قضية لوكربي ليس كافيا، ذهبت الي أبعد واعترفت بأنه كانت لديها برامج لانتاج اسلحة للدمار الشامل وتخلت عن هذه البرامج بطريقة تطمئن الاميركيين والبريطانيين، اعترافا منها بأن العالم تغير وان ثمة شروطا لا بد من تنفيذها وان الوقت ليس وقت الدخول في نقاشات لا طائل منها بل وقت تنفيذ الشروط من دون اي أخذ ورد. أوليس ما أقدمت عليه ليبيا التي اعتذرت اخيرا عن عدم استضافة مؤتمر لوزراء البيئة العرب دليلا علي انها تغيرت كليا وان العقيد معمر القذافي اكثر من جدي في توجهاته الجديدة، بما في ذلك التركيز علي افريقيا بعدما تبين له ان الدعم العربي لبلده اوهام بأوهام؟
وهناك دولة اخري هي السودان، فهمت ان عليها التخلص من أوزار الماضي والتخلي عن احلام حسن الترابي الذي أراد اقامة نظام قادر علي ان يكون قدوة للدول المحيطة وان يؤثر فيها. كانت النتيجة ان الحكم السوداني بقيادة عمر حسن البشير تصرف بطريقة تأخذ في الاعتبار ان عدم ايجاد حلول لمشاكل البلد خصوصا مشكلة الجنوب سيؤدي الي استمرار الحرب الاهلية والي تقسيمه يوما ما.. وكان ان استجاب للمساعي الاميركية الهادفة الي ايجاد تسوية مع الجنوبيين تشمل تقاسم السلطة والثروة.
فعن اي سودان جديد سنتحدث قريبا، هل سيكون فيدراليا، ام ستكون هناك صيغة جديدة تعيد تركيب البلد علي أسس مختلفة؟ المهم ان تتوقف عذابات السودانيين وان يستفيدوا اخيرا من ثروات بلدهم وخيراته.. أوليس ما يشهده السودان جزءا لا يتجزأ من عملية اعادة رسم خريطة المنطقة التي لا يريد بعض العرب تصديق انها تحصل فعلا؟
ستظل عالقة في الأذهان العربية صورة العام 2003 اي صورة صدام حسين بعد اعتقاله، انها اكثر من صورة.. انها دليل علي ان المنطقة كلها تغيرت.. وما شاهدناه حتي الآن من العراق الي ليبيا.. الي السودان ليس سوي بداية.. والي اللقاء في اخر السنة 2004 للتأكد من صحة ذلك.
كاتب لبناني