(1)
الأنظمة العربية التي تراهن على ان 2004 قد تكون السنة التي تنتهي فيها الثورة الامريكية على الامر الواقع في الشرق الاوسط، قد لا تكون موفّقة كثيرا في حساباتها. وهذا لسببين:
الاول، أن حظوظ الرئيس الامريكي بوش (وبالتالي المحافظين الجدد) في تمديد مدة الاقامة في البيت الابيض لأربع سنوات جديدة، تبدو أكبر بكثير نسبيا من حظوظ المنافس الديموقراطي هوارد دين.
&فآلة بوش المالية - الانتخابية ضخمة (أكثر من 200 مليون دولار). والاقتصاد الامريكي سيحسّن في العام الجديد (ما لم تحدث انهيارات نقدية مفاجئة) . ومنظر صدام حسين في الاسر، سيكون حقنة قوية في عضل القومية الامريكية. والاهم من هذا وذاك ان أمريكا كانت منذ نهاية الحرب الباردة تقع ببطء، ولكن بسرعة، في غرام اليمين القومي أو الاصولي المسيحي الذي يمثلّه الآن الرئيس الامريكي الحالي.
والسبب الثاني هو انه حتى لو سقط بوش في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فإن هذا لن يُغيّر كثيرا من أساسيات السياسة الثورية الامريكية الجديدة في الشرق الاوسط. فالتزامات العراق الامريكية، ستبقى سواء ارتدى البيت الابيض الحلة الديموقراطية أو الجمهورية. والحرب ضد الارهاب ستستمر. وعملية تغيير المناخات السياسية والثقافية والتعليمية في المنطقة ستتواصل.
وهذا يعني أنه سيكون على الانظمة العربية بذل جهود أكبر في 2004 من تلك التي بذلتها في ،2003 للتأقلم مع القوة العظمى التي تحوّلت الى جارة ثقيلة للجميع بعد غزو العراق.
(2)
هل نحن نلمح هنا الى إمكانية تحّول العام الجديد، الى موسم ربيع ديموقراطي متواصل في المنطقة العربية؟
كلا.
فبرغم أن الامريكيين والبريطانيين يتحدثون بطلاقة هذه الايام، عن نيتهم تحويل العراق في العام الجديد الى أول نموذج ديموقراطي في المنطقة العربية؛ وبرغم أن بوش سيطلق قريبا (كما وعدت كوندوليزا رايس) مبادرة ضخمة لنشر الديموقراطية في الشرق الاوسط، الا ان الزخم السياسي الامريكي يسير في الواقع في اتجاه آخر.
فالهم الاول والاخير للادارة الامريكية الحالية هو الأمن. ومن فوهة هذا الامن وحده، تنبع كل الهموم الاخرى، بما في ذلك حتى الديموقراطية نفسها. وهكذا، فإن الامن العراقي في 2004 سيكون أهم بما لا يقاس من الديموقراطية العراقية. وهكذا ايضا، تكون موافقة العقيد معمر القذافي على خطوة التخلي عن برنامج اسلحة الدمار تسليماً للخارج الامريكي من دون أدنى تنازلات ديموقراطية للداخل الليبي، كافية لإعادة تأهيله في أسرة الامم.
وما ينطبق على العراق وليبيا يسحب نفسه حتى على إيران. إذ برغم كراهية إدارة بوش الشديدة لنظام الملالي ورغبتها الحقيقية في إسقاطه، الا انها تبدو مستعدة لملاقاته في منتصف الطريق، إذا ما تخلى عن برنامجه النووي وعن دعم الارهاب ، إضافة بالطبع الى وقف دعمه للفلسطينيين. وعلى أي حال، ليس سراً أن محادثات سرية مكثّفة تجري الآن على قدم وساق بين المحافظين الجدد الامريكيين والمحافظين القدماء الايرانيين، حول شروط الاستسلام الايراني المحتمل.
أما بالنسبة لباقي الانظمة العربية، فإن المطلوب أمريكياً بات معروفاً: توفير المناخات الامنية المناسبة لتفكيك ثقافة الارهاب . وهذا يشمل تعديل المناهج التعليمية والتربوية، وضبط حركة الاموال المتدفقة الى المنظمات الاسلامية المختلفة، وإدخال بعض الاصلاحات الليبرالية في الحقلين السياسي والاقتصادي.
المحافظون الجدد الامريكيون يسمون هذه التوجهات تغييرات ديموقراطية. بيد ان التسمية لا تتطابق بالضرورة مع المسمى، خاصة بالنسبة للمواطنين العرب الذين لا يرون منها حتى الآن سوى الابعاد العنفية، وسوى تعمق التحالف الامريكي - الاسرائيلي ، وسوى الاغفال المثير لمشاعرهم الوطنية والقومية والاسلامية.
لكن، وإذا ما كانت الصورة على هذا النحو، لماذا على الانظمة العربية ان تقلق؟ وأين وجه الثورية في التوجهات الامريكية الجديدة في الشرق الاوسط؟
مرة أخرى، الثورة تكمن في الامن. فبعد احداث 11 سبتمبر/ أيلول، لم يعد في وسع الولايات المتحدة المضي قدما في صفقتها الفاوستية مع الانظمة (التغطية على قمعها الداخلي، مقابل التطابق في السياسة الخارجية)، لأن ذلك أثبت انه الحاضنة الامثل لظاهرة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.
ومرة أخرى، هذا الآن هو السبب الحقيقي للتوتر بين واشنطن والانظمة العربية. والارجح ان يشهد العام الجديد مزيدا من هذا النوع من التوتر، لأنه لا الانظمة تعرف حجم التغيير الذي تريده واشنطن، ولا واشنطن تعرف حجم التغيير الذي تريده هي نفسها.
الثابت الوحيد في كل هذه المتغيرات اللزجة، هو ان الاعمال في الشرق الاوسط لن تستأنف كالمعتاد كما كان الامر طيلة 60 عاما. فأمريكا بعد 11/ سبتمبر تغيّرت، والعالم تغيّر معها. وسيكون من المستحيل ان يبقى الشرق الاوسط خارج لعبة التغيير هذه، بغض النظر عن شكل هذا التغيير.
الخليج
التعليقات