سعد داود قرياقوس
&
&
&
&
هل أن الوضع السياسي الدولي مهيأ لقبول عضو كردي في منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك)؟ وهل أن الاستراتيجية الأمريكية قادرة على امتصاص واستيعاب التداعيات المحلية والإقليمية لقيام كيان كردي مستقل سياسيا واقتصاديا في شمال العراق؟
&سؤالين من جملة أسئلة أثارتها المطالب الكردية الأخيرة في ضم محافظة كركوك ومراكز سكانية أخرى في محافظتي نينوى وديالى إلى المنطقة الواقعة تحت النفوذ الإداري الكردي والحماية العسكرية الأمريكية المباشرة منذ عام 1991.
&لقد أثارت هذه المطالب ردود أفعال حادة ومواقف رافضة صدرت عن كتاب و شخصيات وحركات سياسية عراقية ذو انتماءات وخلفيات سياسية متباينة، باستثناء أعضاء مجلس الحكم اللذين عودونا على الصمت والتسويف إزاء المواضيع المتعلقة بمستقبل العراق ووجوده كدولة ومجتمع. عكست المواقف الرافضة لمشروع المجموعة الكردية الخطير، أجماعا وطنيا على الرفض المطلق لمحاولات تغيير الهوية السكانية لمحافظة كركوك والمناطق الأخرى بشكل قسري وتعسفي.
&فمن الواضح أن المطالب الكردية الغير مشروعة قد استفزت روح المواطنة العراقية بشكل مؤثر وغير متوقع، وأدت إلى ظهور بوادر ايجابية لوحدة الصف الوطني، على الرغم من نجاح سلطات الاحتلال ومناصريها المحليين في تثبيت العديد من عناصر التشرذم والفرقة بين قطاعات الشعب العراقي خلال الأشهر الماضية. ولن نبالغ إذا تكهنا بان " قضية عراقية كركوك" ستشكل العامل الموحد للصف الوطني العراقي، وستكون محور البرنامج الوطني المناهض للاحتلال ومشاريعه، والعامل المحفز للمقاومة الوطنية الشاملة خلال المرحلة القادمة.
&لقد انصبت معظم الاعتراضات والانتقادات الموجهة للمطالب الكردية على أمور تتعلق في توقيتها، وعدم شرعيتها، وإصرارها على حسم موضوع ضم كركوك والمناطق الأخرى داخل مجلس الحكم المعين من سلطات الاحتلال، و بشكل سريع دون الانتظار لقيام المؤسسات الدستورية وإعداد صيغة الدستور الجديد ومناقشته والاقتراع عليه من قبل الشعب.
ولم ينطلق المعارضون للمُقترحات الكردية من رفضهم لحقوق الأكراد العراقيين، فالقضية الأساسية المطروحة لا تتعلق بحق الأكراد في ممارسة حقوقهم القومية والثقافية الكاملة في إطار الجمهورية العراقية، كما تحاول الأحزاب السياسية الكردية طرحها،فهذه قضية مسلم بها ولا يختلف عليها أي عراقي مدرك لحقوق المواطنة. بل إن الموضوع الأساسي يتمثل في مشروعية قيام مجموعة قومية أو دينية معينة بفرض رؤيتها السياسية وبرنامجها الخاص على الأغلبية في ظل احتلال أجنبي، وفي ظل غياب المؤسسات التشريعية والدستورية والتغييب المُتعمّد للناخب الوطني.؟
&هذا هو السؤال المطروح الذي يتطلب الإجابة الموضوعية والشجاعة. وهذا هو المحور الحقيقي للازمة السياسية التي أشعلتها القيادات الكردية،والمرشحة للتحول إلى اقتتال داخلي لا يمكن التكهن بنتائجه المدمرة لمصالح شعب العراق بشكل عام، ومصلحة الأكراد العراقيين بشكل خاص.
&لقد كتب الكثير عن ألأهداف التخريبية للاحتلال الأمريكي، ولاسيما هدف تغيير الخارطة السياسية للعراق وتغيير هويته الوطنية والقومية، وتقسيمه إلى كيانات هزيلة و بشكل ينسجم ومتطلبات المشروع الأمريكي- الصهيوني في المنطقة. ملامح هذا المشروع اتضحت بشكل جلّي منذ الساعات الأولى لدخول القوات الغازية والميليشيات المتجحفلة معها إلى المدن العراقية الرئيسية، وتبلورت بشكل خاص في عمليات الحرق والتدمير المتعمد والمخطط له لدوائر التسجيل العقاري في كركوك والموصل ومدن عراقية أخرى. وتطورت خطوات المشروع لاحقا من خلال تنفيذ عمليات التغيير السكاني ألقسري وترحيل السكان العرب والمسيحيين والتركمان واليزيديين عن مدينة كركوك ومناطق أخرى في شمال العراق، وإجبارهم على مغادرة مساكنهم بقوة السلاح و تحت ذريعة إزالة آثار حملة التعريب واسترجاع ممتلكات سليبة، وغيرها من المبررات الواهية، مستفيدين من المظلة الإعلامية والحماية العسكرية الأمريكية التي وصلت إلى حد قيام المسئول العسكري في كركوك إلى إصدار تعميم يطالب به السكان العرب والتركمان في بعض القرى في مغادرتها والتخلي عن مساكنهم إلى العوائل الكردية المُرَحّلة إلى المنطقة.
&لماذا الآن...؟ وهل أن شعب العراق مهيأ في هذه المرحلة المضطربة للتعامل مع مفردات معادلة معقدة كتلك التي طرحتها المجموعة الكردية؟
من الواضح جدا أن القيادة الكردية تحاول استغلال الفراغ السياسي الذي يعاني منه العراق، والانقسام والانشقاق الواضح والمؤقت في الموقف العربي، و تسعى إلى تحصيل الاستحقاقات السياسية المترتبة عن تعاونها مع الإدارة الأمريكية ومساهمتها الفعالة في إسقاط بغداد في يد المحتلين. كما وإنها تسعى إلى الاستفادة من الفرصة التاريخية المتمثلة في هيمنة قبيلة المحافظين الجدد على القرار السياسي الأمريكي، والاستفادة من ثقل الحليف الإسرائيلي في تنفيذ مشروعها الانفصالي، وتحقيق حلم السيطرة على ملكية مدينة الذهب الأسود تحت صيغة الفدرالية الإقليمية.
&لماذا هذا الإصرار على ضم مدينة كركوك وتقديمها بشكل مفاجيء ومغالط به تاريخيا كعاصمة لإقليم " كردستان"؟؟ وهل تقبل القيادة الكردية في ضم كركوك إلى المنطقة الكردية إداريا مع إبقاء سيادة بغداد المركزية على حقول النفط وإيراداتها؟؟ لن أغامر بشئ إذا ما أجبت على السؤال الأخير بالنفي القاطع. لقد كان هدف قيام دولة كردية مستقلة على التراب العراقي كمقدمة إلى قيام وطن قومي للأكراد، ومازال هدفا أساسيا غير معلنا لمعظم الحركات والقيادات السياسية الكردية خلال المرحلة المنصرمة، وخاصة تلك التي تستمد شرعيتها من موقعها العشائري. إلا إنها ولأسباب تكتيكية معروفة وتجنبا للدخول في صرا عات داخلية وخارجية لا طاقة لها بها لم تعلن هذا الهدف بشكل برنامج صريح وواضح، بل تبنت أساليب تمويهية واستثمرت عامل الوقت لتحقيق هدفها، فقامت خلال العقدين الماضيين في تعضيد تحالفاتها الخارجية مع أطراف معروفة بعدائها الواضح لشعب العراق وللأمة العربية انتظارا للفرصة الحاسمة التي تحققت بسقوط عاصمة الرشيد في يد المغول الجدد.
&إن القيادة الكردية تدرك تمام الإدراك حقيقة إن مشروعها الانفصالي لن تتوفر فيه عناصر النجاح والديمومة في ظل انعدام الموارد المالية وعدم توفر عناصر الاستقلال الاقتصادي، ومن هنا فان ضم حقول نفط كركوك الحاوية على ما يعادل ثلث احتياطي نفط العراق سيوفر للدولة الكردية مقومات الأمن الاقتصادي المطلوبة.
&لقد إستغربَ العديد من الكُتّاب والمحللين السياسيين المهتمين بالشأن العراقي من عدم اكتفاء القيادة الكردية في مقترحاتها الأخيرة على ضم كركوك وحسب، بل أنها صعدت من حجم الأزمة من خلال مطالبتها بضم مراكز إدارية أخرى تقع في محافظات ديالى ونينوى. من الواضح أن هذه المطالب قد أضيفت إلى المطالب الكردية السابقة لأسباب تفاوضية بحته، ولإعطاء المفاوض الكردي هامش معين للمناورة ومنحه القدرة مستقبلا على تقديم تنازلات شكلية دون المساس بالمطالب الخاصة في كركوك.هذه الخطوة عبرت عنها تصريحات بعض الرموز الكردية، من خلال إصرارهم على أنهم غير مستعدين لقبول اقل مما حققته لهم المقاتلات الأمريكية والبريطانية عام 1991!؟ وعليه فإنهم يرفضون بشكل قاطع فكرة فدرالية المحافظات " الفدرالية الإدارية" التي تطرحها الإدارة الأمريكية والفئات العراقية المتعاونة معها، ويطالبون بإصرار على قيام فدرالية الأقاليم.
&نعود ألان للإجابة على السؤالين اللذين استهلينا بهما هذا المقال. ففي لقاء مع احد الأكاديميين الكنديين المتخصصين في قضايا المنطقة العربية والمعروفين عالميا، ويترأس حاليا لجنة مهمة في الأمم المتحدة، تناول الحديث هموم ومخاطر الحرب على العراق واحتلاله، ومن ضمنها مخاطر تقسيم العراق وقيام دولة كردية مستقلة في شماله. ذكر الزميل الأكاديمي بان جيراننا في الجنوب
( إشارة إلى الولايات المتحدة) لن يسمحوا بقيام دولة كردية لأنهم غير مستعدين للتعامل مع منتج نفط كردي!. وعبر لي على إن رأيه هذا يستند على حوار أجراه قبل مدة في نيويورك مع احد أعضاء مجلس الأمن القومي الأمريكي. أبديت حينئذ (ومازلت) عدم اتفاقي مع تحليله لسببين أساسين:
&الأول، من المفضل اقتصاديا للولايات المتحدة، المشتري والمستهلك الأول للنفط كوقود وكمادة صناعية،التعامل مع اكبر عدد من المنتجين. والأجدى لها توسيع نطاق احتكار القلة (الكارتل) التي تمثله منظمة الأوبك وزيادة عدد المنتجين للمادة التي تشكل عصب التطور والرفاهية الاقتصادية للدول لصناعية. فانضمام منتج جديد إلى المنظمة يزيد من صعوبة الاتفاق على آلية أسعار وسقف إنتاج محدد وبالتالي يساعد الولايات المتحدة على الحصول على الكميات المطلوبة من النفط الخام بالأسعار المطلوبة أمريكيا.. كما وسيساعد انضمام أعضاء جدد مدينين بوجودهم للقوة الأمريكية على تفتيت وإنهاء المنظمة التي سعت الولايات المتحدة لتدميرها منذ أواسط السبعينيات. فخروج حقول نفط كركوك عن السيطرة العراقية لن يمثل ضربة اقتصادية وسياسية مدمرة لشعب العراق فحسب بل سيؤشر بداية النهاية لمنظمة الأوبك التي أُعلن قيامها في بغداد عام 1960.
&وثانيا، إن تقسيم العراق ينسجم كليا مع أهداف مشروع القرن الأمريكي الجديد، ويخدم التوجهات السياسية الأمريكية، ويخدم أيضا أهداف حركة العولمة الاقتصادية الساعية إلى إنهاء ظاهرة الدولة الوطنية وتحويلها إلى دولة مدن خالية من مقومات السيادة والاستقلال السياسي والاقتصادي.
&وبقدر تعلق الأمر بالسؤال الثاني، فان السيطرة المطلقة للولايات المتحدة على صناعة القرار السياسي الدولي بسبب غياب القوة المضادة والرادعة، اتاح لها قدرات استثنائية ومرونة في التعامل مع المعطيات السياسية الدولية وساعدها على فرض هيمنتها المطلقة على القرار الدولي دون أن تواجه أية مخاطر أو خسائر سياسية أو اقتصادية جدية. وانطلاقا من هذه الهيمنة فان الإدارة الأمريكية قادرة تماما على استيعاب تداعيات قيام الدولة الكردية على الصعيدين الإقليمي والدولي. لا جدال في إن قيام الدولة الكردية في شمال العراق سيخلق ضغوطا كبيرة و مهدده للاستقرار ألسياسي لكل من سوريا وتركيا وإيران. وان كان عدم الاستقرار السياسي في كل من سوريا وإيران هدفا أمريكيا مطلوبا ومنسجما مع توجهات الخطاب السياسي لإدارة بوش، ومنسجمة كليا مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي حددت الدولتين كأهداف محتمله للمغامرات العسكرية التوسعية الأمريكية خلال المرحلة المقبلة، فان تداعيات إقامة الدولة الكردية على العلاقة الأمريكية التركية تتطلب بعض التوقف والمراجعة المُتأنية!؟
بتقديري أن إدراك أبعاد إقامة الدولة الكردية على العلاقة الأمريكية التركية قد تتضح من خلال إدراك حجم استعداد الإدارة الأمريكية الحالية لإسقاط تركيا كحليف استراتيجي تقليدي في المنطقة كثمن لإقامة الدولة الكردية! فما هي احتمالات قيام ذلك؟
&الإجابة على هذا التساؤل تتطلب فهم التغير الحاصل في أهمية تركيا الاستراتيجية لمصالح الولايات المتحدة بعد انتهاء الصراع البارد وخروج الدب السوفيتي من حلبة الصراع الدولي وسباق التسلح.
فلقد أدى التحول الجديد في ديناميكية العلاقة بين موسكو وواشنطن إلى انحسار كبير في أهمية الدور التركي والى أحداث تغير جذري في طبيعة الدور التركي من قاعدة حصار وانطلاق عسكري تجاه الأراضي السوفيتية، إلى قاعدة انطلاق نحو آبار نفط العراق وإيران ومحميات الخليج العربي، والى قاعدة مهيأة لضرب الكثافة السكانية العربية الإسلامية المناوئة للمشاريع الأمريكية.
&وجاء احتلال العراق ليزيد من تهميش دور تركيا كحليف استراتيجي وشريك سياسي للولايات المتحدة في المنطقة وليقلص من أهميتها الجغرافية- السياسية. فالتواجد الأمريكي المباشر في القواعد العسكرية المزمع أقامتها في العراق وخاصة في شماله تُوفر للقوات الأمريكية مرونة سوقية أكثر فعالية وقيمة من الناحية العسكرية مقارنة بالقواعد العسكرية الأمريكية في جنوب تركيا. ومن هنا فإننا نستطيع الاستنتاج بان إسقاط دور تركيا وتغيير أهميتها الاستراتيجية لن تترتب عنه أية خسائر استراتيجية، وان الإدارة الأمريكية قادرة على امتصاص واستيعاب تداعيات وآثار قيام دولة كردية في شمال العراق.
ويبقى السؤال المُلِحْ. ماهي احتمالات قيام ونجاح هذا المشروع المدمر لمصالح العراق ودول المنطقة؟ وهل إن المخططات الأمريكية قادرة على إقامة كيانات هزيلة وهجينة لا تخدم مصالح شعب العراق وشعوب المنطقة؟؟
إن تطورات الموقف في العراق خلال المرحلة القادمة، وتصاعد وتائر المقاومة الوطنية الباسلة وتوسعها، وزيادة سعة الفجوة بين المواطن المغرر به وسلطات الاحتلال ومؤسساتها، وارتفاع حدة المطالبة الشعبية في مغادرة قوات الاحتلال، ستقود إلى زيادة حجم المأزق الأمريكي في العراق، وستؤدي إلى فشل واندحار مشروع احتلاله وتقسيمه وتفتيت وحدته الوطنية، كما فشلت صفحات الغدر والعدوان ألمماثله عبر تاريخه الطويل.
فهوية الأرض لا تحددها الإحصائيات السكانية وعمليات الترحيل القسرية،لا تحددها التظاهرات المصطنعة بل تحددها الحقائق التاريخية وإرادة الشعب الحرة. كما وان هوية العراق لن تحددها سلطات احتلال غاشم وغير أخلاقي، ولن تحددها طروحات ومخططات عصابة ريتشارد بيرل وشارون ورامسفيلد ووكلائهم من العراقيين، ومن المؤكد أيضا إن الخارطة السياسية للعراق ومستقبله لن يحددهما سوى قرار شعبه العنيد المراس بكامله وبشكل ديمقراطي بعيد عن أساليب المافيا السياسية.
&فما سوف يفرضه المحتلون وشركاؤهم في جريمة استباحة العراق اليوم، سوف تلغيه إرادة شعب العراق المستقل غدا، وعلى الذين يتصورون أن سقوط جمهورية مها باد والاستسلام الجماعي عام 1975 حدثان تاريخيان لا يمكن أن يتكررا.... قراءة التاريخ بتمعن وحكمة!.
التعليقات