كمال سبتي
&
&-1 -
لم نصلْ بعدُ إلى أُلفة المدن.
كلّ مدينة كتابٌ، وكلّ كتابٍ عصيٌّ على الفهم، حتى يعتق.
لم نصلْ بعدُ إلى ألفة المدن ولا إلى غربتها.
كانت مدينتنا الصغيرة نداءً إلى ما وراء الباب الصغير الذي كان مغلقاً. وكانت مدينتنا الصغيرة نداءً إلى عالم مجهول، كنّا نحفظُ أسماءَ مدنه عن ظهرِ قلبٍ، تلكَ التي كنا نقرأها في خرائط المدرسة الملوّنة.
في صباحٍ باردٍ،&انتحرت ابنةُ الجيران: لقد حرقتْ نفسها.
لم تكن ابنة الجيران تفقهُ شيئاً في المعرفة ووعي الموت.
وفي صباحٍ آخر، سمعتُ خبرَ فرارِ شابٍ صغير كان يسكنُ حيَّنا إلى خارج العراق.
وفي الخامسةِ عشَرَة من العمر، أخذتُ أتأمّلُ نهرَ الفراتِ من على جسر الناصرية قُصِفَ في الحرب - في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، مردّداً جملاً لكتّابٍ تعرفتُ إليهم في المكتبة العامة.
لكأنَّما التفكيرُ الوجوديُّ في العالم علامةٌ على الكِبَر.
كان لنا مقهىً، وكان لنا ليلٌ. كانت لنا مدينة، وكان لنا وهمُ السفر.
مرةً، وقد كنتُ في بغداد، سمعتُ خبرَ غرق اثنينِ من صحبة القراءة والمقهى ووهم السفر. كتبتُ قصيدةً "غابة في نهر".. وبكيتُ أياماً وأياماً.
لم نكن نجيدُ الخديعة، ولم أكن أعرفُ اننا نجيدُ الموت.
من خرّبنا إذن ؟
الخرابُ الذي وُلِدَ معنا، في مدينتنا الصغيرة، الخرابُ الذي لا يساويه حجماً خرابُ مدنٍ كبرى، كيف عرفناهُ ؟ كيف وُلِدنا معه ؟ وكيف انتهينا معه هذه النهاية ؟
كان يحيى يكتب الشعرَ، وكان جواد يكتبُ القصة، وقد غرقا ذاتَ يومٍ، وأخذت الرواياتُ المتضاربة تنتشرُ في كلِّ حيٍّ من أحياء المدينة: لقد انتحرا معاً..
توقفَ الجميعُ مقتنعاً في النهاية عند هذه الرواية المفجعة.
كانت الحربُ مع إيران في أوْجِها، وكان موتنا الكامنُ في نفوسنا: هواءَنا الوحيد.
في لحظةٍ ما، وجدتُ نفسي مركوناً في "السجنِ: الرقمُ واحد". بدأت أقول لنفسي إنَّ نهايتي اقتربتْ وإنّ أحداً مّا، لا أعرفه، سيقضي عليَّ.
صرخَ ذاتَ مرةٍ في وجهي سجّان: أنتَ..هيه، ستموتُ قريباً. لم يقل لي أحدٌ ماذا فعلتُ ؟ هل أردتُ قلبَ نظام الحكم ؟ لا أدري.
الصدفة وحدها ساعدتني على الخروج من هذا السجن الرهيب. قصاصاتُ ورقٍ بمثابةِ رسائلَ إلى من هو في الحياة: إنني هنا أيها الناس.
إنَّ الشابَ النحيلَ الذي لا يقوى على شيءٍ هو شاعرٌ! أيها السجّان.
لم أتذكّرْ أحداً من الذين أُعدِموا، ولم تكن ذاكرتي تقوى على المساعدة.
لم أتذكّرْ أحداً، وتوقّفَ العالمُ كلّه عند جملة ذلك السجّان. كنّا نُسْجَنُ، بل ويموتُ بعضنا، ولم يكن أحدٌ في هذا العالم ينتبه إلى مصيرنا، وربما لم يكن مصيرنا يعني أحداً.
فينا من انتحَرَ وفينا من ماتَ في أقبيةِ السجون، وفينا من شُرّدَ، وعاش فقيراً في فنادق بغداد الرخيصة، لم يتبوّاْ منصباً في جريدة ولا كانت له حظوة عند حاكم من حكام بغداد.
من نحنُ ؟
شعراءُ، آثروا الفقرَ والشعرَ معاً..
قد يتلطخ أحدهم بحزبٍ مّا، وقتاً في شبابه، لكنما الشعرُ يأخذه في ما بعد، أبعدَ من كلّ حزبٍ، لتبدأ المأساة..
كان غيرنا من الشعراء الذين جاءوا بعد إنقلاب 1968 رئيساً لتحرير المجلة أو الجريدة. كان يسمّي نفسه موظفاً كبيراً، وكان أحدنا تهمة تمشي في شوارع بغداد، وتجلس منتظرة الإعلان المفاجىء ذاتَ لحظة عنها، ليذهبَ معها حاملها شاعرها إلى أيّ سجنٍ قريبٍ. فعليه أن يتوخّى الحذر، حتى لا تحلَّ هذه اللحظة، تلك هي مناورةُ الشاعر منا.
كانت بغداد منفانا، وكان المنفى الآخرُ يضجّ بأناشيد الثورة القادمة، التي لم تحلَّ، وحلّت محلَّها مساعٍ للثراء، ولشراء بيوتٍ في هذه البلاد أو تلك.
كنّا نموت وحدَنا أحياء، وكان غيرُنا يكتبُ عن عهودٍ سابقة، رحيمةٍ إذا ما قورنتْ بعهد دكتاتورنا. وكنّا نُتَّهمُ بشعرنا وحيدينَ، وبعذابنا مشرّدينَ في أروقة بغداد.. وفنادقها الرديئة.
كم كان صعباً عليَّ أن أفهمَ بلادي.
مرةً وجّهَ لي أحدُ شعراءِ انقلابِ 1968 تهمة تخريبِ الجيل اللاحق لنا. وقتَها فرحتُ بهذه التهمة، وعلمت أننا قد فعلنا شيئاً حقّاً في الشعر ضدّ السياسة
التي كانت تأكلُ كلَّ شيء..
الذي لم يُتَّهمْ بشيءٍ، لم يكن شاعراً.
كلّ مدينة كتابٌ، وكلّ كتابٍ عصيٌّ على الفهم، حتى يعتق.
لم نصلْ بعدُ إلى ألفة المدن ولا إلى غربتها.
كانت مدينتنا الصغيرة نداءً إلى ما وراء الباب الصغير الذي كان مغلقاً. وكانت مدينتنا الصغيرة نداءً إلى عالم مجهول، كنّا نحفظُ أسماءَ مدنه عن ظهرِ قلبٍ، تلكَ التي كنا نقرأها في خرائط المدرسة الملوّنة.
في صباحٍ باردٍ،&انتحرت ابنةُ الجيران: لقد حرقتْ نفسها.
لم تكن ابنة الجيران تفقهُ شيئاً في المعرفة ووعي الموت.
وفي صباحٍ آخر، سمعتُ خبرَ فرارِ شابٍ صغير كان يسكنُ حيَّنا إلى خارج العراق.
وفي الخامسةِ عشَرَة من العمر، أخذتُ أتأمّلُ نهرَ الفراتِ من على جسر الناصرية قُصِفَ في الحرب - في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، مردّداً جملاً لكتّابٍ تعرفتُ إليهم في المكتبة العامة.
لكأنَّما التفكيرُ الوجوديُّ في العالم علامةٌ على الكِبَر.
كان لنا مقهىً، وكان لنا ليلٌ. كانت لنا مدينة، وكان لنا وهمُ السفر.
مرةً، وقد كنتُ في بغداد، سمعتُ خبرَ غرق اثنينِ من صحبة القراءة والمقهى ووهم السفر. كتبتُ قصيدةً "غابة في نهر".. وبكيتُ أياماً وأياماً.
لم نكن نجيدُ الخديعة، ولم أكن أعرفُ اننا نجيدُ الموت.
من خرّبنا إذن ؟
الخرابُ الذي وُلِدَ معنا، في مدينتنا الصغيرة، الخرابُ الذي لا يساويه حجماً خرابُ مدنٍ كبرى، كيف عرفناهُ ؟ كيف وُلِدنا معه ؟ وكيف انتهينا معه هذه النهاية ؟
كان يحيى يكتب الشعرَ، وكان جواد يكتبُ القصة، وقد غرقا ذاتَ يومٍ، وأخذت الرواياتُ المتضاربة تنتشرُ في كلِّ حيٍّ من أحياء المدينة: لقد انتحرا معاً..
توقفَ الجميعُ مقتنعاً في النهاية عند هذه الرواية المفجعة.
كانت الحربُ مع إيران في أوْجِها، وكان موتنا الكامنُ في نفوسنا: هواءَنا الوحيد.
في لحظةٍ ما، وجدتُ نفسي مركوناً في "السجنِ: الرقمُ واحد". بدأت أقول لنفسي إنَّ نهايتي اقتربتْ وإنّ أحداً مّا، لا أعرفه، سيقضي عليَّ.
صرخَ ذاتَ مرةٍ في وجهي سجّان: أنتَ..هيه، ستموتُ قريباً. لم يقل لي أحدٌ ماذا فعلتُ ؟ هل أردتُ قلبَ نظام الحكم ؟ لا أدري.
الصدفة وحدها ساعدتني على الخروج من هذا السجن الرهيب. قصاصاتُ ورقٍ بمثابةِ رسائلَ إلى من هو في الحياة: إنني هنا أيها الناس.
إنَّ الشابَ النحيلَ الذي لا يقوى على شيءٍ هو شاعرٌ! أيها السجّان.
لم أتذكّرْ أحداً من الذين أُعدِموا، ولم تكن ذاكرتي تقوى على المساعدة.
لم أتذكّرْ أحداً، وتوقّفَ العالمُ كلّه عند جملة ذلك السجّان. كنّا نُسْجَنُ، بل ويموتُ بعضنا، ولم يكن أحدٌ في هذا العالم ينتبه إلى مصيرنا، وربما لم يكن مصيرنا يعني أحداً.
فينا من انتحَرَ وفينا من ماتَ في أقبيةِ السجون، وفينا من شُرّدَ، وعاش فقيراً في فنادق بغداد الرخيصة، لم يتبوّاْ منصباً في جريدة ولا كانت له حظوة عند حاكم من حكام بغداد.
من نحنُ ؟
شعراءُ، آثروا الفقرَ والشعرَ معاً..
قد يتلطخ أحدهم بحزبٍ مّا، وقتاً في شبابه، لكنما الشعرُ يأخذه في ما بعد، أبعدَ من كلّ حزبٍ، لتبدأ المأساة..
كان غيرنا من الشعراء الذين جاءوا بعد إنقلاب 1968 رئيساً لتحرير المجلة أو الجريدة. كان يسمّي نفسه موظفاً كبيراً، وكان أحدنا تهمة تمشي في شوارع بغداد، وتجلس منتظرة الإعلان المفاجىء ذاتَ لحظة عنها، ليذهبَ معها حاملها شاعرها إلى أيّ سجنٍ قريبٍ. فعليه أن يتوخّى الحذر، حتى لا تحلَّ هذه اللحظة، تلك هي مناورةُ الشاعر منا.
كانت بغداد منفانا، وكان المنفى الآخرُ يضجّ بأناشيد الثورة القادمة، التي لم تحلَّ، وحلّت محلَّها مساعٍ للثراء، ولشراء بيوتٍ في هذه البلاد أو تلك.
كنّا نموت وحدَنا أحياء، وكان غيرُنا يكتبُ عن عهودٍ سابقة، رحيمةٍ إذا ما قورنتْ بعهد دكتاتورنا. وكنّا نُتَّهمُ بشعرنا وحيدينَ، وبعذابنا مشرّدينَ في أروقة بغداد.. وفنادقها الرديئة.
كم كان صعباً عليَّ أن أفهمَ بلادي.
مرةً وجّهَ لي أحدُ شعراءِ انقلابِ 1968 تهمة تخريبِ الجيل اللاحق لنا. وقتَها فرحتُ بهذه التهمة، وعلمت أننا قد فعلنا شيئاً حقّاً في الشعر ضدّ السياسة
التي كانت تأكلُ كلَّ شيء..
الذي لم يُتَّهمْ بشيءٍ، لم يكن شاعراً.
&
-2-
ليس ثمّة جيلٌ إرهابيّ عرفه الشعرالعراقيّ كالجيل الذي تسلَّلَ إلى مرافق الدولة بعد إنقلاب 1968 في بغداد. فأصبحَ رئيسَ التحرير شاعرٌ منه، وسكرتيرَ التحرير شاعرٌ منه، ومحرِّرَ الصفحات الثقافية في أية جريدة أو مجلة شاعرٌ منه.
&نسوا الشعر وفرحوا بالوظيفة والسلطة.
وتنادوا، مع حلفائهم، إلى تسمية لأنفسهم، فسموا أنفسهم: جيلَ الستينيات.
أصبحَ الشاعرُ الأميُّ طليعياً، وحاملُ الثقافة البدوية داعيةَ حداثة وأصبح الآخرُ الذي لا يفقهُ شيئاً في الشعر أو في المعرفة عموماً: شاعراً مستقبلياً.
لقد تمّتْ لهم بفضل سلطة الإنقلاب وبسرعة فائقة سلطة ثقافية لم يحلمْ بها كبارُ الشعراء في العالم.
فأوجدوا لهم شرّاحاً لما يكتبونَ ومفسرينَ لأحلامهم، وسموهم نقاداً..
لقد كانوا السلطةَ كلَّها: سياسة وثقافة..
أمّا الكتابة النقدية المغايرة عن شاعر منهم، فلقد أصبحتْ ولأوّلِ مرة في تاريخ الشعر، مغامرةً وجودية قد تعرّضُ كاتبَها إلى الخطر.
بل إِنهم هدّدوا شعراء آخرين، ذاتَ مرة، بإجتثاث وجودهم الفيزيقيّ، حتى.
&نسوا الشعر وفرحوا بالوظيفة والسلطة.
وتنادوا، مع حلفائهم، إلى تسمية لأنفسهم، فسموا أنفسهم: جيلَ الستينيات.
أصبحَ الشاعرُ الأميُّ طليعياً، وحاملُ الثقافة البدوية داعيةَ حداثة وأصبح الآخرُ الذي لا يفقهُ شيئاً في الشعر أو في المعرفة عموماً: شاعراً مستقبلياً.
لقد تمّتْ لهم بفضل سلطة الإنقلاب وبسرعة فائقة سلطة ثقافية لم يحلمْ بها كبارُ الشعراء في العالم.
فأوجدوا لهم شرّاحاً لما يكتبونَ ومفسرينَ لأحلامهم، وسموهم نقاداً..
لقد كانوا السلطةَ كلَّها: سياسة وثقافة..
أمّا الكتابة النقدية المغايرة عن شاعر منهم، فلقد أصبحتْ ولأوّلِ مرة في تاريخ الشعر، مغامرةً وجودية قد تعرّضُ كاتبَها إلى الخطر.
بل إِنهم هدّدوا شعراء آخرين، ذاتَ مرة، بإجتثاث وجودهم الفيزيقيّ، حتى.
&
- 3 -
صباحاً سيبدأ النشيد الذي لم أسمعه منذ سنوات، وستبدأ معه أحلامٌ مبتسرة، منذ أصبح المنفى نوماً لكوابيسَ تبدأ، ولن تنتهي.
مرة في أحد مقاهي العاصمة، في شارع الرشيد، التقيتُ شيخاً طيباً لا يتكلّمُ البتة عن الحاضر.
كان الآخرون يقولون إنّ ذاكرةَ هذا الشيخ قد توقفتْ عند مقتل الملك الأخير أو بعدها بقليل.
لم أقل له شيئاً عن الماضي، كنت مرتدياً بدلة الجندية الإلزامية التي أكرهها، وكنت تعِباً، أتصبّبُ عَرَقاً من حرِّ بغدادَ وحربِ دولتِها..
طلبتُ شاياً، وسألتُهُ إنْ كان يرغبُ في طلب شايٍ له هو الآخر.
قال: شكراً، كيف حالك ؟.. قلتُ: تعرفها جيّداً. ثمّ بدأتْ ذاكرته المزدحمة بالأحداث، الزاخرةُ بالمعرفة، تعملُ عملَها المبارَكَ معي.
وبدأتُ أحسّ بالفارق بين حياتين، في الحدثِ الذي يرويه، في الإسم الذي ينطقه، وفي الحسرة..
فارق بين حياةِ الخمسينيات، وحياتنا..
كان يروي لي أحداثاً عاشها، أو سمعَها وكنت أفكّرُ في الشعر، في جيل الخمسينيات تحديداً. بتلك الحرية التي تبخّرتْ..
وتذكرتُ صديقنا الراحل الكاتب والمحامي محمود شاكر العبطة وهو يفتخر أمامَنا، في مقهى البرلمان وفي مقهى حسن عجمي، بدفاعه عن حسين مردان في قضية "قصائد عارية" أيّامَها..وضحكتُ من أيّامِنا.
لقد عاش شعراء تلك الفترة حرية لم نعشها نحن. ربما عاش شيئاً منها بعض شعراء انقلاب 1968، ممّن تربّى في سنوات الخمسينيات ونشطَ شعريّاً في نهاية الستينيات. لكنه ركنها بعيداً عنه بعد الإنقلاب، عندما نعمَ بالوظيفة والسلطة.
كان يحلمُ بالمركز الشعريّ الأوّل، مأخوذاً بوهم القطيعة مع سلالات الشعر في كلّ تأريخ، وفي الوقت نفسه كان يحلم بالمركز الإداريّ الأوّل: وزير.
كان حلمه: أن يكونَ وزيراً وشاعراً كبيراً في آن!
صباحاً سيبدأ النشيد الذي لم أسمعه منذ سنوات، وستبدأ معه أحلامٌ مبتسرة، منذ أصبح المنفى نوماً لكوابيسَ تبدأ، ولن تنتهي.
مرة في أحد مقاهي العاصمة، في شارع الرشيد، التقيتُ شيخاً طيباً لا يتكلّمُ البتة عن الحاضر.
كان الآخرون يقولون إنّ ذاكرةَ هذا الشيخ قد توقفتْ عند مقتل الملك الأخير أو بعدها بقليل.
لم أقل له شيئاً عن الماضي، كنت مرتدياً بدلة الجندية الإلزامية التي أكرهها، وكنت تعِباً، أتصبّبُ عَرَقاً من حرِّ بغدادَ وحربِ دولتِها..
طلبتُ شاياً، وسألتُهُ إنْ كان يرغبُ في طلب شايٍ له هو الآخر.
قال: شكراً، كيف حالك ؟.. قلتُ: تعرفها جيّداً. ثمّ بدأتْ ذاكرته المزدحمة بالأحداث، الزاخرةُ بالمعرفة، تعملُ عملَها المبارَكَ معي.
وبدأتُ أحسّ بالفارق بين حياتين، في الحدثِ الذي يرويه، في الإسم الذي ينطقه، وفي الحسرة..
فارق بين حياةِ الخمسينيات، وحياتنا..
كان يروي لي أحداثاً عاشها، أو سمعَها وكنت أفكّرُ في الشعر، في جيل الخمسينيات تحديداً. بتلك الحرية التي تبخّرتْ..
وتذكرتُ صديقنا الراحل الكاتب والمحامي محمود شاكر العبطة وهو يفتخر أمامَنا، في مقهى البرلمان وفي مقهى حسن عجمي، بدفاعه عن حسين مردان في قضية "قصائد عارية" أيّامَها..وضحكتُ من أيّامِنا.
لقد عاش شعراء تلك الفترة حرية لم نعشها نحن. ربما عاش شيئاً منها بعض شعراء انقلاب 1968، ممّن تربّى في سنوات الخمسينيات ونشطَ شعريّاً في نهاية الستينيات. لكنه ركنها بعيداً عنه بعد الإنقلاب، عندما نعمَ بالوظيفة والسلطة.
كان يحلمُ بالمركز الشعريّ الأوّل، مأخوذاً بوهم القطيعة مع سلالات الشعر في كلّ تأريخ، وفي الوقت نفسه كان يحلم بالمركز الإداريّ الأوّل: وزير.
كان حلمه: أن يكونَ وزيراً وشاعراً كبيراً في آن!
&
&-4-
شعراء 1968 أصبحوا مؤسسة، بفروع، أو بلغتهم الوظيفية، بمديريات عامة:
الرقابة العامة، الثقافة العامة، دار الجماهير للصحافة، دار المأمون، ومديرية المطابع..إلخ وكلّ واحدة تنقسم بدورها إلى مديريات فرعية.
أصبحَ هناك قانونٌ للنشر، وأصبحَ هناك مدراءُ وخبراءُ، أغلقوا منافذ الطبع
بمديرية الرقابة، ليتحكّموا بالمطبوع عبر منفذهم الوحيد للطبع. وأصبحوا هم خبراءَ الكتب، بمكافآتٍ للخبرة، أي لإجازة الطبع، أولمنعِهِ، للسماحِ بدخولِ الكتابِ من الخارج، أو لعدمِ السماح..
&1993 مدريد
* جزء من كتاب بعنوان "بريدٌ عاجلٌ للموتى" يصدر قريباً عن دار مخطوطات في هولندا.
&
&
التعليقات