جاسم المطير


&

تبينتُ جلية عبد الرحمن منيف عن قرب ولمدة حمس أعوام ٍ فعالة، كصديقين وعاملين في مجلة واحدة ببغداد. نلتقي كل يوم لساعات طويلة حتى في بعض صباحات أيام الجمعة. أبصرتُ ملامحه كلها وطبيعته الصافية كلها وأدركتُ أن روحه مغلقة وغير مغلقة في آن. فأزيز أفكاره الروائية تحرك تياراً يومياً على صفحات ما يكنب ويسمع صوته مما يكتب.
في مكتب مجلة النفط والتنمية تعطـّرنا ببركة الأحاديث الروائية المشتركة فكان يؤثر في نفسي حين أعرض عليه رواية أو قصة مما أكتب أو حين يأتيه قصاصون وروائيون شباب. يوقد في الجميع وفي مواهبهم حطباً جديداً كأنه يقول: من يريد أن يكون على الطريق الصحيح ينبغي أن يدرب عقله جيداً وأن ينسج فنه جيداً.
لم ينجو وقته ولا وقتنا من مجلس الجدل الاقتصادي والسياسي الذي ينعقد في غرفة مكتبه بزائريه الكثار كل يوم يشيع الجد والبهجة المتعددة الألوان.
&
يملك فكراً وقاداً لا يتوقف.. ففي ساعاته اليومية يلتحم في ذهنه سمع وبصر وتفكير من فكرة سياسية أو اقتصادية أو روائية كالتحام " الجزء " المستمتع في باطن عقله مع " الكل " المحيط في به أو المتحرك فيه. يتطلع دائماً إلى لب الأشياء وإلى ينابيعها لمغالبة ما يحيط بالوطن والشعب والأمة من عواصف. خاصة أنه كان يعيش في قلبها ببغداد قبل الحرب العراقية ــ الإيرانية وبعد اشتعالها. وكانت كل أقواله اليومية حول هذه القضية أو تلك تبدو رائعة حتى في ساعتها الأولى لا يحب الجزم بالكلام لكنه ينسج استنتاجاته خطوة خطوة بهدوء تام قلّ نظيره. لكنه لا يعظ لا نفسه ولا غيره، لتجد نفسك أمام سقراط المتكلم.
ما توقعت أن يرحل بهذه العجالة ففي داخله كنز روائي لم يضعه كله على منضدته، بعد. حين دخل التاريخ روائياً، في مدن الملح، كانت عبقريته تتواثب وتطير حول هذه الواقعة أو تلك من وقائع التاريخ العربي الحديث ينتظر لطف الوقت كي يوفر له حافلة المزيد من الإبداع والإنجاز.
كان يشكو مجيء الليل سريعاً ويشكو طلوع النهار سريعاً. يتطلع بين الشكويين بعيداً وأبعد.. يهوى ساعات الليل كما يهواها نهارا ومشقته الوحيدة في كتابة الرواية التي بدأها بعد الأربعين هي مشقة انتهاء النهار ليلا وانتهاء ليله بالنهار فهو لكليهما مخلص يقول للزمن : دافع عني بمنحي المزيد من وقتك لأدافع عنك بالقلم.
غير أنه رحل سريعاً تحت ضربة القلب المفاجئة.
هذه كلمات نبعت عندي حزناً برحيله. تماماً مثلما نبعت عندي بحزن كبير عندما أعلمني قراره بالرحيل من بغداد ذات يوم تراكمت فيه غيوم حرب قادسية صدام حسين كثيفة فوقها ويوم أرادت أن تحوم حول حريته فأيقن في اللحظة المناسبة أنه لا يوجد نيرون في العالم بلا فسق ولا قسوة .
الرحيل المفاجئ عادته. علامة من علامات حركته من بلد إلى آخر محاولاً الوصول إلى خير العطاء في عالم ٍ مليء بالحركة وهو يحمل مشاعره الجليلة عن المكان الذي لا يستقر فيه باحثاً بقسوة عن مصير الإنسان العربي وعن ضوء ينير بالكلمات الروائية الباحثة عن أجزاء حياته وعن أشيائه
&كلها.
كان عبد الرحمن منيف " كلٌ " في زمن الرواية العربية وكان قارعاً لنواقيس إبداعها و مجدد& " أشيائها " كلها .
عبد الرحمن منيف لم يكن من نوع الرجال الذين يمسكون بالمكان..
لكنه من النوع الذي يمسك بالزمان.
ستبقى أعماله الروائية ذات تعزيم قوي للرواية العربية وللروائيين العرب حتى مستقبل بعيد.. ستظل روحا إنسانية بمسعاها السامي.
أنا مملوء بالحزن والقلق في هذه اللحظة الصعبة وعندما أفيق يبدأ عندي مجرى جديد لتدوين ذكرياتي مع أناشيده الموجهة للعالم الفسيح..
يا أصدقاء الرواية العربية الفضلى أبـّنوه في قلوبكم فعصارات إبداعه تبقى حيّة..

بصرة لاهاي
&