باسم المرعبي

&
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
&&&&&
ونحن على مشارف الذكرى السادسة والأربعين لقيام ثورة 14 تموز المجيدة 1958، هذه الذكرى التي ستكون هذه المرة مختلفة تماماً عن السنوات الفائتة حيث سنرى قتلة مفجّر الثورة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، وورثة قتلته ماثلين أمام العدالة العراقية للإقتصاص منهم عن الجرائم التي اقترفوها بحق الشعب والتي ابتدأت حقيقةً
منذ شباط الأسود 1963 وحتى الأمس القريب. أكثر من أربعين عاماً وهم يمسكون بالسلطة عدا فاصلة الخمس سنوات التي تقاسمها الأخوان عبد السلام وعبد الرحمن عارف. أكثر من أربعين عاماً وإرث مؤسس أول جمهورية ضائع، مغيّب، وعلى امتداد أرض العراق كلها، ما من حتى مدرسة أو شارع واحد يحمل اسمه. فقط كان لقب "الديكتاتور" يطارده به قتلتُه، (( الديكتاتور)) الذي كان يسكن داراً استأجرها في أول الخمسينات من مديرية الأموال الجمدة بـ 15 ديناراً وبقي فيها حتى آخر يوم من حياته.. وهي دار قديمة بسيطة يسكن في مثيلاتها ذوو الدخل المحدود من الطبقة دون الوسط، وفي هذه الدار وضعت خطة ثورة 14 تموز. ـ حسبما يذكر اسماعيل العارف في: أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق ـ.(1)
((الديكتاتور)) الذي كان يرفض ان تصحبه مفرزة لحمايته أثناء تنقله فكان يتنقل بسيارته العادية وبصحبة مرافقه فقط. ـ العارف: أسرارثورة 14 تموز.. ـ
وكثيراً ماجعلتني الأحاديث والإجراءات الدائرة منذ فترة لمحاكمة صدام أستعيد أجواء ما قرأته من شهادات عن جريمة ما يسمى "محاكمة" عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة والتلفزيون في الصالحية، صبيحة 9 شباط 1963.
ولنبتدئ بشهادة أحد "اعدائه" المباشرين(2) ممن كانوا حاضرين، القيادي البعثي هاني الفكيكي، وهو يسرد الساعات الأخيرة من حياة الزعيم في الصفحات المعنونة بـ ـ محاكمة قاسم ورفاقه ـ في كتابه " أوكار الهزيمة ـ تجربتي& في حزب البعث العراقي& ـ" حيث يقول: قبيل وصول قاسم جرى حديث في دار الإذاعة بين القياديين ومنهم حازم (جواد) وطالب (شبيب) وعلي(صالح السعدي) وعبد الستار الدوري والبكر وعماش وعبد الستار عبد اللطيف وعبد السلام (عارف) وأنا، حول الموقف منه وكان الإتجاه ميالاً لإعدامه بأسرع ما يمكن ..." ويواصل الفكيكي وصف تلك اللحظات الفارقة في التاريخ العراقي خاصة ً:
"... بدا قاسم متماسكاً الى حد بعيد وإن اصطبغ وجهه بالشحوب وكسته علائم الإرهاق.... وجرى معه جدال حول ثورة 14 تموز، وعدم تشكيل مجلس قيادة الثورة..... وطلب قاسم تقديمه لمحكمة اصولية مشيراً الى انه لم يعدم أو يسجن أحداً إلا عن طريق المحكمة".
"... وطلب الإنفراد بعارف، الأمر الذي رفضناه فوراً خوف تأثيره على عارف لما له من دين سابق عليه حين لم يعدمه. وبرغم ان عارف اعتذر بدوره منه متذرعاً بان هذه (ثورة)! حزب ـ الأقواس والتعجب من عندناـ وان الأمر والقرار بيد قيادته الموجودة امامه وليس بيده هو، فإنه مضى يجادل قاسم محاولاً انتزاع إقرار منه بانه هو الذي وضع خطة ثورة 14 تموز، وهو الذي أعدّ بيانها الأول، وأخرج قرآناً صغيراً من جيبه، واستحلفه الله على ذلك إلاّ ان قاسم لم يجبه وبقي صامتاً".
..... بعد دقائق اختلى أعضاء المكتب العسكري وممثلو القيادة القطرية وعارف، فأصدروا دون ظهور أي رأي مخالف& حكماً بإعدام قاسم ورفاقه وتنفيذه فوراً، وعندما اُبلغ قاسم بالقرار أعاد مطالبته بمحاكمة اصولية طاعناً في الحكم.
(.....) عندها أيقن أنه مواجه الموت، ويئس من محاولاته كسب الوقت أو محاولات انقاذه، فقال: ان التاريخ سيخلد اسمي
انني قاومت الاستعمار وبنيت للفقراء خمسة وثلاثين ألف دار خلال عمر الثورة، وانني ذاهب ولكنني لا أدري ماذا سيحصل من بعدي. تقدم بعض الضباط لربط عيونه وعيون رفاقه، الأمر الذي رفضه مردداً: بدون جفيّة(منديل)، أنا قابل بدون جفيّة. تأزم الجو داخل الصالة، وتوترت النفوس، وكان الثأر والموت ينبضان في عروق وأنفاس الجميع بعد ان دخلت زمرة التنفيذ وارتفع صوت من نادى بإخلاء الصالة. أعاد قاسم المطالبة بمحاكمة عادلة، وللمرة الأخيرة بُلغ بأن محاكمته تمت وان (المجلس الوطني لقيادة الثورة حكم عليه بالإعدام)! ـ الأقواس والتعجب منا ـ.
ومع انهمار ذخيرة الموت انطلق صوت قاسم هاتفاً بحياة الشعب".
&

2ـ الشهادة التي أوردها اسماعيل العارف في كتابه: ثورة 14 تموز وأسرار تأسيس الجمهورية

عندما اقتيد الزعيم عبد الكريم قاسم كان في كامل القيافة، جذاباً أنيقاً وقد حلق ذقنه قبل ذلك في صباح يوم 9 شباط وقد وعدوه قبل أن يستسلم بأن يسمحوا له بترك العراق ولكنهم قرروا إعدامه بعد ئذ. ولم يفقد رباطة جأشه وشجاعته. وعند الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم السبت 9 شباط اقتيد الزعيم عبد الكريم قاسم وطه الشيخ احمد وفاضل عباس المهداوي وكنعان خليل حداد الى ستوديو التلفزيون وبلغوا بقرار ـ المجلس الوطني لقيادة الثورة ـ بإعدامهم رمياً بالرصاص واعتبرت المناقشة التي جرت محاكمة سريعة له وللضباط الآخرين. فرفضوا وضع عصابة على أعينهم. ويدعي العقيد عبد الغني الراوي انه هو الذي أصدر الحكم باعتباره قد عين رئيساً للمحكمة من قبل ـ المجلس الوطني لقيادة الثورة ـ، فبلغهم به. فتقدم لقتلهم الرئيس مهدي(3) حميد والرئيس عبد الحق وعبد الغني الراوي.
ويستعين العارف برواية عبد الستار الدوري، أحد أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث في ذلك الوقت، وكان مع أول جماعة احتلت مرسلات الإذاعة في ابي غريب وبعدها اذاعة الصالحية وأصبح مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون بعد نجاح الحركة، يقول الدوري كاشفاً جانباً من الساعات الحرجة الأخيرة في حياة الزعيم:
"عندما دخل عبد الكريم قاسم تطلع في وجوه الحاضرين فرداً فرداً فشحن الجو بهستيريا عاطفية، فصاح بعض الضباط الحاضرين " أين رفعت؟ أين ناظم؟" الخ. وهنا تكلم عبد الكريم قاسم وقال: "انني خدمت الشعب وبنيت لهم دوراً وساعدت الفقراء وشكلت محاكم دستورية حاكمت ِ الجماعة.. ثم احتدم جدل بينه وبين الضباط دام أكثر من 45 دقيقة وبعدئذ تناول الحديث عبد السلام عارف فخاطب الزعيم عبد الكريم قاسم قائلاً: كريم(4).. مَن الذي كتب البيان الأول لثورة 14 تموز فقال له "نحن كتبناه"... ثمّ انسحب أعضاء المجلس بعد ذلك الجدل واجتمعوا في الغرفة المجاورة وعادوا بعد خمس دقائق فنطق بقرارهم العقيد عبد الغني الراوي وقال "قرر المجلس الوطني لقيادة الثورة تنفيذ حكم الإعدام بعبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان خليل حداد وقاسم الجنابي". وقبل لحظات من تنفيذ حكم الإعدام تقدم المقدم الركن حردان التكريتي وسحب قاسم الجنابي من بينهم قائلاً لماذا يعدم هذا وليس له دخل في شيء(5). فاُجلسوا على كراسي الموسيقيين ونفذ بهم حكم الإعدام رمياً بالرصاص ولم يوافقوا على ربط أعينهم وقام بإطلاق الرصاص عليهم الرئيس منعم حميد والرئيس عبد الحق وعبد الغني الراوي.
&
3&ـ شهادة "طالب شبيب" في كتاب: عراق 8 شباط1963ـ من حوار المفاهيم إلى حوار الدم/ مراجعات في ذاكرة طالب شبيب(5):

اُقتيد عبد الكريم ورفاقه إلى إحدى غرف الإذاعة، وأظنها غرفة الموسيقى الشرقية حيث وقف قاسم وإلى جانبه كنعان وطه ثمّ المهداوي. كانوا أربعة. ووقفنا نحن بمواجهتهم علي السعدي وحازم جواد وأنا (طالب شبيب) وعبد الستار عبد اللطيف وأحمد حسن البكر وعبد السلام عارف وعبد الستار الدوري وصالح مهدي عماش، ولا أتذكر وجود محسن(الشيخ راضي) وهاني (الفكيكي) وشنتاف ـ المقصود هنا كريم شنتاف.
دار بيننا حديث غير منظم، سادته حالة من التوتر. ولم يكن هناك أي شيء يمكن تسميته بمحاكمة. وكل كلام قيل أو يقال عن إنشاء هيأة حاكمتهم إنما هو نوع من "التسفيط" والتخيل!!
........ رفض الرجال الأربعة أن تُعصب اعينهم عندما أعلمناهم بقرار الإعدام. وخرجنا جميعاً من القاعة وبقي الرماة، وتم الرمي وحينها علمت من الرماة فور خروجهم، ان قاسم هتف بشيء لم يميزوه لكن الوحيد الذي ميزوا ما قاله هو المهداوي الذي هتف بصوت عال: "عاش الشَعْــ..." ولم يكملها. ويضيف في الهامش الدكتور علي كريم سعيد، محرر الكتاب، قائلاً
أشرف على تنفيذ الإعدام بقاسم ورفاقه، النقيب المظلي منعم حميد والملازم نعمة فارس المحياوي.
وقد كان مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه الأربعة في ظهيرة 9 شباط الساعة الواحدة والنصف حسب البيان الذي بثه
الإنقلابيون ذلك اليوم من إذاعة بغداد. لقد كانت الواحدة والنصف في كلّ الساعات. ـ هنا استذكار لبكائية لوركا الهائلة التي رثى فيها صديقه "إغناثيو سانشيز ميخياس" (7) : حيث يقول، في أحد مقاطعها:
كشموسٍ كانت الجراح تَلهبُ
في الخامسة بَعْد الظُهر.
وكانت الحشود تهشّم النوافذَ
في الخامسة بَعْد الظُهر.
في الخامسة بَعْد الظُهر.
أه، يا لهول الخامسة بَعْد الظُهر.
كانت الخامسة في كلّ الساعات
كانت الخامسة في ظل الأصيل.

ونحن على مشارف محاكمة الطاغية استعدتُ مثل هذه الشهادات لإبراز الظلم الفادح الذي لحق بقائد وزعيم وطني لم يستطع أن يطعن بنزاهته ووطنيته حتى أشد المعادين له، وقد كان جل امنيته، في ساعاته الأخيرة، أن يُمنح بعض الوقت وأن تتوفر له محاكمة عادلة. في الوقت الذي "يتطوع" عشرات المحامين من كل حدب وصوب للدفاع عن "بطل" المقابر الجماعية صاحب السجل الإجرامي الحافل الذي لم يشهد العراق طوال تاريخه مجرماً مثله. وهذا من مفارقات الدهر العراقي العجيبة التي نأمل ان تنتهي بانتهاء الحقبة السوداء لهذا المجرم الذي يتمتع بحقوقه القانونية الآن كسجين رغم فظائعه التي طبقت الآفاق في عراق ينعم الآن ببشارة عهد ديموقراطي، عهد نأمل أن يُردّ فيه الإعتبار لكل صاحب حق مغدور.
&

هوامش:
1ـ اسماعيل العارف، عسكري شغل مناصب عدة منها وزير المعارف ووكيل وزارة الإرشاد في عهد عبد الكريم قاسم.
2 ـ ان أحداث الساعات الإثنتي عشرة الأخيرة من حياة (قاسم) تُسند رواياتها الى شهادات وأقوال أعدائه وقتلته المباشرة منها وغير المباشرة. ـ أوريل دان: العراق في عهد قاسم، تاريخ سياسي: 1958 ـ 1963.
3 ـ& خطأ طباعي والمقصود هو منعم، إذ ان مهدي حميد هو ضابط شيوعي قُتل مع محمد صالح العبلي لرفضهما الإعتراف،& قتلهما سعدون شاكر ـ مدير أمن عام بعد ناظم كزار ووزير داخلية في زمن صدام.
4 ـ لم يكن حتى رؤساء عبد الكريم قاسم في الجيش ينادونه باسمه مجرداً من الألقاب :" أسرارثورة 14 تموز...".
5 ـ في الملحق الذي ضمّنه علي كريم سعيد كتابه " عراق 8 شباط 1963...." يورد شهادة قاسم الجنابي المرفوعة الى الجهات الرسمية في5. 1965.4، وفي ما يتعلق بإنقاذه، على هذا النحو: صُفّ جماعة عبد الكريم قاسم بصف واحد، وأنا اصطفيت معهم، فانتبه عبد السلام عارف وقال: قاسم انت وين؟ اخرجْ من الصف، وفي هذه الأثناء دخل عليّ عرفان وجدي وعبد المنعم حميد وغيرهم من الضباط وأخذوني الى خارج القاعة.
6 ـ طالب شبيب، وزير خارجية انقلاب 1963. شغل وظيفة دبلوماسي مدة 11 عاماً، وسفيراً في أنقرة وبون ولندن.
عاش سنواته الأخيرة لاجئاً في لندن.
7 ـ انظر ترجمة عبد القادر الجنابي، إيلاف، زاوية "ثقافة" وقد نشرت القصيدة في 8.6.2004
&
الصورة من ارشيف كاتب المقال