هناك تقليد في فرنسا درج عليه رؤساء الجمهورية منذ سنوات طويلة، ويقضي بأن يجيب الرئيس في العيد الوطني (14 تموز) عن أسئلة احدى قنوات التلفزة الفرنسية لمدة ساعة كاملة، وغالبا ما يدور الحديث حول أمور داخلية، وقلما يطل الخبر العالمي برأسه إلا إذا كان في الأمر مصائب وحروب كبيرة.
وفي العام الماضي كان الفرنسيون ينتظرون من الرئيس جاك شيراك ان يجيب عن سؤال واحد خطف كل الضوء عن الأسئلة الأخرى في تلك المقابلة، ويتعلق بشريط فيديو كان قد صوره أحد المسؤولين الماليين في حزبه <<التجمع من أجل الجمهورية>> ويتهم فيه شيراك بأنه كان شاهدا على تسلم خمسة ملايين فرنك فرنسي عندما كان رئيسا للوزراء وهي عمولة عن مبانٍ شيدتها بلدية باريس (وكان شيراك آنذاك أيضا عمدة العاصمة). صاحب الشريط انتحر بعد تسجيله.
وانتهى الجدل الذي فجرته هذه القضية، بأن قال القضاء كلمته ومفادها ان رئيس الدولة هو فوق المحاكمات إلا إذا تعلق الأمر بالخيانة العظمى، وبالتالي فمن غير الممكن ان يساق الى المحاكمة او ان يستجيب لأي دعوة قاضي تحقيق، وشيراك نفسه شدد على هذه الحجة القانونية، مؤكدا انه لا يريد إحداث سابقة دستورية في البلاد، نافيا طبعا التهم الموجهة إليه، قائلا إنه لم يكن على علم مطلقا بما يدور من قضايا مالية آنذاك.
وهذا العام، وتحديدا يوم السبت المقبل، سينتظر الفرنسيون بفارغ الصبر أيضا اجابة رئيس الجمهورية عن سؤال واحد، ويتعلق ب4،2 مليون فرنك فرنسي دفعها شيراك بين العامين 1992 و1995، أي عندما كان أيضا رئيسا لبلدية باريس، ثم بطاقات سفر له ولعقيلته وابنته السيدتين برناديت وكلود وأقاربهم، وكانت طريقة الدفع نقدا وليس عبر شك مصرفي او بطاقة اعتماد او غيرها من الوسائل التي يمكن ان تترك <<أثرا>>.
وكما في القضية الأولى، فإن شخصيات قضائية وسياسية وشعبية طالبت سيد الاليزيه بالمثول أمام القضاء، معتبرين ان في الأمر احتيالا على القانون و<<نهبا لمال الشعب>>، وكان الرد الأول والمنطقي هو ان رئيس الدولة لا يمثل أمام القضاء ولا يمكن مساءلته.
ولم ينف قصر الاليزيه صرف هذه الأموال، لكنه برر ذلك بالقول ان هذا المبلغ جاء من <<اعتمادات خاصة>> (أي الأموال التي توضع عادة بتصرف الوزراء ويمكن صرفها في مهمات خاصة، وثمة أموال مماثلة توضع بتصرف أجهزة الاستخبارات) وتعود للفترة التي كان فيها شيراك رئيسا للوزراء أي 1986 و1988 كما جاء من أموال عائلية.
لكن الأمر هذه المرة بات أكثر تعقيدا، فقد حصل جدل قضائي كبير وهو مستمر حتى الآن، حيث إن بعض كبار القضاة ومنهم مدعي عام الجمهورية يعتبرون ان على رئيس الدولة ان يمثل أمام القضاء ك<<شاهد برفقة محام>>، ما يعني ان الأمر يتعلق بمجرد شهادة مواطن، ولا يفترض بالتالي مساءلة قانونية او قضائية مباشرة، والبعض الآخر ومنهم مدعي عام محكمة الاستئناف في باريس الذي رد أمس على مدعي عام الجمهورية، رأى ان مجرد الاستماع الى رئيس الدولة يعني <<التشكيك>> به وهذا لا يجيزه الدستور ولا القوانين المرعية.
وبين هذا وذاك، ثار جدل آخر، سياسي هذه المرة، حيث طالبت اوساط اليمين رئيس الوزراء ليونيل جوسبان برفع السرية عن هذه المصاريف الخاصة وتجميدها كليا، الأمر الذي يرفضه رئيس الحكومة نظرا لإفادته منها في الوقت الراهن، وقال انه طلب من القضاء المكلف بهذا النوع من المصاريف ان يعيد بحث وضعها على نحو شامل.
كل ما تقدم مهم، لكن الأهم، هو ان اندلاع هذه الفضائح المالية بوجه رئيس الجمهورية،يأتي قبل أقل من عام على الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ما يعني ان السكاكين ستشحذ بشراسة كبيرة بين الاليزيه الديغولي حاليا، ورئاسة الوزراء الاشتراكية، ذلك ان شيراك وجوسبان يتمتعان بالشعبية الأعلى في البلاد بالرغم من كل ما يتعرضان له، ولا بد لأحدهما من كسر الآخر قبل الانتخابات وليس خلالها لا سيما ان الاعتماد على تيار حزبي كبير بات فائق الصعوبة في صفوف اليمين التقليدي نظرا لانقساماته، كما ان الاعتماد على اليسار فقط لن يكون كافيا لإنجاح جوسبان، فهو بحاجة الى أصوات أخرى. (صحيفة السفير)

&